د. وسام الدين محمد
الإمبريالية الجديدة
تأليف ديفيد هارفى وهو عالم جغرافي وأنثروبولوجي بريطاني الأصل، يعمل حاليًا
استاذًا في (جامعة نيويورك)، وقد عمل سابقًا استاذً في جامعات مرموقة مثل (جامعة
جون هوبكنز) و(جامعة أوكسفورد)، ولكن ما يميز (هارفي) ليس مسيرته الأكاديمية
وأعماله العلمية بقدر ما هو انحيازه المبدئي للحق الذي يعتقد، وهو ما يجعله في
نظري نموذج للمثقف الملتزم والمستقل، في مواجهة نموذج المثقف العضوي المُستخدَم
الشائع بين الأكاديميين حول العالم؛ تأثر (هارفي) بأعمال (ماركس) و(جرامشي) و(راذاكريشنا)
لذا تجد هناك من يعتبر (هارفي) يساري النزعة، وإن كان هو نفسه ينفي في كتابته أن
يكون فكره أن يبتغي الحق والعدل أيًا كان مصدره؛ كتابات (هارفي) يتردد صداها بين
هؤلاء المثقفين الشبان الغربيين عامة والأمريكيين بالذات، هؤلاء الذين يجدوا في
أنفسهم القدرة والجراءة على نقد المجتمع والثقافة والمؤسسات الأمريكية؛ لذا تجد
كتاباته موضوع للمناقشة في الحلقات المناهضة للفاشية والمناهضة للحرب والحركات
النقابية وحركات الاشتراكية الاجتماعية وما بعد الحداثة ونقد المركزية الغربية؛
ويهتم (هارفي) في كتاباته بتحليل الظاهرات الرأسمالية وأثاراها الاجتماعية
والثقافية، ومن أهم ما كتب في هذا الموضوع كتاب (العدالة الاجتماعية والمدينة) و(التجربة
الحضرية)؛ وبعض من كتاباته قد ترجمت للعربية وحازت على كثير من احترام وتقدير القارئ
العربي، ووجدت طريقها للحلقات الثقافية، وأهم هذه الكتب بالذات كتابه (الليبرالية
الجديدة: موجز تاريخي)، والذي قدم فيه تاريخ نقدي لنشأة وتطور الليبرالية الجديدة.
اليوم أقدم لكم كتاب (هارفي)
المسمى (الإمبريالية الجديدة) وعنوانه الأصلي في اللغة الإنجليزية (The New Imperialism)، وقد صدر الكتاب في طبعته الأصلية عام 2003، أما الترجمة العربية
التي أضعها بين أيديكم فقد صدرت عام 2004 عن مطبوعات (الحوار الثقافي) في (بيروت)،
وترجمها إلى اللغة العربية المترجم اللبناني (وليد شحادة(.
الكتاب في الأصل
مجموعة من ثلاثة محاضرات ألقاها (هارفي) في حلقة دورية تعقد في (جامعة أكسفورد) عنوانها
(محاضرات كلارندون)، وذلك في شهر فبراير عام 2003، أي في خضم الاستعدادات الغربية
للغزو المجرم للعراق؛ والموضوع الذي يبحثه (هارفي) في الكتاب والمحاضرات هو ذلك
العقد السري بين نخب المرابين/المصرفيين/الماليين من ناحية، ومن الناحية الأخرى
المؤسسة الحاكمة في الغرب بصورة عامة ومعتنقو الليبرالية الجديدة من النخب الحاكمة
بصورة خاصة، وكيف يقود هذا الحلف اليوم الغزو الهمجي وأهدافه ومن المنتفع منه؛ كان
(هارفي) يلقي هذه المحاضرات في الوقت الذي يتظاهر طلاب (جامعة أوكسفورد) مطالبين
بوقف هذه الحرب، وآخرين يتظاهرون لنفس الهدف في نواح مختلفة من (لندن) و(مدريد)؛
في الوقت نفسه الذي كان جنود صاحبة الجلالة فوق بوارج الأسطول البريطاني يتجهون
إلى العراق، ويسلح (المارينز) قاذفات الشبح بالقنابل الذكية.
