آخر الأخبار

مصر واليونان

 






علي الحفناوى

 

في 20 أكتوبر 1827، أي منذ 195 عاماً، دارت آخر أكبر معركة بحرية في عصر السفن الشراعية، معركة كان يقودها الأسطول المصرى، بمعاونة بعض وحدات من الأسطول العثماني وبعض وحدات انضمت له قادمة من تونس، من جانب، وكان الجانب الآخر مكون من أسطول كل من إنجلترا وفرنسا وروسيا... إنها معركة نفارين الشهيرة على ضفاف اليونان بمدخل شبه جزيرة "البيلوبونيس" المقابلة للعاصمة أتينا.

 

فلنتسائل: ماذا كان يفعل الأسطول المصري في اليونان؟ ولماذا اشتبك مع أساطيل ثلاث أكبر دول في ذلك الوقت؟ وماذا كانت النتيجة؟
بعد الغزو السلجوقي ثم العثماني على أراضى الإمبراطورية البيزنطية (الأرثوذوكسية) في القرن الثانى عشر، ظلت الجزر اليونانية – أي اليونان الحالية – مستقلة إلى أن وقعت تحت الاحتلال العثماني خلال القرن الرابع عشر والخامس عشر. وظلت اليونان أراضى عثمانية "مسلمة" طوال ثلاث قرون إلى أن بدأت تنتفض مطالبة باستقلالها عام 1821... بل قام اليونانيون بإعلان استقلالهم قبل تحرير أراضيهم في يناير 1822.

 

لجأ السلطان العثماني محمود الثاني إلى طلب دعم عسكري من والى مصر محمد على للسيطرة على الانتفاضة اليونانية... قام محمد على عام 1824 بإرسال قوات عسكرية مصرية تحت قيادة إبراهيم باشا، كان قوامها في البداية 8000 جندي ثم أضيف لهم 25000 من الجنود... وكان تدخل الجيش المصري حاسم في إخماد الثورة اليونانية وعودة السيطرة على كل أراضى اليونان، بما فيهم أتينا التي دخلها إبراهيم باشا منتصرا في 1827... (للتذكرة: ولد وترعرع محمد على في اليونان بمدينة قولا وكذلك ابنه بالتبني إبراهيم باشا).


في حين لم يكن ميترنيخ، إمبراطور النمسا، متحمسا لمساندة ثورة الاستقلال اليونانية لاتخاذها شعارات تميل للفكر الليبرالي، إلا أن روسيا رأت في دعم هذه الثورة فرصة لمحاولة السيطرة على مضيق

البوسفور وبسط نفوذها جنوبا بإدعاء مساندتها للمذهب الأورثوذوكسى...

 

أما فرنسا، فكان موقفها غير عقلانيا، فبالرغم من مساندتها للاتجاه غير الليبرالي في أسبانيا، إلا أنها فضلت الوقوف بجانب اليونانيين لكونهم مسيحيين يحاربون المسلمين. وقد اعتبر مفكروا فرنسا هذا الموقف نابعا من بقايا فلسفة الحروب الصليبية المترسخ في أذهان القادة الفرنسيين... أما إنجلترا، فلم يكن يشغلها سوى السيطرة على شرق البحر المتوسط لحماية طريق الهند، خاصة وقد بدأت بعض الدراسات تمهد لفكرة شق قناة السويس في مصر.

 

كان قادة وضباط الأساطيل الغربية المتواجدين قرب اليونان متحمسين لمساندة ثورة التحرير في اليونان، بالرغم من ادعاءات الحياد التي أشاعتها حكومات بلادهم... وفى شهر يوليو 1827، وبعد تراجع حركة الثوار في اليونان أمام سيطرة قوات إبراهيم باشا على ربوع البلاد، تم توقيع اتفاقية لندن التي ضمت تهديدا غير مباشرا من الدول الثلاث الكبرى موجها للسلطان العثماني، وإنذارا بالاعتراف باستقلال اليونان لو لم تتوقف المعارك التي يخوضها المصريون في اليونان... وقد شملت الاتفاقية بندا سريا – تم الكشف عنه لاحقا – يقضى بتدخل الدول الثلاث للحيلولة بين القوات المتحاربة في اليونان.
وافقت الحكومة اليونانية على الإنذار يوم 2 سبتمبر في حين رفض السلطان العثماني الإنذار، معتمدا على حجم الأسطول المصري والعثماني في البحر المتوسط في مواجهة أساطيل فرنسا وانجلترا الأقل عددا.

 

في إطار الحرب النفسية، أشاع الانجليز بين اليونانيين أن خطة إبراهيم باشا فيما يخص اليونان هي تهجير جميع اليونانيين إلى مصر كعبيد، واستبدالهم في اليونان بمصريين مسلمين... فكان لتلك الإشاعات تأثيرا على اشتداد حركة المقاومة اليونانية.

