آخر الأخبار

في ظروف داخلية مأزومة بأثر الأزمة الاقتصادية المتفاقمة، وانسداد الحياة السياسية يطرح سؤال المستقبل نفسه مجدداً : مصر إلى أين ؟

 




عبدالله السناوي

 

 

القواعد والأصول قبل الأحاديث المخاتلة عن الانتخابات الرئاسية .

 

بطبائع الأمور، فإن العام الذي يسبق الانتخابات الرئاسية، هنا أو في أي مكان بالعالم، يستدعي إلى النقاش العام البرامج والتصورات وسلامة الإجراءات لتكون حرة ونزيهة .

 

إذا غابت القواعد والأصول، تفقد الانتخابات صدقيتها، وحُرمتها، وتستحيل إلى ألعاب سيرك لا تؤسس لأية شرعية، وتسحب من كل رصيد .

 

بالقرب من الموعد المقرر للانتخابات الرئاسية، تتبدى مخاوف مشروعة من إعادة إنتاج أجواء انتخابات (2018)، التي انتفت فيها أية منافسة محتملة بالاستبعاد القسري .

 

كانت تلك الأجواء تعبيراً عن ضيق بالغ بأية قواعد ديمقراطية، أو بأي قدر من التنافس السياسي .

 

ما هو ضروري وعاجل، لإكساب الانتخابات الرئاسية المقبلة صدقيتها، واحترامها ألا تكون استعراضاً لرجل واحد، وأن تتوافر فرص متكافئة في المنافسة .

 

كانت الدعوة إلى “ الحوار الوطني ” فرصة لتحسين البيئة العامة المسمومة وضخ دماء جديدة في شرايين السياسة المتصلبة، لكنها دخلت في أنفاق ودهاليز حتى كادت أن تزهق روحها .

 

لا عقدت جلسة واحدة ولا تبدت مخرجات، لف ودوران في المكان، إجراءات تتلوها إجراءات، ولجان تتفرع عنها لجان .

 

جرت إفراجات عن عدد كبير نسبياً من مسجوني الرأي، وكان ذلك مؤشراً على أن الحوار قد يأخذ منحى جدياً .

 

بذلت وعود بأن يتسع مدى الإفراجات قبل بدء الحوار، لتشمل شخصيات مؤثرة حضورها يساعد على رفع منسوب الثقة العامة في جدية الحوار .

 

لم يكن ذلك شرطاً مسبقاً ، بل من متطلبات إنجاحه .

 

تعطلت وعود الإفراجات، وبدا محتملاً أن “ الحركة المدنية ” الطرف الرئيسي الآخر، الذي يمثل المعارضة الحقيقية،

 

قد يعلن انسحابه من الحوار محملاً سلطات الدولة مسئولية إفشاله بالتراجع عما تعهدت به .

 

الأخطر أن هناك من ذهب إلى أن وجود المعارضة ليس مهماً ولا ضرورياً ، فسوف يمضي الحوار بهم أو بغيرهم، كأن السلطة تحاور نفسها !

 

المشكلة هنا أن أحداً في مصر، ولا في العالم سوف ينظر بأي اعتبار، أو احترام للحوار، وتتأكد المخاوف المسبقة من أنه قد يكون “ خدعة ” .

 

إفشال الحوار الوطني شهادة مسبقة على نوع الانتخابات الرئاسية المقبلة، أو أنها سوف تكون نسخة جديدة، ومشوهة من انتخابات عام (2005)، التي قيل عنها أنها أول انتخابات رئاسية تنافسية !

 

قبل أن يطل القرن الحادي والعشرين أجريت عام (1999)، انتخابات تعددية شكلية في تونس واليمن على التوالي .

 

جرت احتفالات دعائية بالتجربتين، دون أن تكون هناك انتخابات تستحق أن تنسب إلى طلب الديمقراطية .

 

بعد ستة أعوام استٌنسِخت في مصر تجربة ثالثة، غير أن الأحوال في المنطقة كانت قد تغيرت، كأن زلزالاً استراتيجياً ضربها إثر احتلال العاصمة العراقية بغداد عام (2003).

 

في ذلك الوقت تبلورت استراتيجية أمريكية جديدة، عَزت الكراهية المتصاعدة للولايات المتحدة بالمنطقة للنظم الحليفة التي تدعمها واشنطن .

 

كانت تلك إجابة على سؤال : “ لماذا يكرهوننا ؟ ”، الذي طرأ في أعقاب أحداث (11) سبتمبر (2001).

