منذ بضع أيام، مرر لي
صديق، منشور لأحدهم موجزه أن اللغة العربية لغة مثل كل اللغات، وأي محاولة
لتمييزها عما دونها من اللغات هو درب من دروب الحماقة ... بداية أعدت صياغة المنشور
باللغة العربية حتى يفهم أصدقائي في القاهرة والبصرة وطنجة وأم درمان بدلًا من
العامية الدارجة التي استخدمها صاحب المنشور والتي لا يفهمها غير المتكلمين بها من
جيران صاحب المنشور.
تفكرت في المنشور
قليلًا، فاكتشفت أن زعم كاتبه يفتقر للمنطق، فالحكم الذي يخلص إليه وهو أن اللغة
العربية واللغات الأخرى متساوية، يستلزم أن يكون صاحبنا قارن بين العربية وبين
جميع اللغات الأخرى، وأن يكون ملمًا بها كلها، الأمر الذي يستحيل على الألسني
المتخصص، أي أن صاحبنا ابتداء (يهبد)، ومن ثم يستخدم تقنية الهجوم الوقائي متهمًا
كل من سوف يرفض رأيه المبني على التدليس بأنه أحمق.
هل العربية تتساوى
مع جميع اللغات؟
لست ألسنيًا متخصصًا
ولست عالمًا بجميع اللغات ... ولكن سوف أقارن بين العربية لغتي ولغة قومي، واللغة
الإنجليزية والتي أزعم أنني أجيدها لدرجة ما، وهذه المقارنة بناء على تجربة شخصية،
إذا كان على زميل أمريكي أن يعبر عن كراهيته نحو شخص ما، فاستخدم مرة العبارة I hate him ومرة أخرى I
hate your guts،
الأولى بمعنى أكرهك، والثانية بمعنى أكرهك من الصميم – أو هكذا ترجمتها فحرفيًا
العبارة تعني أكره أمعائك. في المرة الأولى عبر صاحبنا الأمريكي عن كراهيته
البسيطة للمخاطب، ولكنه عندما أراد أن يعبر عن حالته النفسية التي تطفح بالكراهية
الشديدة لمخاطبة، أضطر أن ينشأ تعبير مركب figurative expression - كما يسمونه في الإنجليزية - من فعل الكراهية hate واسم شبه
figure هو guts ليعبر عن
ذلك.
في العربية، هناك عدة
أفعال تعبر عن الكراهية، مثلًا (كَرُهَ)، و(مَقَتَ)، و(بَغَضَ)، وعلى الرغم أن
الأفعال الثلاثة المذكورة تعبر كلها عن الكراهية، إلا أنها في الواقع تختلف في
الحالة النفسية التي تعكسها وتؤديها للمتلقي، فالفعل كره هو أول أفعال الكراهية من
مبادرة للنفور ورفض للأمر المكروه، ومنه قول الله تعالى « وَلَٰكِنَّ اللَّهَ
حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ
الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ»، فكأن فعل (كره) هو نقيض فعل (حب) مباشرة
وفي وزنه؛ أما فعل بغض، فهو يعبر عن الكراهية إذا استوطنت القلب وحالت بينه وبين
أي حب، ومن ذلك قول رسول الله، صلى الله عليه وسلم، في الأنصار «لا يبغضهم إلا
منافق»، ومعلوم أن المنافق يخفي كراهيته في قلبه.
أما (مقت) فهو مرحلة
الكراهية الأبعد من البغض، وفي ذلك قال ابن سيده «المقت أشد البغض".
فكأن لدينا طيفًا من
الأفعال التي تعبر عن الحالة النفسية لمن يستخدمها، تبدأ بالكره الذي هو ضد الحب،
ثم البغض الذي هو الكره يحيط بالقلب ويمنعه من الحب، وأخيرًا المقت وهو أبعد درجات
الكره .... وفي هذا لم أتحر كامل الأفعال التي تعبر عن الكراهية في اللغة العربية.
فإذا غادرنا الأفعال
إلى الأسماء كانت دهشتنا أكبر. فالاسم في العربية يشير إلى المسمى في حال دقيق،
فالتراب إذا كان على وجه الأرض سمي صعيدًا، فإذا رطبه الندى ولم يستحيل طينًا سمي
الثرى، فإذا حملته الرياح كان اسمه المور، فإذا طرحته الرياح على جلود الناس
وثيابهم كان اسمه هباء. فهذه الأسماء كلها تشير إلى التراب، ولكنه في كل حال له
اسم يميز هذه الحال.
وهذه الأمثلة على
بساطتها، تبين لنا مدى دقة اللغة العربية في التعبير، وهي دقة أزعم أن الإنجليزية
على الأقل تفتقر لها، وهذه الدقة نرى اليوم من هجرها، وأصبح يستخدم العبارات
المركبة كما في اللغة الإنجليزية، فيقول (أنا أكرهك) و(أنا أكرهك جدًا)، ولو قال (أنا
أبغضك) أو (أمقتك) لوفى ولكنه عجز اللسان، وقبله عجز العقل والإرادة، وفي هذا لا
أعتبر هؤلاء المعاتيه الذين يريدون أن يستبدلوا العربية باللهجات المحلية، وكل
منهم يكتب بعامية درب شكبمه، التي لا يكاد أهل الدرب يجمعون عليها، ثم هو يتبجح
مرة بتطوير اللغة وأخرى بمخاطبة الناس بلسانهم ... ومن باب أولى أن أسقط من
الحسبان هؤلاء الذي يزعمون أن بوسعهم إحياء لغة ماتت بعدما فشلت في مواكبة تحديات
زمانها، لا لشيء إلا لعجز أصحاب هذه الدعوى عن التفكير المنطقي ابتداء، ورغبتهم في
الظهور بتبني كل قول شاذ.
وختامًا، فهذا ليس
دفاع عن العربية. ومن أنا حتى أدافع عن هذا اللسان الشريف. ولكنها شهادة أردت بها
وجه الحق تعالى.
د. وسام الدين محمد
الثاني من جمادى
الآخر 1444/26 ديسمبر 2022.
0 تعليقات