من وقت للآخر يطفو
على السطح زعم بأن هناك عالم عربي مسلم يدعى ابن وحشية قد اكتشف أو على الأقل قد
عرف اللغة الهيروغليفية بالذات، وأن مؤلفه المسمى «شوق المستهام في معرفة رموز
الأقلام»، هو الأصل الذي استقى أو حتى سرق منه شاملبيون الفرنسي معرفته باللغة
الهيروغليفية ونسبه لنفسه، بعد أن وقف على ترجمة جوزيف هامر للكتاب، وكان هامر قد
عثر على نسخة من كتاب ابن وحشية مخبئة في مكتبة الفاتيكان فترجمها إلى الإنجليزية
ونشرها عام 1806.
والحق أقول إن الغرب
عامة، والفرنسيين خاصة، انتحلوا لأنفسهم الكثير من مبتكرات ومكتشفات المسلمين وغير
المسلمين، ولكن هذه المرة، يبدو الزعم بأن ابن وحشية المكتشف الأصلي للغة
الهيروغليفية ضربًا من ضروب الاعتساف، والمصيبة الكبرى أن تجد من يروج لهذا الزعم
من المثقفين المعتبرين، فقد استضافت الأهرام المصرية في ندوتها ذات يوم إثنين من
كبار المثقفين الذين راحوا يهذوا بخرافة ابن وحشية، وبعد استمعت لهذيانهم، غلب على
ظني أنهم لما يطالعوا كتاب ابن وحشية الذين يتحدثون عنه، ناهيك عن هؤلاء الذين
يروجون لهذه الخرافات على الوسائط الاجتماعية، بدافع ادعاء العلم، أو التعصب
الغبي، أو حتى بهدف منفعة مادية قريبة، وربما إذا ما وقفنا على من هو ابن وحشية،
وافكاره، ومحتويات كتابه المذكور، لأتفق معي القارئ في رأي، وأقر بأن هؤلاء الذين
يروجون لهذا الزعم ما بين جاهل ومنتفع، وإنهم لا يقولون إلا منكرًا من القول
وزورًا.
من هو ابن وحشية؟
بطل هذه القصة ابن
وحشية ترجم له صاحب معجم المؤلفين فهو أحمد بن علي بن المختار بن عبد الكريم بن
جرثيا الكسداني، الكلداني، المعروف بأبي بكر بن وحشية، من أهل قسين وهي قرية
بالقرب من الكوفة في جنوب العراق، توفي نحو 296هـ .
اليوم، سوف تجد من
يقدم الرجل دون مستند ويصفه بأنه عالم أو كيميائي، بينما وصفه ابن النديم في
الفهرست بأنه «وكان يدعي انه ساحر، يعمل أعمال الطلسمات، ويعمل الصنعة» ، لفظ
الصنعة التي يشير لها ابن النديم فتعني الخيمياء أو الكيمياء السحرية، ولا تعني
الكيمياء بمفهومها الحديث، فالرجل كان ساحرًا ويحترف الخيمياء، وهذا ما اشتهر به
بين ا لناس، وابن النديم قريب العهد بابن وحشية، إذ توفي ابن النديم نحو عام 384ه،
وهو يصرح في الفهرست أنه قد أطلع على كتب ابن وحشية بخط يده، ولعله التقى أيضًا
بأبي طالب الزيات تلميذ ابن وحشية وحافظ تراثه، فما ينقله ابن النديم عن ابن وحشية
لا يعبر عن رأيه الخاص، ولكنه نقل لما هو معروف عن ابن وحشية في زمانه.