 

بعد احتلال العراق بهدف إعادة هندسة المنطقة من جديد تفكيكاً وتقسيماً، تصاعدت الضغوط الأمريكية على نظام الحكم في مصر؛ لإجراء انتخابات تعددية، جدية وتنافسية، غير أنه كانت هناك أسباب، ودواع داخلية ضاغطة تدفع لتغيير في طبيعة الحكم، نشأت حركات احتجاجية أهمها “ الحركة المصرية من أجل التغيير– كفاية ”، وعلت الأصوات المطالبة بتغيير حقيقي في بنية نظام استهلك زمانه وقدرته على البقاء .

 

في ذلك العام تصور نظام الحكم في (25) مايو– ليوم أو اثنين- أن تعديل الدستور في مادته السادسة والسبعين، بما يسمح بانتخاب رئيس الجمهورية، عن طريق الاقتراع السري العام المباشر بين أكثر من مرشح كاف، وزيادة لتخفيف الضغوط الأمريكية، وامتصاص احتقان الداخل .

 

تصورت قوى المعارضة– ليوم أو يومين- أن تعديلاً محدوداً في الدستور بإلغاء نظام الاستفتاء، ستصحبه بالضرورة تعديلات أخرى تحدث تغييراً جوهرياً في قواعد اللعبة السياسية .

 

رهانات الحكم أخفقت سريعاً ، ورهانات المعارضة دخلت في مأزق

لا الحكم كان بوارد تبني فكرة التغيير بأي قدر، ولا المعارضة أبدت حماساً لدخول انتخابات، يلعب فيها المنافسون المفترضون أدوار الكومبارس في مسرحية هزلية .

وصل الأمر في تحفظ الأحزاب الرئيسية على فكرة “ المشاركة بأي ثمن وبأية طريقة ”، إلى حد اعتبار المترشحين في مثل هذه الظروف غير مكتملي الأهلية، وربما يكون لديهم بعض خلل عقلى !

 

كان مثيراً للالتفات أن الجرائد المملوكة للدولة، حاولت أن توحي للرأي العام أن الإدارة الأمريكية ترحب بخطوة الرئيس، وأخذت تلتقط من هنا وهناك أية عبارة لدبلوماسي أمريكي تشيد بالتطور الديمقراطي في مصر !

 

لم يكن ذلك دقيقاً أو حقيقياً .

 

بتاريخ 8 مارس (2005) ألقى الرئيس الأمريكي “جورج دبليو بوش”: خطابا كاشفا تطرق فيه إلى أن هناك فرصة سانحة، لإجراء انتخابات رئاسية تنافسية تعددية في مصر، ومحذراً من أنه “ إذا أريد لهذه الانتخابات أن تكون حرة، فلا بد من إباحة حرية عقد المؤتمرات، والسماح بنزول مرشحين متعددين وإتاحة الفرصة أمامهم جميعاً في وسائل الإعلام، مع إطلاق حق إنشاء الأحزاب السياسية ”.

 

كانت تلك التصريحات أقرب إلى التعليمات، فيما هو مطلوب من النظام المصري .

 

مضت الصحافة الأمريكية إلى أبعد من ذلك بوصف “ مبارك ” بـ “ الديكتاتور ”، وأن خطوته بتعديل محدود في الدستور خدعة والتفافاً على مطالب الإصلاح .

 

دون مساحيق تجميل، أو محاولة لحفظ ماء وجه، بدأت أصوات نافذة تتحدث –علناً– عن أن نظام “ مبارك ” بات عبئاً على الاستراتيجية الأمريكية في المنطقة .

 

أعدت مجلة “ النيوزويك ” الأمريكية ملفاً كاملاً حول التطورات الجديدة في الشرق الأوسط، اعتبرت فيه مصر من أقل الدول تمتعاً بالحريات العامة، وأن “ نظام مبارك يفتقر إلى الشعبية، لكنه ليس محتقراً كنظم عربية أخرى ”.

 

كتبت بالنص : “ لو أن الشعب المصري عبر عن آرائه، الشارع المصري الحقيقي وليس إعلام مبارك، الذي تسيطر عليه الدولة، فربما اكتشفنا أن سخطه الأعمق ينصب على رئيس مصر، لا رئيس الولايات المتحدة الأمريكية ”.

 

لم يكن ذلك -بدوره- حقيقياً أو دقيقاً .

 

كانت رياح التغيير في مصر تطلب الانتقال من عصر إلى عصر ومن نظام إلى آخر دون أن تفقد بوصلتها في معارضة السياسات الأمريكية .

