آخر الأخبار

من وحي الليالي الألف / عودة السندباد

 



علاء الدين شهاب

 

 

كلّنا يعرف حكاية السندباد والأهوال التي واجهته في رحلاته العجيبة المثيرة، إلّا أنَّ (كيليطو) يبدو عليه أنّه يعرف مالا نعرفه عن هذا الفتى المغامر، أو هو على وجه الدقة، يقرأ الحكاية من زاوية مغايرة. في كتابه الذي يحمل عنوان (الماضي حاضراً) يحرر المفكر المغربي فصلا بعنوان (عودة السندباد)، ويسلط عليه أضواءه النقدية الكاشفة. لسنا هنا بصدد اكتشاف رحلات السندباد من جديد، ولا بنيّة قطع تذكرة سفر لاكتشاف عوالمه الغرائبية العجيبة، وإنّما نحن بصدد الكشف عن انعكاسات تلك الرحلة وتداعياتها على واقعنا العربي، والفرد والمجتمع على حدٍّ سواء.

 

جاء في المجلد الثالث من ألف ليلة وليلة، أنَّ السندباد البحري قد خاض سبع رحلات طويلة، وفي كل رحلة عاش مغامرات فانتازية عجيبة تعد من نوادر الأدب الخالد. يجبرنا (كيليطو) على إعادة قراءة النصوص بعين فاحصة متجردة، وها أنذا أعاود القراءة للفتى المغامر كبيراً بعد ان حفظتُ حكايته صغيراً، وانطبعت مغامراته في الذاكرة كما ينطبع الوشم على خارطة الأجساد.

 

يقرر السندباد التوبة من الأسفار بعد كل رحلة شاقة، ثُمَّ يحنث بوعده وينكث بتوبته، ولكن هل السفر ذنبٌ يحتّم عليه التوبة؟ السفر قطعة من العذاب، كما جاء في الأثر، وهو الموت بعينه في حكايات السندباد العجيبة، فلِمَ ينقض الفتى عهده كلما طابت له الإقامة بين أهله؟ إنّها الروح المتمردة على التكاسل والدعة، الروح الجسورة التي تتوثب لركوب الأهوال واكتشاف العوالم وخوض المغامرات،
ولكن (لكيليطو) رأي آخر يقول فيه "ان الذي تاب منه السندباد إنّما هو فتنة العالم الغريب والنزعة الى الذوبان فيه، فالهلاك الذي يتهدده في البحر هو الاستسلام إلى إغراء الآخر والتنكر للمنبع والأصل. التوبة هي الأوبة إلى بغداد. السندباد بمثابة حوار، أو جدل بين الانغلاق والانفتاح، تماما كالثقافة العربية المعاصرة التي تتميز بالالتحام بين عناصر مألوفة وأخرى غريبة، بين البر والبحر.. إلى أن يقول: كلنا اليوم في العالم العربي سندباد”!

 

ويؤرقني سؤال: هل عاد عصر السندباد؟ ولماذا لايكترث سندباد اليوم بتوبته، أو بأوبته إن صح التعبير؟ لماذا يصر على ارتكاب (معصية الأسفار) وركوب الأمواج والبحار؟ ولكن ما للتوبة قد اتخذت شكلاً آخر؟ ما لها قد صارتْ بعداً عن الأوطان وإصراراً على عدم الرجوع البتة!

 

آلاف السنادبة قد غادروا بغداد ولا إشارة في الأفق تدل على عودتهم، أو توبتهم! سندباد اليوم صار يتطلع الى ركوب الجو والبحر فرارا من واقع أليمٍ مرّ.

 

لبغداد نكهة السحر وطعم الحنين، حنين العودة إلى أحضانها ولذة الانغماس في مجالسها، ولدجلة عذوبة يعرفها كل من ذاق طعمها. ولنلحظ جيداً أنَّ كل مصاعب السندباد كانت عقب مغادرة بلدته وتجشم عناء الارتحال، أمّا العودة فهي آمنة طيعة، فما بال الأمور انقلبت اليوم رأساً على عقب! ما بال الراحلون يلتمسون الأمان في أحضان الغربة ويتوجسون خيفة من العودة؟ ما ابعد الأمس عن اليوم!

 

ثمة تباين كبير بين سندباد اليوم وسندباد الأمس، فالأول رهين اليأس والقنوط، ولا أمل يلوح بالأفق، على عكس الثاني الذي ظلَّ يرافقه الأمل كظله، ويلازمه التطلع إلى اكتشاف العوالم بعين المغامر الجرئ، فكأنّه أراد أن يضفر ثقافات الشعوب في جديلة واحدة!

 

يبدو أنَّ جرأة السندباد القديم وحلم الالتحام بثقافات القوم هو كل مانحتاج إليه اليوم لإعادة الموازنة بين السندبادين.

 

تذكّرني حكاية السندباد بمقال قرأته قديما (لعبد السلام بنعبد العالي) بعنوان الحل و الترحال يقول فيه: فالمقابلة بين الحل والترحال تكاد تعادل المقابلة بين الفكر الوثوقي المتجمد والفكر النقدي المتفتح. فإذا كان ما يطبع الفكر الوثوقي ألفته واستقراره وثباته.. فإنَّ ما يميز الفكر النقدي يتمه وحركته وترحاله وغربته. باختصار فان حكاية السندباد تذكرني بالصراع الأزلي بين مدرستي السرد والنقد، فإن كان السرد توبة العودة والإياب، فإنَّ النقد هو عين الإبحار والغياب.

 

إرسال تعليق

0 تعليقات