حقيقة مؤلفات ابن
وحشية
ينسب صاحب الفهرست
لابن وحشة العديد من الكتب في السحر والطلسمات ، وفي الصنعة والخيمياء ، وفي
التنجيم الكلداني القديم . وكان الرجل يزعم بأن ألف كتبه بناء على ما اطلع له من
علوم النبطية والكلدانيين أسلافه، وقد ذهب جماعة من الباحثين الغربيين إلى أن ابن
وحشية ليس مؤلف كتبه، ولكنها ترجمها عن أصول قديمة نبطية وكلدانية ثم نحلها نفسه،
وهذا الرأي ناقشه المؤرخ فؤاد سيزكين باستفاضة في كتابه تاريخ التراث العربي، ووصل
إلى نتيجة طريفة وهي أن ابن وحشية لم ينتحل الكتب فحسب، ولكنه ترجم وانتحل دون أن
يدري كتبًا مزوره منحولة أصلًا ، واختلاق وانتحال الكتب شائع خاصة بين المشتغلين
بالسحر والخيمياء في كل زمان ومكان، يبغون أن يكونوا بادعائهم الوقوف على كتب
نادرة وسرية، لهم عظم الباع في ضلالهم.
أما أهم أثار ابن
وحشية في نظري، فهو كتابه المعنون بالفلاحة النبطية، وقد حققه توفيق فهد ونشره
المعهد العلمي الفرنسي للدراسات العربية بدمشق، ذلك لأنه كتاب يعني بمشكلات
وتقنيات الزراعة والري، ومع ذلك فإن احتمال انتحال ابن وحشية الكتاب قائم، فيرى
محمد كرد علي «ترجم من كتب اليونانيين كتاب الفلاحة النبطية منسوبة لعلماء النبط» ،
ومع ذلك فإن ابن وحشية لم يتناول الفلاحة من حيث هي تقنية وعلم، ولكن من «جهة
خواصه وروحانيته ومشاكلتها لروحانيات الكواكب والهياكل المستعمل ذلك كله في باب
السحر» ، وهو ما دعي من أراد الانتفاع بالكتاب إلى تنقيح الكتاب وتخليصه من
الخرافات كما فعل ابن العوام .
تهافت شوق المستهام
أساس الخرافات التي
تدور حول ابن وحشية، كتابه المعنون «شوق المستهام في معرفة رموز الأقلام»، وهو
كتاب استعرض فيها المؤلف ابجديات وخطوط لغات مختلفة، منها ما هو معروف في زمنه
ومتداول مثل الخط السرياني ، أو متداول بين جماعة خاصة كمجموعة الرموز المستخدمة
في الخيمياء والصنعة، وهي التي ينسبها لشخصية هرمس مثلث الحكمة، الشخصية الأسطورية
المؤسسة في الآداب الغنوصية ، أو تلك الخطوط المرتبطة بالأبراج الفلكية والتي
ينسبها للكلدانيين ، ومنها ما هو غير معروف مثل «أقلام ادعت طائفة من قوم النبط
والكلدانيين والصابئة، أنها كانت تستعمل قبل الطوفان» .
الغالب على الكتاب اهتمامه
بالخطوط المرتبطة بالسحر والتنجيم والخيمياء، وحتى عندما يتناول خطوط عادية، فإنه
يشير إلى خصائصها السحرية، ويحاول أن يعزوها لشخصيات معروفة في تاريخ الغنوصية
وتقاليد العبادات السرية القديمة. فالكتاب، ليس غرضه استعراض الخطوط لغرض لغوي،
بقدر ما هو استعراضها لتوظيفها في السحر والشعوذة. كما أن أبن وحشية يحاول دائمًا
أن يربط ما بين أبجديات اللغات التي يتناولها والأبجدية العربية، متناسيًا أن بعض
هذه اللغات تفتقر لمخارج أصوات معينة موجودة في العربية، فتراه يشير إلى الخط الذي
استخدمه أرسطو أو سقراط (أنظر الشكل الملحق)، والذي يفترض أنه الخط اليوناني
الكلاسيكي، فيعين حرف يقابل حرف العين، وآخر يقابل حرف الحاء، على الرغم من افتقار
اليونانية لهذين الصوتيين، وهذا الأمر إنما يشير إلى جهل ابن وحشية بما ينقله،
علمًا بأن اللغة اليونانية كانت معروفة في زمانه ومتداوله. فإن خلصنا من هذا إلى
شيء، فإنما نخلص إلى أن ابن الوحشية كان يدعي العلم.
