آخر الأخبار

الغناء…. بين الحلية والتحريم

  


 

عز الدين البغدادي

 

بعد الجدل الذي أثير بسبب كلام السيد رحيم ابو رغيف عن الغناء وحكمه الشرعي، ارتأيت أن أعيد نشر هذه المقالة.

 

ذهب المشهور من فقهاء الإمامية إلى تحريم الغناء مطلقا، وذلك استنادا الى آيات كريمة فسرت بأن المقصود بها هو الغناء نحو (وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ ) وقوله تعالى (وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ﴾، فضلا عن روايات كثيرة اعتمدها القائلون بالتحريم.

 

إلا أن هناك اتجاها آخر ذهب إلى عدم الحرمة وأن الحرمة لا تتعلق بعنوان الغناء، بل بمادة الغناء ومحتواه، وقد ذهب إلى هذا عدد مهم من كبار فقهاء الإمامية، وأبرزهم الفيض الكاشاني الفقيه الجليل صاحب كتاب "مفاتيح الشرائع " حيث قال: من مجموع الروايات الواردة في موضوع الغناء تبين لنا أن حرمة الغناء والبيع والشراء فيه، وتعلمه وتذاكره، وكذا الاستماع إليه، إنما اختصت بنوع الغناء الذي كان دائراً في زمن بني أمية وبني العباس، حيث كان يحضر الرجال مجالس الغناء التي تغني فيها النساء، وكانت تلك النسوة يتغنَّيْن بكلام الفحش والباطل، وكان الطابع الغالب على تلك المجالس اللهو واللعب".

 

كما استشهد بمجموعة من الروايات، كان من جملتها صحيحة أبي بصير عن الإمام الصادق (ع): أجر المغنية التي تزفّ العرائس ليس به بأس، وليست بالتي يدخل عليها الرجال.

 

وفي رواية أخرى: «سأل رجلٌ علي بن الحسين عن شراء جاريةٍ لها صوت، فقال: ما عليك لو اشتريْتَها فذكرَّتْك الجنَّة…." ) الفيض الكاشاني، مفاتيح الشرائع 2- ).

 

وهو رأي الفقيه الجليل المحقق السبزواري في كتابه ( كفاية الأحكام ص 85 ).

 

كما ذهب إلى هذا الرأي السيد ماجد البحراني وهو من علماء القرن 12، حيث قال: بأن الغناء المحرَّم هو الصوت اللهوي الذي تتغنّى به الجواري والقينات ذوات الصوت الشجي، والذي يكون في محضر الفسّاق من الرجال، وتستعمل فيه بعض آلات الموسيقى. ( التمهيد في علوم القرآن للشيخ محمد هادي معرفة 5- 207(

 

وذهب حبيب الله الشريف الكاشاني الى جواز الاستماع إلى "الأصوات الحسنة المطربة الموجبة للفرح والانبساط، المذهبة للهموم والغموم، المسللية عن المصائب والرزايا" ( ذريعة الاستغناء في تحقيق مسالة الغناء ص78).

 

وهو أيضا رأي العالم المجدد الشيخ محمد المؤمن القمي (مجلة الفكر الإسلامي عدد16 ص 64).

 

بل هو ما صرح به السيد الخامئني حيث قال: . ثم ظهر فيما بعد رأي كنا نحن أيضاً نقول به على نحو الاحتمال، وكان يقول به أيضاً سماحة الشيخ المنتظري عندما كان منفياً في "طبس"، وعندما قال به سماحته قَوِيَ لدينا، وهذا الرأي هو: إننا عندما نقول إن الغناء محرّم في شرع الإسلام فالمشار إليه هنا هو المحتوى وليس الشكل؛ وأساساً إذا أردتم البحث عن مصداق الغناء فلا تدرسوا الموسيقى من زاوية شكلها لتقولوا بأنها حرام أو حلال، بل ابحثوا في المورد من زاوية المحتوى، بمعنى أن الغناء قضية محتوى لا شكل (الأدب والفن في التصور الإسلامي ص 24).

