التأريخ Historiography علم، مثله مثل علم الفيزياء وعلم الطب، موضوعه رسم صورة
الحدث التاريخي، ومادته المصادر التاريخية وتتعدد ضروب هذه المصادر، فمنها شهادات
المعاصرين للحدث التاريخي مثال شهادة الجبرتي على الحملة الفرنسية، ومنها الوثائق
المنقولة عن هذا الحدث مثال المعاهدات والمراسلات، ومنها ما تخلف عنه من آثار مثل
شواهد القبور وقطع العملة. أما وجه اختلاف الكتابة التاريخية عن العلوم الطبيعية
فمنهجها الإنساني، ولأنه إنساني فلابد أن يتأثر ببيئة المؤرخ ومعتقداته وتحيزاته،
وكلما كان المؤرخ واعيًا إلى إنسانيته كان عمله أكثر موضوعية، فإذا نسي غلبت على
حكمه مختلف أنواع الخزعبلات التي يرفضها العلم، كأن يزعم أنه قد أوتي الحق المطلق
وهذا الزعم هو أصل كل الشرور. ونتاج التأريخ كعملية علمية هو صورة للحدث التاريخي
يعتقد المؤرخ أنها أقرب ما تكون لحقيقة هذا الحدث التاريخي.
وهكذا فالتأريخ يختلف
عن الفلسفة التاريخية، والتي تعني بدارسة ما هو التاريخ نفسه، وعن الفلسفة نفسها
والتي تعنى بالمفاهيم عامة، ويختلف عن علوم الاجتماع التي تعني بالسنن التي تحكم
المجتمعات، وإن كانت هذه العلوم – ودعونا نستعير من الثقافة العلمية الإسلامية – بمثابة
علوم الآلة للمؤرخ، فهو لا يستطيع أن يستغني عنها في بحثه عن حقيقة الحدث التاريخي.
نتاج التأريخ، ليس هو
التاريخ، وليس هو الحدث التاريخي، بل هو تصور لمؤرخ عما هو الحدث التاريخي، وقد
يكون هذا التصور مقبولًا بمعايير المنهج العلمي، وقد يكون فيه شطط، وفي جميع
الأحوال فإن الكتابة عن حدث تاريخي هي رؤية المؤرخ، وليست الواقع، ولهذا السبب يجب
تمييز المرجع التاريخي والذي وبعيدًا عن التعقيد الاصطلاحي هو البحث الذي كتبه
المؤرخ عن الحادثة التاريخية موضوع اهتمامه، ومن جديد أعود لمصطلحات الثقافة
العلمية الإسلامية وأقول إن المرجع هو اجتهاد المؤرخ، يخطئ فيه ويصيب، ولا يلزم
أحدًا إلا صاحبه.
وهكذا نصل إلى بيت
القصيد الذي دعاني أن اكتب كل هذه المقدمة.
المؤرخ هو من يقدم
تأريخ مستند إلى مصادر ومستخدمًا منهجًا علميًا موضوعيًا مقبولًا، سواء عندي إن
كان هذا المؤرخ تلقى تعليمًا نظاميًا ومنهجيًا يؤهله للتأريخ، أم كان مؤرخًا
هاويًا، فالعبرة هي التزام المنهج العلمي والتماس المصادر ما استطاع إليها سبيلًا،
ثم يقينه المؤرخ بأن عمله عمل إنساني مهما بالغ في دقته لابد أن يصيبه عوار من حيث
لا يدري.
