آخر الأخبار

وبدأت الحرب السودانية الكبرى.. الثقب الأسود السوداني والجبن الإماراتي المجاني.

 




مقال بقلم الكاتب / أشرف الصباغ

 

 

يواصل الثقب الأسود في السودان اتساعه بشكل مذهل. إذ تجري حرب إعلامية شرسة تقوم في مجملها على التضليل المتعمد من جهة، وتضارب المعلومات والتصريحات من جهة أخرى، مما يساهم في توسيع الثقب الأسود الإعلامي ويثير الكثير من الضبابية على الوضع القائم على الأرض داخل السودان. غير أن الأخطر يتمحور حول عدم استطاعة الأطراف الدولية الإلمام بالمشهد السوداني أو حتى بجزء منه، بنتيجة إصرار الطرافين المتحاربين على الانتصار الساحق. وهذا يعني غياب المعلومات التي من شأنها مساعدة الأطراف على صياغة مواقفها والانطلاق من حقائق على الأرض وليس من افتراضات.

 

هذا المشهد الضبابي المتعمد في جزء منه، يفرمل أي جهود دولية ويحول الأمر إلى تصريحات ومناشدات على الرغم من أن الجميع يعرف من يقف وراء قائد قوات الردع السريع محمد حمدان دقلو ومن يدعم قائد الجيش عبد الفتاح البرهان. لكن لا أحد يريد الحديث بشكل واضح وشفاف.

 

إن الطرف الأساسي الظاهر، على الأقل إلى الآن، الذي يحرك الأحداث هو دولة الإمارات العربية المتحدة. والقاهرة الرسمية تعرف ذلك جيدا. لكن يبدو أنه تم شل الطرف المصري لا لكي يتدخل في الصراع فقط، بل لكي يصادر أيضا أي مساحة لتحركه بشكل منفرد، ومن أجل وضعه ضمن أطراف أخرى أكثر تأثيرا ونفوذا، بصرف النظر عن المصالح المصرية المباشرة والتي تعني الكثير بالنسبة للقاهرة.

 

وبعيدا لغط وسائل الإعلام، وحالة التضليل وتضارب المعلومات والأخبار، فظهور “الصليب الأحمر الدولي” في المشهد، يؤكد منهجية التضليل الإعلامي من جهة، وتعقد المشهد من جهة أخرى بشكل مرعب. فالحرب ليست بين قوات الدعم السريع والجيش السوداني فقط، بل بين أطراف إقليمية، على رأسها مصر والإمارات أيضا. وهذه الحرب تأخذ شكلا “عقلانيا” إلى الآن مغلفا بالتصريحات والإعلانات الدبلوماسية وبالمناورات السياسية.

 

وزارة الخارجية المصرية أصدرت بيانا أشارت فيه إلى نجاح الجهود التي قامت بها بالتنسيق والتعاون مع دولة الإمارات العربية المتحدة لتأمين سلامة باقي الجنود المصريين المتواجدين في السودان. وقالت إن “الدولتين (مصر والإمارات) تعربان عن تقديرهما للصليب الأحمر الدولي لما بذله من جهود في دعم عملية تأمين سلامة الجنود المصريين”. ما يعني أن هناك أصلا وسيط بين القاهرة وأبو ظبي، وأن تعقد الأمور تطلب وساطة دولية بين بلدين هما مصر والإمارات.

 

البيان المصري- الإماراتي، قالت أيضا إن “هذه الخطوة تأتي في إطار موقف مصر والإمارات العربية المتحدة الداعم للتهدئة عبر التواصل المستمر مع الأطراف السودانية لضمان ضبط النفس ووقف التصعيد والعودة للمسار السياسي”. أي أن هذين الطرفين مطالبان بضبط النفس، ما يعني أنهما “متورطان” بشكل أو بآخر في تلك الأحداث. أو بلغة دبلوماسية، من المحتمل أن يتورط أحدهما أو كلاهما في الأحداث بشكل ظاهر ومباشر. ولذلك وجب التنويه والتحذير.

 

وأكدت الدولتان على “التزام جمهورية مصر العربية ودولة الإمارات العربية المتحدة بمواصلة جهودهما الرامية إلى وقف الاقتتال وحماية المدنيين والمنشآت المدنية”، مشددتين على “أهمية تكثيف الجهود الهادفة للعودة للإطار السياسي والحوار لحل جميع الخلافات والمضي قدماً في المرحلة الانتقالية وصولا إلى الاستقرار السياسي والأمني المنشود في السودان”.