 

كما سبق وأن كتب الشيخ االفقيه الكبير هادي الطهراني رسالة ذهب فيها إلى هذا الرأي، وهو أيضا رأي السيد فضل الله والشيخ الصادقي الطهراني والشيخ يوسف الصانعي الاصفهاني والشيخ ابراهيم جناتي والشيخ عبد الهادي الفضلي وغيرهم).

 

إن حقيقة الغناء هو ترجيع الصوت بكلام وفق لحت معين، وهذا الأمر موجود في قراءة القرآن وفي قراءة الرواديد في المجالس الحسينية، فإما أن يحرم كله أو يباح كله، لأن حقيقتهما واحدة. بل إن نفس الطور التي تغني الكلمات على ألحانها يقرأ القرآن بها، فإما أن نقول بتحريم أي صوت يكون وفق هذه الأطوار أو تباح كلها.

 

وهنا قد تقول: لا يمكن مقارنة القرآن الكريم بهذه الأغاني الهابطة المبتذلة، فأقول لك: نعم صحيح، هذا ما أقصده فإن المشكلة ليس في نفس الغناء بل في مضمون الغناء أي في كلماته. ولهذا فإن بعض الفقهاء ممن يذهب الى التحريم كان وفيا لرأيه فعمم الحكم، وحكم بحرمة استعمال الألحان أو الموسيقى في الشعائر الحسينية وهو رأي الشيخ الأنصاري والملا محمد تقي البرغاني المعروف بالشهيد الثالث الذي عرف عنه بأنه كان يمنع التشبيه أي تمثيل حادثة كربلاء في مصيبة سيّد الشهداء، وكان يمنع من الغناء فــــي المراثي وإنشاد مصائب الأئمة.( قصص العلماء- التنكابني 39.)، وهو أيضا رأي الشيخ باقر آل عصفور.

 

بتعبير آخر أوضح: الغناء يتركب من أمرين: كلام وطور، والطور لا يصلح سببا للتحريم إلا إذا قلنا بحرمة تحريم قراءة القرآن وفق هذه الأطور، فلم يبق إلا الكلام، وبسببه يكون التحريم أو التحليل.

 

هذا مع العلم بأن المشهور (القائل بالتحريم) استثنى أمرين، وهما: الغناء في العرس، وحداء الإبل، والحادي هو شخص يغني له صوت جميل يغني فتندفع الإبل في سيرها، وعجيب أن هذه الإبل تتأثر بالصوت الحسن دون الإنسان.

 

وهذا الاستثناء جاء اعتمادا على روايات موجودة، لكن العقل الفقهي لم يتنبه إلى أن الحكم لا معنى لتخصيصه إذا كان سبب التحريم كون الغناء من قول الزور أو لهو الحديث، لكنه يتجه إذا كان نظر التحريم الى مفاسد خارجية ليست في أصل الغناء..

 

وبرأيي فإن رأيي أنه ليس هناك حرمة ذاتية في الغناء، لكن الحرمة تأتي من أحد أمرين:

 

أولهما: مضمون القول كأن يكون كلاما كفريا أو فيه دعوة إلى القبيح، أي قبيح كان دينيا أو دنيويا.

 

وثانيهما: أن يقترن الغناء بأمور محرمة كتلك التي أشار إليها الكاشاني وغيره..

 

فضلا عن أمور اجتماعية فيها مصالح أو مفاسد كان ينبغي ملاحظتها، وبحسبها يكون التحريم أو التحليل..

 

نحتاج الى تفهم أفضل للحياة وأريحية علمية فهل احكم بالفسق على شخص لمجرد أنه سمع أغنية أو دندن مع نفسه بأغنية أو طرب لصوت جميل؟ ولماذا نعد اللهو خطيئة وجرما ما دام في حدوده حتى نفتي بتحريم لغناء لكونه لهوا؟! ولماذا نمارس قسرا على الآية الشريفة التي ورد فيها تعبير (لهو الحديث) ونفسرها بأنها وردت في الغناء؟ نحن بحاجة لأن نخرج أنفسنا من قوالب الأفكار الجاهزة، ونحتاج ونحن نستبط أن نخرج من العقد سواء كانت علمية أو نفسية، وسواء كانت حقيقية في النفس أو تمثيلا لمجاراة فهم اجتماعي خاطئ.



إرسال تعليق

0 تعليقات