نصر القفاص
يعتقد البعض أن "الوعى"
حيوان أليف يمكن تربيته فى البيوت والقصور.. أصحاب هذه القناعة يذهبون إلى اعتبار "الديمقراطية"
و"الشفافية" و"الحوكمة" وغيرها, لا تختلف عن "حيوان
الوعى" الأليف!!
يؤمن أصحاب هذه
الرؤية بأن لكل شئ "ثمن" بما فيها القيم والعلم.. لذلك تجدهم يتجاهلون
التاريخ.. يسخرون من "الفلسفة" و"علم الاجتماع".. وينظرون إلى
"الجغرافيا" على أنها مساحات أراضى يعرف قيمتها محترفى "التطوير
العقارى" وكنا نسميهم المقاولين.. هؤلاء تأخذهم نظرتهم إلى أن "الإدارة"
و"الاقتصاد" ليسا علما.. لكنهما "شطارة" كما شأن "الشطار"
فى كل زمان ومكان!!
هكذا تحدث "أنور
إبراهيم" رئيس وزراء "ماليزيا" الحالى.. وللتوضيح هو لم يقل ذلك
بالنص.. لكننى فهمت ذلك من كلامه, خلال "المقابلة" مع "على الظفيرى"
على شاشة "الجزيرة".. وهو برنامج شديد التفرد شكلا ومضمونا.. لا ينافسه
عندى غير برنامج "رحلة فى الذاكرة" الذى يقدمه "خالد الرشد" على
شاشة "أر. تى" الروسية!!
كنت قد زرت "ماليزيا"
بدعوة من "عبد الله بدوى" رئيس وزرائها قبل نحو خمسة عشر عاما, وعدت
منها شديد الإعجاب بمستوى "الوعى" و"الشفافية" و"الحوكمة"
مع تقدير بتحفظ لتجربتهم "الديمقراطية" حتى تخليت عن هذا التحفظ مؤخرا..
لنا أن نعرف عن "أنور إبراهيم" أنه كان شريك "مهاتير محمد" فى
تجربته الرائعة.. وقد كان نائبا لرئيس الوزراء ووزيرا للمالية, ويسمونه هناك مهندس
النهضة الاقتصادية.. ولما تضخمت ذات "مهاتير محمد" ونزع إلى "الدكتاتورية",
أبدع فى "فبركة" اتهامات وقضايا ضد الرجل.. زج به فى السجن, وأطلق عليه "الكلاب
المسعورة" فى الإعلام لتشويهه.. ورميه بممارسة "الشذوذ" وغيره من
سخائم!!
نظام الحكم فى "ماليزيا"
ملكى.. الحكومة تتشكل بأغلبية أو ائتلاف حاكم.. القضاء فيها يتمتع بمكانة مقدسة.. الدين,
كل الأديان لها احترامها, مع تجريم خلطها بالسياسة.. الإعلام تحكمه ضوابط وقوانين
صارمة, مع تمتعه بهامش لا بأس به من الحرية.. الشعب هناك يحترم تاريخه, ويقدر "الجغرافيا"
ويفهم أبجديات "علم الاجتماع" لذلك اختار تمسكه بالزراعة, وأضاف اهتماما
شديدا بالصناعة وجعل "العلم" قاطرة للوطن.. حتى ظهر "الشطار" ليحكموا!!
عندما يحكم "الشطار"
تجنح سفينة الوطن.. وقد تغرق!!
ظهر على المسرح
السياسى رجل اسمه "نجيب عبد الرزاق" نجح فى تشكيل ائتلاف حاكم.. تولى
مسئولية دولة تخطف أنظار الدنيا بما حققته من تقدم يستحق الدراسة والتقدير.. إختار
طريق ما يسمونه "الاستثمار" لإضافة تقدم عبر طرق سهلة.. إتجه بنظره نحو
دول الخليج, وانخرط فى علاقات غامضة مع دوله كلها.. أعلن ما أطلق عليه "الصندوق
السيادى" الذى جعل دولة "الإمارات" تغوص عبره وداخله.. فاحت رائحة
كريهة داخل المجتمع.. تحركت "الديمقراطية".. رفضت "الشفافية" أن
تكون "شاهد ما شافش حاجة".. وفرضت علامات الاستفهام نفسها على محاولات
قتل "الحوكمة" ليمارس الإعلام دوره.. ظهر القضاء وسمع الناس كلمة "محكمة"..