 

هكذا يبدو البيان في قراءة أولية، كدعوة لضبط النفس وعدم “التهور”. وبالتالي، فمن الواضح أن القاهرة تجاوزت الخطوط الحمراء التي وضعتها دولة الإمارات المتنفذة داخل السودان والداعمة بشكل واضح وصريح لقوات الدعم السريع بقيادة حميدتي. وتجاوز مصر الخطوط الحمراء يعني لدى الإمارات، أنها قامت ليس فقط بإرسال قوات لإجراء تدريبات مع الجيش السوداني، بل وأيضا لأنها تميل لدعم الجيش السوداني بقيادة البرهان. ويبدو أن الإمارات أبلغت مصر بطرق مختلفة وعلى مستويات رفيعة للغاية بعدم رضائها، لا عن خطوة التدريبات، ولا عن موقف القاهرة التي لا تعترف بقوات الردع السريع الموالية للإمارات، ولا عن دعم القاهرة لعبد الفتاح البرهان. ويبدو أن القاهرة كان لديها موقف آخر، الأمر الذي قاد إلى أحداث “ارتهان” الجنود المصريين، والقيام بمناورات لفرملة القاهرة حتى عن التفكير في أي تحرك.
هذا هو المشهد الذي لا يريد أحد الاقتراب منه بسبب شراسة اللوبيات الإماراتية المؤثرة، سواء داخل السودان ومصر أو خارجهما، وبسبب الفساد الإعلامي والسياسي، وبسبب الأموال الضخمة التي يتم ضخها، ليس فقط من الإمارات، لاختراق كل مستويات السلطة في مصر. وفي الحقيقة، فالإمارات ضخت أمولا هائلة على شكل معونات ومساعدات وودائع واستثمارات، ووراء المعلن، يتم ضخ أموال أخرى و”هدايا” و”امتيازات” و”كوميشنات”. ومن الطبيعي أن تحصل الإمارات على المقابل، سواء من الدولة وقياداتها، أو من اللوبيات التي تخدمها وتخدم مصالحها. هذه هي السياسة الكبرى، بعيدا عن أخي الشقيق، وأخي فلان، وحبيبي الذي فعل كذا وكيت من أجلي ومن أجل شعبي! هذا الكلام لا قيمة له ولا يغني أو يسمن من جوع. فالسياسة هي السياسة، والمصالح هي المصالح.. وهذا هو المستوى الثاني من المشهد الموجع والمثير للتساؤلات.

 

أما المشهد السوداني، فهو يوضح مَنْ المتحكم، ومن المسيطر، ومن الذي يملي إرادته! وفي هذه المرة، تم ابتزاز القاهرة بما حدث لجنودها الذين لا يمارسون السياسة، وإنما ينفذون أوامر لها علاقة بطبيعة عملهم ومهامهم ومهنتهم. فالجنود المصريون لم يمارسوا السياسة، ولا ينبغي أن محاسبتهم على أنهم أصحاب قرار، لأن التفكير وفق هذا النسق سيعرض أصحابه للاتهام بقصر النظر والحماقة و”الترصد” و”التصيد”. ولهذا السبب تحديدا، يجب عمل كل شيء لإعادة الجنود المصريين إلى بلادهم. وينبغي “فصل اللحم عن الذباب”، وعدم الخلط أو التشفي.

 

من الواضح أن الإمارات انتصرت على الأقل إلى الآن في المشهد السوداني الذي يبدو أنه في بدايته فقط. وكان ثمن هذا الانتصار هو دماء السودانيين وتخريب السودان وتحويله إلى “ثقب أسود”، وهو ما لا يتمناه أي أحد عاقل لا لأسباب عاطفية، وإنما لأسباب برجماتية تماما. وكان جزء من هذا الثمن، ما جرى للجنود المصريين، والمتاجرة الإعلامية بذلك إمعانا في تعميق العداء لمصر والمصريين في أوساط النخب السودانية، وفي أوساط الرأي العام. وفي النهاية تم وضع مصر- كدولة- في هذا المأزق السخيف.

 

إن بيان الخارجية المصرية، ومحاولة “لفلفة” المشهد في رداء “دبلوماسي” باستخدام مصطلحات “دبلوماسية ناعمة”، يخفي وراءه مشهدا آخر عنيفا ينطوي على صراع إرادات ولوي أذرع بين الإمارات ومصر. ولكن هكذا هي السياسة الكبرى التي لا تتضمن إطلاقا كلمات من قبيل “أخي وشقيقي”، وإنما تتضمن مفهوم “اليقظة الكاملة” للمصالح الوطنية والقومية، والانطلاق منها حصرا حتى في أحلك اللحظات وأكثرها تشابكا، بل وحتى في أسوأ الأزمات الاقتصادية التي تعاني منها البلاد. وغالبية الأدبيات السياسية تعرف جيدا المثل القائل بأنه “لا يوجد جبن مجاني إلا في مصيدة الفئران”!