 

بعد توقيع اتفاقية لندن، حاولت إنجلترا وفرنسا تحييد محمد على وإقناعه بعدم مساندة السلطان العثماني. ومن أجل ذلك، زاره في الإسكندرية سفراء الدولتين بعد أن علموا بإرسال محمد على أسطوله الاضافى (90 سفينة) بقيادة محرم بك لدعم الأسطول المصري وقوات الجيش المصري تحت قيادة إبراهيم باشا في اليونان... إلا أن محمد على لم يستجب قائلا أن ذلك يعنى قطع كل صلته بالسلطان العثماني، ولم يكن مستعدا لذلك حتى ذلك التاريخ.

 

حاولت بعض السفن اليونانية إشعال الموقف لوضع الأسطول المصري العثماني تحت نيران سفن إنجلترا وفرنسا، فحدثت عدة اشتباكات طوال شهر سبتمبر وتأزم الموقف قبل وقوع أي تدخل من الأساطيل الغربية. وفى 10 أكتوبر، انضم الأسطول الروسي إلى أسطول إنجلترا وفرنسا لمحاصرة إبراهيم باشا وأسطوله العثماني المصري في خليج نفارين.

 

قرر إبراهيم باشا وضع أسطوله المكون من 90 سفينة حربية من مختلف الأحجام داخل الخليج في وضع حدوة الحصان لإفزاع الأساطيل المعتدية الأقل عددا، مع السيطرة الأرضية بالمدفعية من أعلى هضاب الخليج يمين ويسار المدخل. وبذلك، تمثلت القوة العسكرية المصرية في أكثر من 3500 مدفعا ونحو 30 ألف بحار عسكرى، وقاد الأسطول العثماني سفينة "جوهو رايا" المجهزة بعدد 74 مدفعا، والأسطول المصرى سفينة "مرشد الجهاد" المجهزة بعدد 60 مدفعا بقيادة محرم بك.

 

من المفارقات الطريفة، أن الأسطول المصري كان به بعض المستشارين الفرنسيين ممن ساهموا في إنشاء الأسطول، فوجه إليهم الأميرال الفرنسي "رينيي" إخطارا للابتعاد عن سفن المعركة حتى لا يتم إصابتهم، فتركوا سفنهم بمساعدة سفينة إنزال نمساوية، إلا أحد الفرنسيين القبطان "لوتولييه"، ظل على ظهر سفينة أمير البحار مع محرم بك إلى لحظة اندلاع المعركة يوم 20 أكتوبر، فقام بمعاونة محرم بك فى اللجوء لليابسة عندما أصيبت سفينته.

 

لم يكن في نية إبراهيم باشا أو أي قائد عثمانى بدء المعركة. وقد كان اعتقادهم أن عدد ووضع السفن داخل الخليج سيمنع أي سفينة معادية من الدخول إلى الخليج خوفا من حجم الأسطول المستعد للمعركة... إلا أن قرر القادة تطبيق خطة دخول الخليج، فدخلوا بدون إطلاق نيران قبل غروب يوم 20 أكتوبر 1827، حيث دخلت السفن البريطانية والفرنسية والروسية للخليج، واتخذت مواقع داخل حدوة الحصان، وأنزلت الأشرعة وأسقطت هلب سفنها، وتصور الجميع بدء جولة مفاوضات بين الجانبين... ولكن حدث ما لم يكن في الحسبان، حيث أطلقت إحدى السفن الصغيرة في مدخل الخليج، يعتقد أنها من السفن التونسية، طلقة مدفع دفاعية، عندما تصور قائدها أن السفينة التي أمامه توجه إليه مدافعها لتفجره...

 

انطلقت المدافع من كل الاتجاهات، وكان قرب السفن من بعضها عاملا على زيادة الفوضى.. تصاعدت الأدخنة وسقطت السوارى والأشرعة وقتل من قتل من الجانبين لمدة أربع ساعات كاملة... انقضى الليل ببعض الحوادث المتفرقة دون أهمية، ومع شروق شمس اليوم التالي، اتضحت حجم الخسائر الضخم في الأسطول المصري والعثماني، والمحدودة في سفن الأساطيل الأخرى. حيث لم تكن الغلبة للعدد، إنما لقوة المدفعية وصلابة السفن وحسن إدارتها أثناء المعركة.

 

وفى مساء 25 أكتوبر، ذهب إبراهيم باشا للقاء القادة الانجليز والفرنسيين، وقد تقبل توجيههم بإجلاء ما تبقى من أسطوله إلى مصر، ولكنه رفض الجلاء من الأراضي اليونانية. وفى يوم 25 أكتوبر انسحب الأسطول البريطاني والروسي والفرنسي من خليج نفارين، أما باقى الأسطول المصري، فقد غادر إلى الإسكندرية في بداية شهر ديسمبر، تاركا إبراهيم باشا بجيشه على الأراضي اليونانية، ولم ينسحب منها إلا في 9 سبتمبر من العام التالي، بناء على اتفاق تم توقيعه بين محمد على وبريطانيا في 28 أغسطس لإجلاء القوات المصرية.

 

من 40 ألف فرد من الجيش المصرى في اليونان، عاد إلى مصر 21 ألف فقط بعد مقتل جزء كبير منهم في معركة نفارين البحرية يوم 20 أكتوبر 1827... فماذا جنت مصر؟

 

أما اليونان، فقد نالت اعتراف الدول الكبرى باستقلالها عام 1830.

 

 

 

إرسال تعليق

0 تعليقات