ولكن في عصر الفوضى
المعرفية، وإسهال بزنس النشر الذي أفسد المشهد الثقافي، وحالة التيه الحضاري التي
نعيش فيها، والاستقطابات الدينية والطائفية والاثنية والسياسية والأيدلوجية، أصبح
كل يوم يلد لنا من يسمي نفسه مؤرخ، طبعًا دون إشارة إلى منهج علمي ولا أمانه ولا
مصادر ولا كل هذه المصطلحات المعقدة التي أصبحت (موضة قديمة). أفتح الوسائط
الاجتماعية سوف تجد في كل موقع مؤرخين من هذا النوع، أفتح الفضائيات سوف تجد
مؤرخين يطلون عليك بسماجة، أذهب إلى موقع أي صحيفة سوف تجد مؤرخين يؤرخون على
أنفسهم، وقريبًا سوف تفتح الصنبور ينزل منه مؤرخً، وتذهب إلى السوبر ماركت لتجد
إعلان ثلاثة مؤرخين والرابع هدية.
أما المادة التي
يقدمها هؤلاء فتبدأ من التاريخ الملائكي الذي صنعه ملائكة أطهار أبرار، وتنتهي
بالتاريخ الشيطاني الذي صنعه شياطين مجرمين متآمرين. هبد وخزعبلات يتضاءل إلى
جوارها الهبدات التاريخية الأشهر في تاريخنا الحديث مثل هبدات العشماوي ولويس عوض.
إليك مثلًا محام مصري يقدم نفسه باعتباره كاتب ومؤرخ وروائي ألف نحو مائتي كتاب،
منها سبعة عشرة كتاب عن المؤامرة الماسونية العالمية. الرجل يبلغ من العمر خمس
وستين عامًا، وأنشأ مائتي كتاب، ولو افترضنا أنها قد بدأ في التأليف وهو في سن
الخامسة عشرة، فإن هذا يعني أنه كان يؤلف أربعة كتب كل سنة، كتاب كل ثلاثة شهور،
ويعرف من يعمل في حقل الكتابة إن إعداد مادة الكتابة نفسها للكاتب المحترف المتفرغ
قد تستغرق أكثر من ثلاثة شهور، ناهيك عن الكتابة والمراجعة والتصحيح و.... بارك
الله في جوجل.
لكن الحق يقال،
فالرجل أثر في كثير من الشباب، والذين حملوا مشعل رسالته، ومشوا على دربه، فخرج من
عباءته من يؤكد أن الأهرام أنشئت من الطين المحروق، وطبعًا لم يأتي بدليل من
الجيولوجيا أو علوم البناء أو حتى استأجر توكتوك إلى هرم خوفو ليصور حجارته
المصنوعة من الطين المحروق، ولكن كان دليله الوحيد الذي يشهره في وجه كل من أعترض
على نظريته آيات من كتاب الله يفسرها على هواه، ويعلن كفر كل من يرفض تفسيره أو
على الأقل عمالته للماسونية المهلبية العالمية.
وفي ميدان الهبد سعة
للجميع، ولو عرضنا لكل لاعب في هذا الميدان لاحتجت إلى صبر أيوب لأحافظ على سلامة
مرارتي وهيهات أن يأتيني مثل هذا الصبر، ولكن هناك بالطبع لاعبين مميزين يجب أن
نقف لهم، لا احترامًا ولكن من باب الحمد لله الذي عافانا مما ابتلي به غيرنا. والمقدم
بين هؤلاء طبيب مسالك بولية –وللأمانة هو غير طبيب المسالك البولية الشهير هابد
منهبد – والذي ظل يقدم نفسه بأن اسمه ذكر في موسوعة أمريكية للمشاهير الذين أسهموا
في تقدم المعرفة البشرية، على الرغم أن الجميع يعرف أن هذه الموسوعة والتي لعبت في
زمن ما قبل LinkedIn دور دليل للأخصائيين في الولايات المتحدة،
وكانت تضيف اسم وصورة وعنوان كل من يرغب في الإعلان عن نفسه مقابل رسوم اشتراك. المهم
يا مؤمن، صاحبنا وفي فترة صعود الشوفينية القومية الأخيرة، اكتشف في نفسه حبًا في
التاريخ المصري، وأصبح ضيف دائمًا على محطات فضائية في برامج الرغي المسماة TalkShow، والرجل صراحة يتمتع بكل المقومات المطلوبة لهذه البرامج، ابتداء
من صلف الطاووس الباهي الذي ظل سنين يقدم نفسه بأنه حامي حمى الحضارة الفرعونية
والمتحدث الرسمي باسم خوفو شخصيًا، ومن معدل انتاج عالي في هبد وابداع في صياغة
الهبدة نفسها، مرة شاهدته في برنامج ظل مدة ساعة يتحدث عن التقدم الطبي عند
المصريين القدماء، وكيف أنهم صنعوا علاج لكورونا – أه والله كورونا - مكتوب في
بردية محفوظة في المتحف المصري تحت ثالث بلاطة وانت داخل من باب سبعة، ولم ينس
طبعًا أنهم اخترعوا علاجات لكل شيء لم نجد له علاجًا لليوم....
