عرف المسلمون بلاد
الصين مبكرًا، إذ جاء في السجلات الصينية أن سفيرًا مسلمًا من قبل الخليفة عثمان
بن عفان رضي الله عنه مثل بين يدي إمبراطور الصين تانغ قاو تسونغ في بلاطه في
عاصمته مدينة تشانغان، بينما ظلت مجهولة لدى عامة الأوروبيين إلى أن زارها
الإيطالي ماركو بولو في نحو القرن الثالث عشر من الميلاد.
سكن البشر الصين منذ
أقدم العصور، وأزهرت الحضارة في وادي النهر الأصفر قبل نحو سبعة آلاف عام، إذا
كشفت أعمال التنقيب الأثرية عن العديد من مواقع القرى التي تعود إلى هذه الفترة في
إقليم خنان في وادي النهر الأصفر، وقد عرف سكان هذه القرى الزراعة ودجنوا
الحيوانات وصنعوا الفخار.
في القرن الحادي
والعشرين قبل الميلاد، تأسست أولى الدول المركزية الصينية على يد سلاسة شيا، والتي
استمدت شرعيتها من نجاح مؤسسها، يو العظيم Yu،
في توحيد قرى ومدن وادي النهر الأصفر، والأهم أنه قام بمشروعات ري روض بها النهر
الأصفر الذي اعتاد فيضانه على جرف القرى وتدمير المزارع. ولقد ظل يُنظر إلى سلالة
شيا باعتبارها سلالة حاكمة أسطورية مكانها الخيال الشعبي وليس التاريخ، ولكن أدلة
أثرية ظهرت في الستينات والسبعينات من القرن العشرين أكدت تاريخية هذه السلالة
الحاكمة الأولى في تاريخ الصين.
السلالات الحاكمة
الأولى
اعتمد المؤرخ غالبًا
على تقسيم التاريخ الصيني القديم إلى فترات، كل فترة تقابل مدة حكم واحدة من السلالات
الحاكمة للصين، ولكن لا ينبغي أن نفهم أن وصول سلالة حاكمة لعرش الصين يعني انتهاء
حكم السابقة، في كثير من الأحوال كانت السلالة السابقة تظل تحكم بعض أجزاء الصين،
بينما تهيمن السلالة الجديدة على أكثر الصين.
أرست سلالة شيا قواعد
الحكم الوراثي في الصين، وكونت طبقة من النبلاء والعسكريين الذين سكنوا المدن، وقد
استمر حكم هذه السلالة حتى القرن السابع عشر قبل الميلاد، حيث أُطيح بها وحلت
محلها سلالة شانغ. وفي عهد هذه السلالة طُورت الكتابة الصينية، وازدهرت العمارة
والفلسفة، كما ظهرت في هذه الحقبة عبادة الأسلاف وكان الصينيون قبلها وثنيون
يعبدون مجمع من الآلهة يترأسها معبودهم شانغتي، والذي كان ينظر له باعتباره الجد
الأول للبشر ومن علم الإنسان الزراعة والبناء والكتابة وأول من أنشأ مدينة وحكمها،
وفي عهد سلالة شانغ، بدأ يُنظر الإمبراطور كواسطة بين عالم البشر وعالم الآلهة.
حكمت سلالة شانغ
الصين نحو ستمائة عام، وفي عام 1046 ق.م وصلت سلالة زو إلى عرش الصين بعد ثورة
قادها زعيمها وو Wu أطاحت بحكم سلالة شانغ. كان وصول سلالة زو
إلى العرش بقوة السلاح داعيًا لغيرها من الأسر النبيلة إلى تكرار التجربة، وهو ما
أنذر بالفوضى، ولذلك لجأت سلالة زو إلى ابتداع نظرية وكيل السماء، أو تيانمينج
باللغة الصينية التقليدية، لتكون مستندًا لشرعيتهم، ولضمان استمرار العرش في
سلالتهم، وتعتبر هذه النظرية النظير الصيني لنظرية الحكم بالحق الإلهي التي استند
إليها ملوك أوروبا المسيحيين في العصور الوسطى، فالسماء هي من تختار الإمبراطور
وتزوده بالحكمة والقوة السماويتين لينوب عنها في حكم الأرض، فالإمبراطور غير مدين
لأحد بعرشه، وغير مسئول أمام أحد غير السماء نفسها، والتي يملك هو نفسه الحق
الحصري لمخاطبتها وتفسير خطابها، وتنتقل الخصائص السماوية من الإمبراطور إلى ولي
عهده الذي يختاره، وتزهر عندما يجلس ولي العهد على العرش ويصبح إمبراطورًا.