ولكن مروجو خرافة
كتاب شوق المستهام يضربون صفحًا عما يفصح عنه نص الكتاب من تزوير وانتحال، ومن ثم
يحرقون البخور حول الكتاب يحاولون إخفاء رائحة عطن فساد مزاعمهم المنبعثة منه،
فتارة يزعمون أن الكتاب يحتوي على تفاصيل اللغة الهيروغليفية، وتارة يزعمون أن
الكتاب لا يوجد منه إلا نسخة أو اثنتين محفوظة في مكتبة الفاتيكان، وتارة ثالثة أن
شامبليون قد اطلع على الكتاب وسطا عليه. وليت شعري، لكم هذه الدعاوي هزلية!! فالكتاب
له العديد من النسخ في العالم، منها تلك المحفوظة في آيا صوفية ذكرها إسماعيل
البغدادي في إيضاح المكنون
والزركلي في أعلامه ، ومنها
المحفوظة في المكتبة الوطنية النمساوية، ذكرها محمد عايش ، وفي ألمانيا نسختين،
واحدة في مكتبة جامعة ميونيخ والثاني في مكتبة الدولة في برلين، ومنها ما يطول
المقام بذكره. ولكن وجود نسخة فريدة من بهارات نظرية المؤامرة، خاصة لو كانت في
مكتبة الفاتيكان، ولذلك فلنضرب صفحًا عن كل هذه النسخ.
أما زعمهم أن الرجل
عرف الهيروغليفية بالذات، فلعل هذا سببه العنوان الذي اختاره جوزيف هامر لترجمته
وهو «Ancient
Alphabets and hieroglyphic characters explained with an accounts of the
Egyptian priests, their classes, initiation, and sacrifices تفسير الأبجديات القديمة والرموز
الهيروغليفية في سجلات الكهنة المصريين ومدارسهم واحتفالاتهم
وأضحيتاهم»، والظاهر أن المؤلف قد اختار الاسم للترويج لكتبه، فالكتاب وإن كان يتعلق
بالأبجديات والخطوط، لا علاقة له بالكهنة المصريين وما نسبه إليهم، ولعل من ظن أن
الكتاب أساس للغة الهيروغليفية لم يطلع على الكتاب واكتفى بالعنوان المترجم فحسب.
وأما إطلاع شاملبيون
على الكتاب من عدمه، فلا دليل عليه، وإن كان قد أطلع عليه، فالكتاب متاح اليوم،
والرأي لخبراء اللغات المصرية القديمة ليحكموا مدى مقاربة ما ذكره ابن وحشية بما
يعرفون، ولا أدري لما أهمل أهل الاختصاص أد يدلوا برأيهم في هذه المسألة لحسم
الجدل، أما تراهم حسبوا أن المسألة لا ترقى لأن تكون مسألة علمية أصلًا، وإنما هي
من خرافات التعصب في زمن الوسائط الاجتماعية.
الخلاصة
في رأي الشخصي بناء
على ما ذكرت فإني أؤمن بأن ابن وحشية لم يكن على علم، بل هو أقرب لآفاق مثل كثير
من الأفاقين الذين لا يزالون لليوم يدعون السحر والخيمياء والتنجيم، ويجدون من
يصدقهم ويتبعهم وانا في غنى عن ضرب الأمثلة منهم. أما كتابه، شوق المستهام، فهو
كتاب آخر في السحر والشعوذة لا قيمة لغوية لها، كما أعرف أنني سوف أجد بعد عشرة
سنوات، إن مد الله في عمري، من لا يزال يروج إلى خرافة ابن وحشية مكتشف اللغة
الهيروغليفية، ذلك أن الإنسان منذ طفولة حضارته، مولع بالخرافة والحكي، معرض عن
العقل، بليد الذهن عن النقد، فخور بادعاء العلم.
والله من وراء القصد.
د. وسام الدين
محمد
8 شعبان 1444هـ
28 فبراير 2023م
0 تعليقات