عبدالحليم قنديل
لا يتوقع أحد عاقل ،
أن تتوقف انهيارات "إسرائيل" الداخلية ، فقد بنيت هذه "الدولة"
على زيف مطلق ، لا يحجب أبدا حقيقتها ككيان احتلال استيطانى إحلالى ، وأريد لها أن
تبدو كدولة طبيعية ، لها سمات دول الغرب الاستعمارى الذى أنشأها ويحميها ، وتنتحل
صفة المجتمع المستقر بتكوينه التاريخي ، وبصراعات الطبقات والمذاهب فيه ،
وبتوزيعات نخبه إلى يمين ويسار ووسط ، وبتداول سلطة يبدو ديمقراطيا ، وبفصل سلطات
تنفيذية وتشريعية وقضائية ، يجعل إسرائيل كما يزعم المؤسسون والتابعون ، تبدو
كمثال ديمقراطي غربي فريد وسط صحراء الاستبداد العربي المحيط .
بدا الاصطناع ظاهرا
فى القصة كلها ، فما من دولة طبيعية فى الشرق والغرب والجنوب والشمال ، تبدو على
الهيئة "الإسرائيلية" ، جرى ويجرى جلب سكانها من بيئات تاريخية وعرقية
وثقافية مختلفة ، اللهم إلا فى دول الإحلال الاستيطاني فى الأرض الجديدة عبر
القرون الأخيرة ، كما جرى مثلا فى تاريخ الأميركيتين الشمالية والجنوبية ، وفى
استراليا ونيوزيلندا وغيرها ، مع فارق مرئى تماما ، هو أن دول الاستيطان النهائي
الناجح ، أحلت جماعات الاستيطان بثقافاتها الوافدة ، ومحت أو كادت تمحو كل وجود
مؤثر للسكان الأصليين ، ولم تبق منهم سوى شذرات سكانية متفرقة ، لا تقوى بعد
اقتلاع جذورها الأصلية على مقاومة ذات مغزى ، فقد أفنيت الشعوب الأصلية بمذابح
جماعية مروعة ، وهو ما أتاح للشعوب الوافدة ، أن تبنى مجتمعاتها فى خلاء سكانى
وجغرافى ، وأن تستعير من ثقافة المنشأ الغربى الغازى ، وأن تطور ما يشبه
الديمقراطيات الغربية ، بعد مخاضات عنيفة ، وثورات وانتفاضات ، وهو ما لم يحدث
مثله فى سيرة الاستيطان الإسرائيلي ، ولا فى سير حالات سبقت من استيطان الغاصبين ،
خصوصا فى قلب العالم القديم ، كما جرى مثلا فى الجزائر وجنوب أفريقيا ، وقد انتهت
إلى استيطان فاشل بامتياز ، ولأسباب ظاهرة ، أهمها كثافة حضور الشعوب الأصلية ،
واستعصاؤها على مذابح الاقتلاع والإحلال ، أضف إلى ذلك مآزق أخرى فى حالة "إسرائيل"
، التى أراد لها مؤسسوها ، أن تبدو كدولة حديثة ، ترتكز فى عملية تكوينها على أساطير
توراتية قديمة فى الوقت نفسه ، وهو ما بدا فى معضلة "ديفيد بن جوريون" المؤسس
الأول ، القادم وأسرته من "بولندا" ، والملحد بلا شبهة ، فقد كان يهزأ
بالتوراة ووعودها وأرض ميعادها ، لكنه يراها مفيدة نافعة فى جلب اليهود إلى فلسطين
، ويثق بالقوة وحدها ، التى لا تبنى كيانا محاربا بغير "الكيبوتزات" و"الهستدروت"
وتكريس أساطير العمل العبرى ، وعبثا حاول "بن جوريون" مع نظرائه تطبيع
الدولة ، فلم يجد سوى ما أسماه "إعلان الاستقلال" ، وإن بدا فى العنوان
زيفه ، فهو فى حقيقته إعلان احتلال لا استقلال ، مشفوع بأساطير دينية كاذبة ، لا
يصدقها "بن جوريون" نفسه ، الذى لم يجد متسعا لصياغة دستور لدولته ،
ينظم به سلطاتها وعقدها الاجتماعى ، فقد وجد نفسه بصدد كيان مهمة ، لا كيان دولة
يجرى تطبيعها ، والمهمة الحربية المفتوحة ، لا تتساوق مع بناء مجتمع مدنى مستقر ،
