د. وسام الدين محمد
3- السريان
في القرن الرابع
والعشرين قبل الميلاد، نزل وادي نهر بردى في سوريا جماعة من المهاجرين الساميين،
وقد عرف هؤلاء تاريخيًا باسم الآراميين، وعرفت اللغة التي يتكلموها، وكانت لغة
سامية، باسم اللغة الآرامية. وعلى الرغم أن تأثير الآراميين السياسي والحربي في
تاريخ المنطقة لم يكن كبيرًا، إلا أن تأثيرهم الثقافي كان هائل، فقد انتشرت لغتهم
بداية في سوريا، ومنها انتشرت إلى العراق وإيران وآسيا الصغرى وأرمينيا، وبحلول
القرن الخامس قبل الميلاد تبنى الأخمينيون، حكام إيران، اللغة الآرامية لغة رسمية
في دوائر حكوماتهم، وعندما حل السلوقيون خلفاء الإسكندر محل الأخمينيين في حكم هذه
البقاع، فشلوا في إحلال لغتهم اليونانية محل الآرامية في الشارع وفي الدوائر
الحكومية، فكان أقصى نجاح لليونانية أن وجدت مكانًا إلى جانب الآرامية عند النخب
والمثقفين. ويفترض الكثير من المؤرخين، أن المسيح كان يتحدث الآرامية، ولكن الثابت
أن الكثير ممن أتبعه كانوا من المجتمعات التي تتكلم الآرامية في فلسطين، كما أن
هناك الكثير من كتبهم المقدسة قد دون بهذه اللغة، وقد عرفت هذه اللغة منذ تلك
الفترة بالاسم ا لذي نعرفها به اليوم، اللغة السريانية.
في القرن الرابع
الميلادي، رفضتا كنيسة أنطاكيا اليعقوبية والكنيسة النسطورية في العراق العقائد
التي أقرها مجمع خلقيدونه المجتمع عام 451م، وقررتا الاستقلال عن الكنيسة المعترف
بها من قبل الدولة البيزنطية، والتي أسميت بالكنيسة الملكانية، ومن مظاهر هذا
الاستقلال أن اتخذتا الكنيستان اللغة السريانية، لغة للشعائر الدينية والصلوات،
محل اللغة اليونانية المستخدمة في الكنائس التي أقرت عقائد مجمع خلقيدونه، وجر هذا
الاستقلال على أتباع الكنيستين عداء الدولة البيزنطية، فاكتسبتا في المقابل عطف
الدولة الساسانية خصيمة بيزنطة، وبينما كان الساسانيون يضطهدون أتباع ماني ومزدك
باعتبارهم قد كفروا بتعاليم زرادشت التي تبتها الدولة الساسانية، بسط هؤلاء
حمايتهم على أتباع الكنائس المتمردة مكايدة في الدولة البيزنطية.
وهكذا، وبينما كانتا
الإمبراطوريتان الفارسية والبيزنطية تتصارعان، كان هناك كيان ثقافي هائل، لحمته
اللغة السريانية بلهجات متنوعة، وسداته المسيحية بفرقها المختلفة، يمتد ويحيا فوق
مساحة واسعة من آسيا، من سواحل المتوسط لدى أنطاكيا، وإلى سواحل بحر قزوين في قلب
آسيا، ومن الحيرة جنوب العراق، إلى الرها في الجزيرة الفراتية.
لعب هذا الكيان دورًا
عظيمًا في الربط بين ثقافات الشرق الأوسط القديمة وثقافة البحر المتوسط والثقافات
الآسيوية في إيران والهند، واستخدمت اللغة السريانية في المكاتبات الرسمية وفي
آداب شعوب المنطقة في هذه الفترة، حتى حلت محل كثير من اللغات المحلية.
ظهرت في حواضر العالم السرياني
مراكز ثقافية مختلفة، تميز من بينها على وجه الخصوص مدينة كُندِسابور، وهي مدينة
نشئها عاهل الساسانيين سابور الأول في القرن الثالث من الميلاد، ومنذ نهايات القرن
الخامس الميلادي، أصحبت كُندِسابور ملجأ للفارين من الإمبراطورية البيزنطية، فلجأ
إليها عدد من علماء النصارى النساطرة الذين أخرجهم الإمبراطور البيزنطي زينو من
موطنهم في الرُها، ثم لحق بهم في ثلاثينات القرن السادس الميلادي الفلاسفة الذين
أخرجهم جسيتنيان من آثينا، ولنا أن نظن أن المدينة والتي كانت محل رعاية كسرى
أنوشروان، أعظم ملوك الساسانيين، كانت تجذب إليها لا اللاجئين فحسب، ولكن
الموهوبين والطموحين من أنحاء العالم المعروف يومئذ، فشهدت حركة ثقافية نشطة، توجت
بإنشاء أنوشروان مدرسة طبية وألحق بها مستشفى، ووضعها تحت رعايته الشخصية، وفي
مكتبتها إجتمعت مؤلفات اليونان التي جلبها الفارين من الإمبراطورية البيزنطية، بالمؤلفات
التي ألفها الفرس أو استوردها أنوشروان من الهند، حيث ترجمت الكثير من هذه الكتب
إلى اللغة السريانية والتي كانت لغة الدراسة الأساسية في هذه المدرسة إلى جانب
اليونانية، وقد ترجمت إلى جانب الكتب الطبية الكثير من الكتب الفلسفية اليونانية
والهندية.