وهو الكلام المطلوب
في برنامج رغي يعتمد على تثبيت ربات البيوت والموظفين المجهدين أمام شاشة
التلفزيون مبهورين لعدة ساعات حتى يستطيع أن يروج الإعلانات التي تجلب السبوبة
للمحطة ومقدم البرنامج والضيف الهبيد ... هل أخبرهم أن أعظم أباطرة زمانه أمنحوتب
الثالث ربما تكون وفاته بسبب خراج في الضرس؟؟؟ أما أعظم أداء
لصاحبنا، كان يوم أن استضافته مكتبة الإسكندرية وقدمته باسم المؤرخ وعالم التاريخ
المصري ليحاضر الشباب عن تاريخهم ويغرس فيهم الهوية المصرية، وطبعًا بعد أن عجزت
إدارة المكتبة في أن تجد من بين المختصين الأكاديميين من يهبد هبد للرجل.
المصيبة الحقيقية مع
حالة العته التي أصابت المناهج التعليمية المصرية منذ نحو نصف قرن أو يزيد، خاصة
في الإنسانيات، أصبح على الطالب أن يحفظ ثم يقيء ما حفظ لينجح، فلا ملكه تفكير ولا
ملكة نقد غرست في عقله، وهؤلاء الشباب هو زبون المؤرخ الهبيد، يسوق لهم أوهام
العظمة، وينخدعوا في هذا النصاب بسبب الأضواء المبهرة التي يضيئها الإعلام الأهبل
حوله فتصيبهم بالعمى، ويصبح هبد هؤلاء مستند يستند إليه الشباب في الاستدلال على
أراء أقل ما توصف به أن مكانها مصحة الأمراض العقلية مثل فكرة الجنس المصري الفريد
من نوعه الذي ذكرته في هذا المكان منذ فترة، فإذا حاول أحدهم أن يناقش أي من هؤلاء
الشباب في موضوعية الرأي، لاذ بصاحبه الهبيد وقال لك لقد قال مولانا الهبيد الأعظم
كذا، هل تفهم أحسن منه، وكأن التاريخ سوف يعمل حساب لمولاه الهبيد، فلا علاج
لهؤلاء إلا أن تدعهم في غيهم أن يفيقوا بسكع الزمان أقفيتهم، فهو لا يرحم من يعيش
على مجد زائل، فما بالك بمن عاش على مجد زائف.
أما هؤلاء الذين
يتواثبون على الفضائيات وفي الوسائط الاجتماعية، فهم أشبه بالنصاب الذي يسمع
فريسته ما تود أن تسمعه، والفرائس تتعدد بتعدد الايدولوجيات في زمن أصبحت القناعات
المسبقة مقدمة على العقل والمنطق، فهناك فرائس قومية واخرى دينية وثالثة علمانية و...
بل أن هناك فرائس رياضية تبحث في تاريخ فريقها أو بطلها الرياضي عن دوره التاريخي
في انقاذ مجرة درب التبانة من مؤامرة الماسونية العالمية .... ويظل سوق النصب
رائجًا ما دام السفهاء زبائنه.
أطلت عليكم، ولكن طفح
الكيل فأردت بعض الفضفضة وربما كان للحديث بقية.
د. وسام محمد عبده
0 تعليقات