وكيان المهمة بلا حدود ، لا تحميه سوى العسكرة الدائمة ، والذهاب لملاقاة الخطر ،
وبغير حدود يمكن عقلنتها وتبريرها ، فالمهمة العدوانية بلا نهاية ، والدولة
بالتعريف ذات حدود نهائية معروفة ، والذين اجتمعوا فى الكيان من مشارب متنوعة
متناقضة ، بعضهم يؤمن بأساطير زيف من نوع "إسرائيل الكبرى" ، وبعضهم
الأكثر نفوذا يترك الأقواس مفتوحة،
ولا يستبقى من اليهودية سوى
معنى ثقافى ، يتسق مع دعوى الصهيونية ، التى تزعم أن اليهودية ليست مجرد ديانة ،
بل شعب وقومية وعرقية واحدة نقية ، وهو ما لا يقوم عليه دليل فى الواقع ، ولا فى
علم تطور الأجناس ، فلا "الأشكناز" الغربيون يشبهون "السفارديم"
الشرقيين والعرب ، ولا "يهود التوراة" الذين انقرضوا تقريبا ، يشبهون
المتهودين من نسل مملكة "الخزر" القروسطية فى شرق أوروبا ، وهم الكثرة
الغالبة بين يهود الغرب والمجلوبين منه ، وفى غابة التناقضات ، كان اللقاء الوحيد
الممكن على حد السيف ، وعلى ملتقى الحروب الناجحة المدعومة من الغرب بكل قوته ،
وحين توقف الفوز الحربى السريع ، بدأت التناقضات تطفو على السطح ، وتؤتى أكلها
السام فى العمق ، ولم يكن من فراغ ، أن "نفتالى بينيت" زعيم حزب "البيت
اليهودى" مثلا ، وهو ابن اليمين الدينى الإسرائيلى المهووس بأوهام التوراة ،
وإن كان يعادى "بنيامين نتنياهو" اليوم ، ويجد نفسه محشورا رغم أنفه فى
زمرة ما يسمى أحزاب وجماعات المركز والجنرالات واليسار، وتعتبر نفسها فى حرب مع
حلفاء "نتنياهو" الأشد تطرفا ويمينية ، وفى زحمة التباسات مختلطة
بالانهيارات ، بدا "نفتالى" هلعا على مصير "إسرائيل" كدولة ،
وقال أنها تواجه خطرا وجوديا غير مسبوق منذ حرب 1967 ، فقد كانت هذه الحرب آخر
انتصارات إسرائيل ، ولم تفز "إسرائيل" بعدها فى حرب أبدا ، لا فى حرب
الاستنزاف ولا فى حرب 1973 ولا فى حرب لبنان ولا فى حروب غزة الخمسة ، وها هى
اليوم ، ومنذ سنوات ، تواجه حربا من نوع مختلف فى الضفة والقدس والداخل المحتل منذ
نكبة 1948 ، أى أنها تواجه الحرب بين ظهرانيها ، وفى صلب فكرتها المتواطأ عليها
تلفيقا ، والتى لم تحسم أبدا هوية الدولة ، إلا بصياغات رجراجة على الورق ، فتعريف
"إسرائيل" لنفسها كدولة "يهودية" خالصة ، يواجه بحقيقة مختلفة
، هى أنها تحتل أرضا هى فلسطين التاريخية كلها إضافة للجولان ، غالبية سكانها من
الفلسطينيين العرب ، لا من اليهود المجلوبين ، ثم أن تعريف إسرائيل لنفسها أحيانا
كدولة "ديمقراطية" ، يواجه بحقيقة نافية للديمقراطية ، فلا تتسق
الديمقراطية مع الاحتلال والفصل العنصرى ، ثم أنه ليس من تعريف متفق عليه لليهودية
فى إسرائيل ، وتضخم اليمين اليهودى المتطرف يهدد بجعل "إسرائيل" إثنتين
لا واحدة ، "إسرائيل" لليهودية الأرثوذكسية "الحريدية "، و"إسرائيل"
أخرى لليهودية الثقافية و"الإصلاحية"، وبين "الإسرائيلتين" فصام
داخلى ، بدت فيه مشاهد الأسابيع الأخيرة العاصفة ، وتدفق مظاهرات الغضب من الطرفين
، المتدافعة إلى الشارع بمئات الألوف ، وكأنها تمهيد لصدام دموى ، تخوف معه بعضهم
من اندفاع "إسرائيل" إلى حرب أهلية بين "إسرائيل العلمانية" و"إسرائيل
الحاخامات" .