إلى جانب كُندِسابور
كانت هناك مراكز ثقافية أخرى في العالم السرياني، وإن غلبت عليها الدراسات
اللاهوتية، منها أنطاكيا التي كانت كرسي الكنيسة اليعقوبية، ومنها دير قنسرين
بالقرب من بلدة جرابلس من بلدات حلب، وكان يُدرس فيها اللاهوت والفلسفة والعلوم
الطبيعية والرياضية واللغتين السريانية واليونانية، وقد بقي مزدهرًا إلى القرن
التاسع الميلادي. ومن هذه المراكز رأس العين، وتقع شمال الحسكة في سوريا اليوم،
والتي وإن كنا لا نعرف تاريخ مدرستها تفصيلًا، إلى من نُسبَ إليها من العلماء
المشاهير ما يشير إلى طبيعة الدراسة في أروقتها، فمنهم سرجيس الرأس عيني وكان
طبيبًا ذائع الصيت وأشتهر بترجماته للموسوعات الطبية السكندرية وكتب جالينوس
الطبية ومنطق أرسطو وإيساغوجي فرفوريوس الصوري.
بعد نحو نصف قرن من
وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، حاز الإسلام معظم أرجاء العالم السرياني، وقد
تمتع السريان في العالم الإسلامي عامة بوضع ممتاز، في منطقة سوريا بالذات شملهم
الإعفاء من الجزية الذي خص به الفاروق عمر نصارى الشام الذين ساندوا المسلمين في
حربهم ضد الروم البيزنطيين، وباعتبارهم من أهل الكتاب، ضمنت حريتهم الدينية من قبل
السلطات الإسلامية، وحميت كنائسهم وأديرتهم ومؤسستهم الدينية، ولم تتدخل السلطات
في شئونهم الخاصة. وفي المقابل لم ينعزل السريان عن المسلمين، فاندمجوا معهم بفضل
فضائلهم الثقافية، فيصفهم الجاحظ قائلًا «وإن منهم كتّاب السلاطين وفرّاشي الملوك
وأطباء الأشراف والعطّارين والصيارفة» ، وكاد الطب أن يكون حكرًا عليهم، والمسلم
يثق بالطبيب السرياني أكثر مما يثق بالمسلم نفسه، ويروي الجاحظ على لسان طبيب
العربي المسلم أسد بن جاني عبارة تبين رأي المسلمين في الأطباء وتفضيلهم السريان
منهم «فإني عندهم مسلم، وقد اعتقد القوم قبل أن أتطبّب، لا بل قبل أن أخلق، إن المسلمين
لا يفلحون في الطب ... ولفظي لفظ عربيّ وكان ينبغي أن تكون لغة أهل جندي سابور» ،
والجاحظ صاحب هذه السطور عاش بين القرنين الثاني والثالث الهجري، وقد بهتت الحضارة
السريانية.
ترجم السريان كثير من
التراث اليوناني إلى لغتهم، كما ترجموا أيضًا عن اللغة الفارسية الفهلوية، وكانوا
أوفياء للنص الأصلي عند ترجمة الكتب الطبية والرياضية، ولكن ترجماتهم لكتب الفلسفة
قد شابها أوجه مختلفة من القصور؛ بعض هذا القصور كان عن غير عمد، فالفلسفة ظهرت في
وقت لم تكن اللغة اليونانية قد استكملت نضجها بعد، وكانت كثير من النصوص المكتوبة
في زمان أفلاطون وأرسطو، يفهما الناطقين باليونانية في إسكندرية هيباتيا بشق
الأنفس، وربما تأولوا المعنى الذي قصدها كاتبها فأصابوا وأخطئوا؛ ثم نقل السريان
الكتب اليونانية في طبعتها الأخيرة، فراحوا ينقلون من اليونانية إلى السريانية،
وشتان بين اللغات السامية واللغات الآرية، وموضوع النقل الأفكار المجردة، فكان من
المعقول أن تبتعد الترجمات عن النصوص الأصلية، وإن أجتهد المترجم في التماس الدقة؛
ولكن هذا القصور غير المتعمد والخارج عن أرادة المترجم، توازى معه تقصير متعمد
ومقصود ومسبب، فقد انزعج بعض المترجمين السريان المتدينين من أن ينطق بالحكمة
أشخاص عرفوهم بأنهم وثنيين مثل أفلاطون، فراحوا ينسبون ما شاءوا لمن شاءوا،
فاستبدلوا الفلاسفة اليونان مثل أفلاطون وأرسطو بشخصيات دينية مسيحية مثل بولس
وبطرس، وذهب بعضهم إلى اختراع أفلاطون مسيحي، فهو عندهم راهب أعتزل الناس في صومعة
في الصحراء يتعبد ويتأمل فيها إلى أن أهتدى إلى المسيحية .
وقد مثل الترجمات
السريانية أحد القنوات الرئيسة التي تعرف المسلمون من خلالها على الفلسفة
اليونانية بالذات، ولكن تأثير السريان في نشأة الفلسفة الإسلامية تعدى مجرد نقل
التراث الفلسفي اليوناني للمسلمين، فمن المسلمين من طلب دراسة الفلسفة صراحة لدى
من يعرفها من السريان، ويؤثر أن أحد كبار الشخصيات الدينية السريانية واسمه يعقوب
الرهاوي، وقد عاش إلى نهايات القرن الأول الهجري، أنه سمح للسريان بأن يعلموا
الفلسفة اليونانية لمن أراد من المسلمين ، وهو ما يعني أن هناك من المسلمين من كان
يطلب دراسة الفلسفة في هذه الفترة المبكرة من تاريخ الإسلام.
الصور الملحقة:
صورة تزين نسخة من
كتاب مقامات الحريري، يظهر في مركزها طبيب يعالج مريضًا مستخدمًا تقنية كؤوس
الهواء التقليدية، بينما يقف المرضى في صف حول العيادة في انتظار الدخول إلى
الطبيب.
يتبع
0 تعليقات