 

بحسب ما نقلته “ النيوزويك ” عن “ كونداليزا رايس ” مستشارة الأمن القومي، التي تولت وزارة الخارجية تالياً ، فإن “ المنطقة تربي الإرهاب لأنها أظهرت عوامل عجز عميقة سببتها عقود من القمع، وتغييب التحديث السياسي، والاقتصادي، والاجتماعي ”.
جرت محاولة توظيف بوادر “ الربيع الديمقراطي في العالم العربي ”، لمقتضيات الاستراتيجية الأمريكية لتقسيم المنطقة، وتخفيف موجات الكراهية بالعمل على إطاحة الحكام المستبدين؛ لإرضاء الشعوب .

 

تصور عتاة اليمين المحافظ أن الشعوب العربية غير معنية
حقاً بالقضية الفلسطينية، أو بالمقاومة العراقية، أو بالسياسات الأمريكية بالمنطقة، ولا حتى بإسرائيل، وأنه إذا أتيحت أمامها فرص مناقشة أحوالها الداخلية، فسوف تنسى سريعاً أية قضايا أخرى !

 

في ثنايا الكلام الأمريكي تبدت الاستراتيجية الجديدة، التي سعت لإعادة ترتيب المنطقة من جديد بأقل تكاليف ممكنة رهاناً على إزاحة النظم المكروهة .

 

جرت تقاطعات بين الدعوات الأمريكية للإصلاح وبين مطالب المعارضة الوطنية في مصر، غير أن الأهداف تناقضت .

 

في ذلك الوقت تبدى قدر التباين بين الصحافتين الأمريكية، والإسرائيلية في الموقف من نظام “ مبارك ”، الأولى: ذهبت أغلبها بعيداً في انتقاده والثانية : حاولت في معظمها الدفاع عنه .
لماذا…؟

 

أقرب الإجابات للصحة، أنه قد تبلورت في الولايات المتحدة استراتيجية، تدعو لإعادة النظر في النظم الحليفة، التي باتت عبئاً عليها، فيما إسرائيل تطلب مصر الضعيفة، لا مصر القوية .
في تلك الأجواء، بدأت تتصاعد نبرة الاحتجاجات التي تبنتها حركة “ كفاية ”، مستمدة شعاراتها في رفض “ التوريثو” التمديد ”، من حملات صحيفة “ العربي ”.

 

تبدت خشية داخل نظام الحكم، من أن تؤدي المظاهرات المتكررة إلى تصاعد جديد لضغوط الخارج بما يفوق طاقته على الاحتمال .

 

لم تكن سياسة المراوحة بين قمع التظاهرات، والسماح بها تصلح لبناء رؤية جديدة تقنع الرأي العام المحبط بأي إصلاح محتمل .

 

كان أقصى ما تستطيعه استهلاك الوقت، فربما تنصت الولايات المتحدة، لما تراه القيادة السياسية في مصر بخصوص الإصلاح السياسي– على ما صرح وزير الخارجية في ذلك الوقت “ أحمد أبو الغيط ”، غير أن تلك الإدارة– على لسان وزيرة خارجيتها “ كونداليزا رايس ”، أكدت أن “ الوضع الراهن لم يعد من الممكن الدفاع عنه، وينبغي أن يكون هناك استعداد للتحرك صوب اتجاه آخر ”.

 

في حوار مطول لـ “ رايس ” مع الـ” واشنطن بوست ” قالت : “ لا نخشى وصول الإسلاميين– أو المتطرفين– إلى الحكم، وأن التطرف يكمن في غياب قنوات النشاط السياسي أو الاجتماعي ”.
كان ذلك التصريح تطوراً استراتيجياً خطيراً بتداعياته ونتائجه .
توافرت في الانتخابات الرئاسية (2012)، التي أعقبت ثورة يناير، قواعد وأصول لم تتوافر في الانتخابات التي سبقتها، غير أن نتائجها سرعان ما تصادمت مع نظرة ضيقة لجماعة “الإخوان المسلمين”، إلى الديمقراطية باعتبارها سلماً للصعود إلى السلطة، تكوش بعده على الدولة وتستبد بالحياة السياسية كلها .

 

في ظروف داخلية مأزومة بأثر الأزمة الاقتصادية المتفاقمة، وانسداد الحياة السياسية يطرح سؤال المستقبل نفسه مجدداً : مصر إلى أين ؟

 

وفي ظروف دولية، وإقليمية متغيرة تتبدى خشية من أن يستحيل البلد العريق بإرث تاريخه إلى

 

 رجل المنطقة المريض ”، وهذا بدوره يطرح نفس السؤال .

 

العودة إلى “ استعراض الرجل الواحد ” باسم الانتخابات الرئاسية، لا يساعد على التماسك ويفاقم أزمة الشرعية، التي لا تحتملها مصر في أوقاتها الصعبة .

 

 

إرسال تعليق

0 تعليقات