المحصلة إذن ، أنه لم
يكن للكيان الإسرائيلي أن يصل إلى حالة الإنشقاق الأخيرة ، وإلى دوامات الانفلات
الجامح ، الذى زحف من الشارع إلى صلب جيش الاحتلال نفسه ، لم يكن لذلك وسواه أن
يحدث فى التكوين الهجين، إلا تحت ضغوط خمسة عقود مضت من الشعور المتزايد بالإحباط
، وبتدنى فرص الفوز فى المقتلة ، التى بنى كيان المهمة الإسرائيلى على اتصالها ،
فالقصة أبعد من خلاف عابر باسم إصلاح أو تقويض القضاء و"المحكمة العليا"
، وأكبر من شهوة "نتنياهو" بالبقاء على رأس السلطة ، وعبر "هد حيل"
القضاء الذى يطارد جرائم فساده وخيانته للأمانة ، ولم يجد لذلك سبيلا ،غير التحالف
فى حكومته "السادسة" مع
المدانين بالإرهاب وأرباب
السوابق ، من نوع أحزاب "بن غفير" و"سموتيريتش" ، وكلهم يتلطى
تحت عناوين دينية من ماركة "العظمة اليهودية" و"الصهيونية الدينية"
، ويريدون أن يجعلوا من القضاء ظلالهم لا سيفا عليهم ، ويدركون بالغريزة أن
عقائدهم إجرامية ، وأن استتارها بالدين محض زيف ، لا يتساوق مع اعتبارات الدولة أى
دولة ، حتى لوكانت كيان مهمة كالكيان الإسرائيلي ، ولا حتى مع مخاتلات اللعب على
الحبال ، التى درج عليها زعماء "إسرائيل" الكبار والصغار ، وتسوية
التناقضات بتجاهلها غالبا ، وتوجيه طاقة التجمع الإسرائيلى للعدوان الهمجى على
الشعب الفلسطينى المقاوم ، وهو ما دفع فرقاء السطح "الإسرائيلى" للبحث
عن تسوية مع "نتنياهو" ، وتهدئة الاشتباك الداخلى بعد استعراضات القوة
التى جرت ، والتقاط مناورة "نتنياهو" بتأجيل مناقشة قوانين السيطرة على
القضاء فى "الكنيست" ، والبحث بالتفاوض عن صيغة وسطى ، قد لا يدوم أثرها
طويلا ، فاليمين الدينى المدعوم بتزايد متصل فى قوته الانتخابية ، استغل حتى فرصة
التهدئة لكسب قوة سلاح إضافية ، وإضافة ميليشيا باسم "الحرس الوطنى" ،
بعد تسليح مئات آلاف المستوطنين ، وفى حرب كبرى يتصورها ضد صحوة المقاومة
الفلسطينية ، لا يجد لها بديلا لكسب ما يسميه "إسرائيل الكبرى" ، التى
عرض بعضهم خريطتها المتضمنة للأردن ولما وراء الأردن ، وفى عوارض دفاع نفسى مع
اجتياح المخاوف للكيان الإسرائيلى ، واللجوء مجددا لحقيقته ككيان مهمة حربية دائمة
لا كدولة طبيعية ، بينما يحتمى الواهمون بطبيعية دولة إسرائيل وراء جدار رمزى اسمه
"المحكمة العليا" ، لا تعنى للفلسطينيين سوى حقيقتها كأداة قهر وتسويغ
احتلال ، يواجه كيانه انهيارات داخل لا مفر منها ، وإلى أن يقضى الله أمرا كان
مفعولا .
0 تعليقات