الربيع والخريف
عاشت الصين بين القرن
الخامس قبل الميلاد والقرن الثامن قبل الميلاد حقبة عرفت في الأدبيات الصينية باسم
حقبة الربيع والخريف، ولعلها أسميت بهذا الاسم لأنها عجت بالمتناقضات، فهي فترة
تناحر سياسي وحرب أهلية، وفي الوقت نفسه فترة ازدهار ثقافي.
يؤَرخ لبدء هذه
الحقبة باتخاذ سلالة زو مدينة لواويانك عاصمة لهم، في الوقت نفسه الذي ضعفت فيه
السلطة المركزية في الأقاليم، مما مكن حكام الأقاليم من الاستقلال بما يحكموه عن
سلطة الإمبراطور، وإن لم يستطع أي من هؤلاء الحكام ادعاء سلطة الإمبراطور باعتباره
وكيل السماء، وتكونت نتيجة هذا الوضع سبعة دولة متناحرة فيما بينها، وإن ظلت سلالة
زو هي السلالة الحاكمة الشرعية للبلاد. وفي هذا العصر، مضى الصينيون في تطوير
كتابتهم، وتحسين العجلة التي سبق أن اخترعوها، كما بدأ سبك الحديد واستخدامه على
نطاق واسع في أنحاء الصين، كما ظهر فلاسفة الصين العظام مثل كونفوشيوس ولاوتزي،
وإلى هذه الفترة نفسه ينتمي المفكر العسكري صن تسو صاحب كتاب فن الحرب.
الإمبراطور عدو
الفلسفة
وفي عام 221 ق.م، نجح
أحد أمراء الحرب الأقوياء واسمه تشي هيوانغدي في إلحاق الهزيمة بكل خصومة،
وأخاضعهم لحكمه، ليصبح الإمبراطور الأول من سلال تشين، السلالة التي اشتق اسم
الصين منها، ومستهلًا ما يعرف في التاريخ الصيني بالعصر الإمبراطوري، والذي سوف
يمتد حتى الإطاحة بحكم آخر أباطرة الصين عام 1912.
كان تشي هيوانغدي،
حاكمًا مثاليًا بمقاييس عصره، فهو عسكري بارع وشجاع، وإداريًا عادل قدير، وأيضًا
طاغية قاس. وفي عهده قام بهدم الاسوار التي بناها أمراء الحرب حول ممتلكاتهم
ممزقين بها وحدة الصين، وشرع في بناء سور واحد يحيط بكامل الصين ليحميها من
الأعداء الخارجيين، وهو السور الذي سوف يعرف باسم سور الصين العظيم فيما بعد؛
وأنشأ شبكة طرق معبدة غطت كامل الصين، كان هدفه منها مساعدة في نقل جيوشه بسهولة،
ولكنها ساعدت التجارة بين أقاليم الصين على الازدهار؛ وأنشأ مشاريع ري عظيمة خاصة
في جنوب البلاد، وقسم الأراضي التي كان يحتكرها أمراء الحرب بين المزارعين. ولكن
من ناحية أخرى، شدد تشي هيوانغدي على أنه وكيل السماء، وقمع جميع المثقفين من
أتباع كونفوشيوس ولاوتزي، والذين في الوقت مثلوا معظم الجهاز البيروقراطي لدولته،
ولم يتثن إلا أتباع شانغ يانغ، وهو فليسوف صيني حبس نفسه في الفلسفة القانونية،
فكان أتباعه بيروقراطيين مثاليين دون اهتمامات بشرعية حكمة ولا جدية عقيدة وكيل
السماء، وفي مرحلة متأخرة من عهده، أقدم تشي هيوانغدي، بتحريض من وزيره لي سيو،
على حرق كافة الكتب في الصين، عدا هذه سجلات الدولة والمحاكم.
وفي نهاية حياته،
سيطر على الإمبراطور جنون العظمة، وساورته طموحات الخلود، فراح ينقب على اكسير
الخلود في كل مكان، ولما بدي له عبث مسعاة، أراد أن يضمن عظمته في العالم الآخر،
فأنشأ قبر في صورة قصر فاخرًا، ضمن مجسمات فخارية ملونة لثمانية آلاف محارب بكامل
عتادهم ليكونوا في خدمته في العالم الآخر.