بحثا عن سر الانحراف فى مسيرة "ماليزيا" لينكشف أمر "الفساد" وتسربت
مكالمات أجراها "نجيب عبد الرزاق" مع أصدقائه فى "الإمارات" لإنقاذه..
لكنهم اختاروا الابتعاد حتى لا يتورطوا فى جرائم ستكون عواقبها وخيمة عليهم.. باعوه!!
سقطت حكومة "نجيب
عبد الرزاق" وبقى "الصندوق السيادى" صامدا!!
تعاقبت الحكومات.. كان
بينها حكومة عاد بها "مهاتير محمد" لرئاسة الوزراء, بعد أن رفع رايات
مكافحة الفساد.. ذهب "نجيب عبد الرزاق" إلى السجن ولم يذهب الفساد.. لم
يصمت البرلمان ولا الإعلام أو القضاء.. كلهم يريدون فتح "صندوق الفساد الأسود"
وشهرته "الصندوق السيادى" لذلك اختار الرأى العام الذهاب إلى "أنور
إبراهيم" الذى كانت المحكمة قد برأته من التهم الزائفة.. أعادوه إلى مقعد
المسئولية بشرط كشف ما يحدث داحل "صندوق الفساد السيادى".. فكانت أخبارا
لم يهتم بها إعلامنا عن القبض على رئيس وزراء آخر اسمه "محيى الدين ياسين"
قبل أيام وإيداعه السجن!!
تحدث "أنور
إبراهيم" فى "المقابلة" على شاشة "الجزيرة" بكلام مذهل!!
يقول رئيس وزراء "ماليزيا"
الحالى أن حجم ما تم نهبه بلغ 35 مليار دولار, وأوضح أنه تم استرداد نصف المبلغ.. وكشف
عن خطورة منح امتيازات لأجهزة سيادية, تسلل الفساد إليها فجعل القائمين عليها "مراكز
قوى" قاموا بإسناد المناصب لأصحاب الحظوة.. وأعلن أنه لا يمكن أن يتسامح مع "الفساد"
ولن يترك "الفاسدين" مع إدراكه قوتهم وقدرتهم.. أكد على أن الذى يدير "الفساد"
لا يمكن أن يحاربه!!
وأوضح أن علاقات
بلاده يجب أن تعود إلى الاستقلالية.. لأن "الصين" هى الشريك الاقتصادي
الأول, بحجم تبادل تجارى يصل إلى مائتى مليار دولار.. تأتى بعدها "سنغافورة"
ثم "الولايات المتحدة الأمريكية" وهذا يعنى أن الحاكم يجب أن يتمتع
بقدرات خاصة لا يمده بها غير الشعب!! وقدم تفسيرا رائعا لمعنى "العدالة
الاجتماعية" بقوله أنها "الإنصاف" للجميع.. أغنياء وفقراء.. حكاما
ومحكومين.. وهذا "الإنصاف" يفرض علاقات واضحة مع دول العالم.. ثم أكد
على أن الشعب يجب أن يعرف كل شئ عما يدور فى دواليب الحكم.. فهو يؤمن بأن هذا واجب
وطنى وحق للشعب الذى أنصفه!!
ترددت كثيرا قبل أن
أكتب.. لأن "الكلاب المسعورة" ستنبح!!
أفكر بعقلى وأرفض أن
يكون هذا العقل "حذاء" فى قدم "فاسد" أو "سفيه".. لقناعتى
بما قاله المفكر الجزائرى "مالك بن نبى" أن: "من يوافق على ارتداء
البردعة, لا يخجل إذا قلنا عنه حمار"!! لذلك أشفق على هؤلاء الذين يعبدون
الحاكم من دون الله, وأمثالهم يعيشون أذلاء ومنبوذين فى "ماليزيا"!! وقد
أتحدث يوما عن "ابن وزير" يعيش فى "باريس" تتم عبر شركته
صفقات بمليارات, فى دولة يحكمها الأبناء والأصدقاء!!
0 تعليقات