الكتاب مكون من خمسة
فصول. الفصل الأول عنوانه (النفط أولًا وأخيرًا)، وفي هذا الفصل يتناول (هارفي) تاريخيًا
مسألة العراق، ابتداء من الحرب العراقية الإيرانية، ثم غزو الكويت، ثم حرب تحرير
الكويت، وصولًا للاستعداد لغزو العراق الجاري على قدم وساق، ويبين في عرضه
التاريخي للمسألة الدور الذي لعبته شركات البترول الأمريكية بالذات في تطور هذه
المسألة، وكيف كان التحكم في سوق النفط هو الهدف الرئيس من الحصار الذي فرض على
العراق، وليس أي سبب آخر، ثم كيف سوف تنتفع شركات النفط وحلفاءها من المصرفيين
والليبراليين الجدد من الغزو في تحقيق أهدافها؛ الفصل الثاني وعنوانه (كيف تعاظمت
قوة أمريكا)، يناقش فيه مفهوم القوة الأمريكية من حيث هي قوة اقتصادية وقوة عسكرية
في آن واحد، مبينًا كيف تكون حلف يربط ما بين المؤسسات الربوية والفاشية العسكرية
واليمين الإنجيلي، وكيف نجح هذا الثالوث في الاستيلاء السلمي على السلطة في
الولايات المتحدة ابتداء من عهد ريجان، وهو الأمر المستمر إلى اليوم كما أرى، وكيف
يستخدم هذا الثالوث تجارة الحرب حول العالم لنهب ثروات الأمم وتعزيز قدراته وخداع
الشعب الأمريكي بالمعارك الوهمية التي يخوضها الثالوث باسم هذا الشعب؛ الفصل الثالث
عنوانه (عبودية رأس المال) وفي هذا الفصل يفضح (هارفي) التطور الاقتصادي المزعوم
الذي حققته الليبرالية الجديدة، وكيف أن منافع هذا الإصلاح تذهب إلى النخب، بينما
يتحول المواطن العادي لما يشبه عبيد الأرض في عصور أوروبا المظلمة؛ ويستمر في
الفصل الرابع المعنون (التراكم ينزع الحيازة) في نقد مقاربة الليبراليين الجدد
وأثارها المجحفة بالطبقات المتوسطة والفقيرة؛ ولعل نبوءاته التي يطرحها بناء على
تحليله الاقتصادي الاجتماعي بشأن الأزمات التي سوف تنشأ عن الليبرالية الجديدة
تقابل أزمة الديون التي عصفت بالمواطن الأمريكي وبدول مثل اليونان والبرتغال بعد
محاضرات (هارفي) بنحو خمسة أعوام، وهو الأمر الذي عرضه في الفصل الأخير (القبول
بالقسر)، والذي ناقش فيه (هارفي) السيناريوهات المتوقعة للمستقبل. الكتاب يتميز
بالالتزام بالمنهج العلمي الصارم، وهو ما يجعله صادقًا على الرغم من تعرضه لمسألة
تمثل فخًا للخطابة أو التلاعب بالمشاعر، وهي صفة غالبة على كتابات (هارفي) وهو ما
يجعل هذه الكتابات موضع ثقة واهتمام من هؤلاء المهتمين بمسألة التطور الاجتماعي
للعالم.
المترجم (وليد شحادة)،
مترجم محترف من الإنجليزية إلى العربية، له العديد الترجمات الهامة كترجمته
لمذكرات الرئيس الأمريكي الأسبق (بيل كلينتون) المسماة (حياتي)، ومذكرات وزيرة
الخارجية الأمريكية السابقة (كونداليزا رايس) المسماة (أسمى مراتب الشرف)، والمرجع
الكلاسيكي الاقتصادي (ثروة الأمم) لـ (آدم سميث(.
مودتي للجميع.
0 تعليقات