آخر الأخبار

كيف يكون عالمنا لو لم يولد غياث الدين الكاشي؟

  


 

 

د. وسام الدين محمد

 

يكاد يكون عالم الرياضيات المسلم غياث الدين جمشيد الكاشي شخصية منسية في التاريخ الإسلامي، على الرغم أن أعمال هذا الرجل ساهمت في تغيير وجه التاريخ كله. لا نعرف متى ولد على وجه اليقين، والأرجح أنه ولد نحو عام 781هـ/1380م في نواحي مدينة كاشان – في إيران اليوم – وحمل عند مولده اسم جمشيد، وكذلك لا نعرف الكثير عن نشأته، ولكننا نعرف أن والده مسعود بن محمود كان حاسبًا، أي بمصطلح عصره عالم رياضيات وفلك، وقد ورث جمشيد علم والده، وربما فاقه، ففي العشرينات من عمره، استقدمه القائم على مرصد المراغة – أكبر مرصد واكاديمية للعلوم الفلكية في العالم حتى زمانه - الحقه بعلماء المرصد، حيث اشتهر بينهم بعدما نجح في توقع كسوف الشمس وحساب وقته وقوعه ومدة الكسوف قبل الحدث بسنوات ثلاث. لكن مصير الكاشي قد تحدد عندما استدعاه أولوغ بك، السلطان وعالم الرياضيات والفلك، إلى مرصده الذي انشأه في سمرقند، ليلحق به الكاشي في حدود عام 812هـ، وتحت رعاية السلطان أولوغ بك، أزهرت قريحة الكاشي أعظم الابتكارات الرياضية، في البداية عمل على استكمال نموذج رياضي لوصف حركة الكواكب حول الأرض، كان قد بدأ في تطويره أثناء عمله في مرصد المراغة، وحمله ذلك على إعادة النظر في حساب المثلثات الموروث عن اليونان، ومن ثم أعاد تأسيس هذا العلم الهام، وقد استدعاه ذلك للنظر في الثابت الرياضي المشهور (ط أو Pi) – النسبة بين مساحة الدائرة ومربع نصف قطره – فأبتكر الكسور العشرية بعدما ظلت البشرية منذ عصر البابليين تعتمد على الكسور الاعتيادية، ليستطيع الكاشي باستخدام الكسور العشرية التي ابتكرها أن يقوم بحساب قيمة (ط) مقربة بدقة ستة أرقام بعد الفاصل العشرية، وهي القيمة التي ظل معمول بها في أوروبا إلى القرن السابع عشر، أما أعظم إنجازات الرجل فهو اختراعه لما أسماه لوحة الاقتران، وهو عبارة عن أول آلة حاسبة ميكانيكية في التاريخ، قادرة على الحساب باستخدام الأرقام الكسرية – الأرقام الحقيقية مثل 1.5 و 2.7 – بل وقادرة على حساب جيب وجيب تمام الزاوية، وحتى نستطيع أن نفهم قدر هذا الإنجاز، يجب أن نعرف أن أول ألة الفروق التي اخترعها تشارلز باباج في القرن التاسع عشر – والتي يعتبرها مؤرخ العلم الأوروبي أول حاسوب في التاريخ – كانت قادرة على إجراء العلميات الحسابية على الأعداد الصحيحة، أي الأعداد الغير كسرية، مثل 1 و5 و12... إلخ. ثم أتبع الكاشي اختراعه هذا باختراع آخر، وهو عبارة عن نموذج ميكانيكي للمجموعة الشمسية، أسماه طبق المناطق، حيث تقع الشمس في مركز المجموعة الشمسية، وتدور حولها الكواكب ومن بينها الأرض في مدارات بيضاوية، على عكس نموذج بطليموس حيث الأرض مركز العالم والشمس تدور حولها في مدارات دائرية، النموذج الذي ظل سائد في أوروبا حتى نهاية القرن السادس عشر الميلادي، وكانت آلة طبق المناطق هذه قادرة على حساب مواضع الكواكب في أفلاكها، وأوقات الكسوف والخسوف، وقد ظل هذا النموذج موجودًا في أحد قاعات المدرسة الملحقة بمرصد أولوغ بك، وقد شاهده أحد الرحالة الأوروبيين زار سمرقند مطلع القرن السادس عشر من الميلاد، ولكنه فقد بعد هذا التاريخ. ظل الكاشي مديرًا لمرصد سمرقند، ويعيش في رعاية السلطان أولوغ بك إلى أن توفي عام 823هـ/1429م.

 

لا يعرف على وجه الدقة كيف عرف الغربيين الكاشي ومؤلفاته، ولكن إدوارد كينيدي، مؤرخ الرياضيات الأمريكي، يشير إلى أن من تجار فينيسيا من جلب إلى مدينته في نهايات القرن الخامس عشر، عدد من رسائل الكاشي المكتوبة بالعربية والفارسية، كما أن رسالة الكاشي المسماة (سلم السماء)، والتي تناول الكاشي فيها نموذجه الرياضي الذي وصف فيه المجموعة الشمسية كانت معروفة عند الفلكي البولندي كوبرنيكوس الذي يعزو الغرب له وضع نموذج النظام الشمسي الذي تدور فيه الكواكب حول الشمس لا الأرض، أما المستشرق الفرنسي دي فو فقد أكد على أن سيمون ستيفن، عالم الرياضيات الهولندي الذي ينسب له الغرب اكتشاف الكسور العشرية، قد اطلع على أعمال الكاشي، وتحديدًا كتابه المسمى (مفتاح الحساب) الذي وصف فيه الكاشي نظام الكسور العشرية.

 

كان حري بالكاشي أن يشغل في تاريخ العلوم مكانة تعلو على مكانة نيوتن وألبرت آينشتاين، لولا أن الغرب من يكتب تاريخ العلم، والمشرق في سبات لا يضطرب.

 

 

إرسال تعليق

0 تعليقات