آخر الأخبار

عنترة وجهنم وقضية الانتحال في الشعر الجاهلي

 






منذ بضع أيام نشرت في هذا الموضع أبيات لعنترة بن شداد جاء فيها:

 

"ماء الحياة بذلة كجهنم، وجهنم بالعز أطيب منزل"

 

فأثار هذا البيت فكر أكثر من صديق ودعاه أن يسأل هل عرف عنترة جهنم قبل الإسلام؟ ودعاني تكرار السؤال إلى إثبات رأي الشخصي، والذي هو يقيني في هذه المسألة.

 

أولًا، كانت قبائل العرب العدنانية تصل نسبها بنبي الله إسماعيل، فكيف يتصور ألا يكونوا على علم بتعاليمه، وتعاليم والده خليل الرحمن إبراهيم، حتى وإن كان إحاطتهم بها نالها التحريف والتشويه، ومثال ذلك أنهم عرفوا الملائكة، ولكنهم جعلوا الملائكة إناث، وزعموا أن الملائكة بنات الله– تعالى عما يصفون – وفي ذلك يقول الله تعالى «فَاسْتَفْتِهِمُ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ» (سورة الصافات). فمعرفتهم إذا بجهنم لفظًا ومعنى ممكنة.

 

ثانيًا، لنفرض أن العرب العدنانية لم يبلغها أي شيء من تعاليم إسماعيل وإبراهيم، فماذا عن أهل الكتاب من اليهود والنصارى الذين كانوا يعيشون بين ظهراني العرب، هل نفترض أيضًا أن أهل الكتاب عاشوا بعزلة كاملة منعت العرب المشركين من الاطلاع على تعاليمهم وما فيها من إشارات إلى الجنة والنار؟! إن عزلة مثل هذه غير ممكنة في بيئة شحيحة الموارد تفرض على سكانها التفاعل المستمر. ثم ألم تكن العرب عامة، وقريش خاصة، أهل تجارة يردون الشام واليمن ويتصلون بالحبشة، وكلها بلاد كان ينتشر فيها أهل الكتاب، أيعقل أن يمر العرب بتلك البلاد دون أن يعرفوا بعض الشيء عن دين سكانها؟!

ثالثًا، كلمة جهنم نفسها استخدمت في لغات العرب قبل الجاهلية بمعنى الحفرة عميقة القرار، وفي حرات الحجاز – والحرة فوهة بركان تاريخي خامد – توجد حفر عدة كانت توصف بأنها حفر جهنم، منها بئر جهنم في نواحي صنعاء والذي يقال إنه قديمًا كان يظهر في قاعه نيران مشتعلة، وهو موجود إلى اليوم، وربما عرف باسم برهوت، وهي تركيب من كلمتين ساميتين، بر أي بئر، وهوت بمعنى هاوية، أي بئر الهاوية.

 

رابعًا، كلمة جهنم لها مقابلات في اللغات السامية تقترب منها نطقًا ومعنى، من ذلك جيهنوم في العبرية، وجاهانام في الآرامية، مما يعني أن الكلمة سامية الأصل، وبالتالي أصيلة في العربية أصالتها في اللغات السامية الأخرى.

 

ختامًا، أخلص من هذا الأدلة الموضوعية إلى يقيني بأن كلمة جهنم بمعناها الذي استخدمه عنترة قد عرفها أهل الجاهلية، أما الرأي القائل بأن هذا البيت ومثله نحل بعد الإسلام، فرأي يستند على رواية نقلها البعض مفادها أن بعض رواة الشعر وعلى رأسهم حماد الرواية وخلف الأحمر كانوا ينظمون القصائد ثم ينحلونها للجاهليين، وهذا رأي مردود عليه من أكثر من وجه، فالقبائل كانت تحفظ أشعار شعرائها الكبار وتتناقلها ولا يتصور أن يأتي أحدهم بقصيدة ينسبها إلى عنترة دون أن يعترض واحد من عبس قبيلة عنترة، وماذا لو كانت القصيدة فيها فخر بقبيلة الشاعر أو هجو لقبيلة أخرى، أكان هذا الأمر يمر مرور الكرام بين قوم الفخر بالمكارم هوسهم؟؟ ثم لماذا يضع حماد أو خلف القصيدة ثم ينحلها إلى غيره، وقد عاشا في زمن سوق الشعر فيها رائجة، والشعر طريق إلى حاشية السلطان ورضاه وجوائزه؟! أليس هذا كله يجعل قصة النحل بأكملها موضوع شك؟؟؟؟

 

د. وسام الدين محمد

 

الرابع من جمادى الآخر 1444/ 28 ديسمبر 2022

 

إرسال تعليق

0 تعليقات