سلالة هان وصعود
الكونفوشية
كان خلفاء تشي
هيوانغدي ضعافًا، محاطين بطبقة من البيروقراطية الخانعة عديمة الكفاءة، فعادت
الحرب الأهلية من جديد لتنتهي عام 202 ق.م بتقلد غاوتزو العرش، ليصبح أول أباطرة
سلالة هان. كان أباطرة هان أكثر كفاءة وحكمة من تشي هيوانغدي، ففرضوا السلام في
الصين، وتسامحوا مع الأسر التي قاتلت ضدهم في الحرب الأهلية، وإن أصروا على حل
جيوش هذه الأسر؛ وكان أكثر عهدهم رخاء، فوجهوا نشاطهم إلى نشر التعليم بين أفراد
الشعب، ونظموا الضرائب والقضاء، وأصلحوا الطرق وشبكات الري، وقاموا بتعبيد وحماية
الطريق الممتد من الصين حتى منتصف آسيا، والذي سوف يعرف لاحقًا باسم طريق الحرير.
وفي عهد سلالة هان
ازدهرت الثقافة، خاصة بعد اختراع الورق، وقام بعض حكام سلالة هان بأول محاولة لجمع
وتدوين تاريخ الصين، ولكن مصداقية ما قدمه موضوع بحث المؤرخين، إذ أن تشي هيوانغدي
كان قد أحرق كافة مصادر التاريخ الصيني، وما أعتمد عليه آل هان في تدوين تاريخ
الصين كان الروايات الشفهية، والتي شابه غرض الراوي؛ وإلى جانب الكتابة التاريخية،
دون العديد من الشعراء والقصاص أعمالهم، كما حظي المدونات الطبية بمكانة خاصة في
مكتبة سلالة هان.
منذ أن جلس غاوتزو
على عرش الصين، أعلن التسامح مع كافة العقائد، وكان هو نفسه كونفوشيًا، وكانت
الكونفوشية الغالبة على بلاطه، وفي عهد خلفه وو تي، أعلنت الكونفوشية عقيدة البلاد
الرسمية، وإن تسامحت الدولة مع أتباع العقائد الأخرى؛ ولكن بمضي الوقت على عهد
سلالة هان، أعادت الطبقة الحاكمة أنتاج الكونفوشية لتعزز من حقوقها المدعاة في
الهيمنة على الأرض والحكومة، وهو ما أدى إلى انحصار الكونفوشية بين الشعب، وحل
محلها الطاوية، المأخوذة من فلسفة لاوتزي، لتصبح عقيدة الشعب.
واقترب الصدام.
ثورة نهاية العالم
في منتصف القرن
الثاني من الميلاد، ضرب سلسلة من موجات الجفاف والفيضانات المتعقبة شمال الصين،
مما دمر المجتمعات الزراعية في هذه الأنحاء، ونزح كثير ممن فقدوا قراهم ومزارعهم
نحو الجنوب، مما تسبب في أزمة اقتصادية؛ في الوقت نفسه كانت سلالة هان قد وصلت إلى
الدرك الأسفل من الانحطاط، فسيطرت أوهام العظمة على حكامها، ودفعتهم لشن سلسلة من
الحملات العسكرية على جيرانهم، حملات انتهت بالفشل وافلاس الخزينة الحكومية، وهو
ما حاول حكومة هان الفاسدة تعويضه بفرض مزيد من الضرائب، ومصادرة الأراضي من
الفلاحين.
وفي عام 184 م، ثار
أحد معلمي الطاوية، ويدعى زانج يو، وتلاميذه، ضد سلالة هان، وكان زانج يو يبشر بين
أتباعه بأن الكوارث التي ضربت الصين مقدمة لنهاية العالم، ما لم يتدخل الناس
لإعادة العدل إلى نصابه؛ وأنضم لثورة زانج يو جموع غفيرة من الفلاحين والبسطاء
والجنود، وكذلك
من النبلاء وكبار الموظفين،
وعرفت ثورتهم باسم ثورة العمائم الصفراء، لأنهم كانوا يضعون على رؤوسهم عمائم
صفراء ويرتدون الملابس الصفراء؛ وتظهر الأسماء التي نعت بها الثوار قائدهم بموقفهم
الرافض لعقيدة وكيل السماء التي امدت الإمبراطور وحكومته الفاشلة بالشرعية
والحماية، فكانوا يطلقون علي زانج يو اسم المعلم العظيم وقائد الشعب ووكيل الأرض.
استغرقت جيوش سلالة
هان نحو خمسة عشرة سنة في قمع الثورة، ولكن الثورة كانت في الواقع تستنزف آخر قوة
سلالة هان، وبعد انتهاء الثورة بنحو ثلاثين سنة، سقطت أسرة هان نفسها، وبذلك يكون
قد أنتهى تاريخ الصين القديم، وبدأ العصر الوسيط في الصين، تتابعت فيه على الصين
سلالات حاكمة حكمت الصين موحدة تارة، ومتفرقة متنازعة تارات كثيرة.
لكم تحياتي
د. وسام الدين
محمد
التاسع عشر من ربيع
الآخر 1443هـ
الرابع والعشرين من
نوفمبر
0 تعليقات