 

قد يستمر “التقاتل الداخلي” في السودان على صورته الحالية، بدون تدخل واضح ومباشر من قوى خارجية، ولكن ليس لفترة طويلة، وليس حتى النهاية، لأن الحرب القائمة هناك نشبت منذ البداية بمساعدة أطراف خارجية. ومن السذاجة أن يتصور أو يأمل أحد بأن يظل الصراع داخليا، لأن الطرفين بالفعل يلقيان دعما، حتى وإن كان محدودا، من أطرف أخرى. وهذه الأطراف لا تزال إقليمية، لكنها تعتمد أيضا على أطراف أخرى أكبر وأكثر نفوذا. تلك الأطراف الكبرى تقف مثل الصقور حاليا، تنتظر من الذي سيبدأ التدخل! وقد تكون روسيا هي الدولة الوحيدة التي كشفت عن وجهها بشكل سافر بتوجيه رسالة “غريبة” من مؤسس شركة “فاجنر” العسكرية يفجيني بريجوجين إلى الأطراف السودانية المتقاتلة، وهي رسالة ساذجة وتآمرية و”وقحة” تحاول أن تبدو محايدة، على الرغم من معرفة العالم كله بعلاقة بريجوجين وفصائل “فاجنر” بقوات الردع السريع، وبعلاقة حميدتي بموسكو، وبعلاقة الإمارات بكل من “فاجنر” و”حميدتي” ودورها في النزاعات الإقليمية، وخاصة في ليبيا.

 

أما الأخطر فهو فتح ليبيا على السودان. وهو ما يجري حاليا، بتوريط الجنرال خليفة حفتر وتحويله إلى وكيل رسمي معلن لكل من روسيا والإمارات، وإشراكه في إمداد قوات الردع السريع بالأسلحة والمعدات و”الأفراد”، وبفتح الطرق لمقاتلي “فاجنر” المتواجدين في ليبيا للتواصل مع “رفاقهم” المتواجدين في السودان. وبذلك يتحول حفتر من قائد للجيش الليبي إلى “مأجور” يحارب بالوكالة، مضحيا بتحالفاته، وبالتزاماته التي أعلن عنها تجاه ليبيا كدولة وكشعب. هذه النقلة الخطيرة تعتبر أحد المؤشرات التي تؤكد أن “الاقتتال” السوداني يتجه نحو الاستمرار والتطور والاتساع. وتؤكد أيضا أن لا حديث عن مفاوضات أو تسويات، لأن هناك أطرافا، ربما تكون قد خططت بشكل مسبق، أو استغلت الوضع القائم، من أجل فتح جبهة جديدة كامتداد لما يجري في أوكرانيا، أو لإشعال شرق أفريقيا ومنطقة البحر الأحمر، وتحويلهما إلى ساحة قتال لأطراف إقليمية ودولية متعددة. وبالمرة من أجل تخفيف الضغط على روسيا في حربها الأوكرانية.

 

في الحقيقة، وإذا أردنا وضع النقاط على الحروف، هناك جبهة تكاد تكون واضحة، تعلن عن نفسها في تحدٍ وبشكلٍ تدريجي. هذه الجبهة تحديدا هي التي تحاول استفزاز الأطراف الإقليمية والدولية الأخرى للتدخل في الحرب السودانية القائمة، وتبحث عن مبررات “أخلاقية” و”سرديات” سياسية واقتصادية وأمنية، لتبرير ما ستفعله قريبا. وهناك أيضا أمر واقع تمت صياغته في السودان وفي الدول المحيطة بالسودان، سواء بخصوص سد النهضة والأزمة بين مصر وأثيوبيا، أو الصراعات الروسية الغربية في أفريقيا، او وجود فصائل فاجنر في أكثر من عشر دول أفريقية معظمها قريب من الحدود السودانية. هذا الأمر الواقع الذي تمت صياغته، يجري استخدامه تدريجيا من أجل صياغة السرديات والمبررات لتعميق الجرح السوداني، وتحويل السودان إلى “ثقب أسود” حقيقي.

 

ومرة أخرى، يطرح المثل نفسه: “لا يوجد جبن مجاني إلا في مصيدة الفئران”، لكنه موجه هذه المرة ليس إلى القاهرة التي يكلها الجبن أثمانا باهظة، وإنما إلى المقبلين على “مصيدة الفئران” من أمثال محمد حمدان دقلو، وإلى عبد الفتاح البرهان، وإلى من سيفوز في هذه الحرب القذرة التي سيكون الخاسر الوحيد فيها هو السودان، والشعب السوداني.

إرسال تعليق

0 تعليقات