فى صباح اليوم التالى لوقوع
حادثة إطلاق الجندى المصرى الشهيد لطلقات رشاشه على مجندين صهاينة حاولوا عبور الحدود
المصرية فتعقبهم وأردى منهم ثلاثة قتلى حسب البيانات الرسمية الإسرائيلية المصرية
، قبل أن يسقط هو شهيدا برصاصات إسرائيلية ..
، أردت كتابة تحية إلى الجندى المصرى البطل الشهيد ، أحببت أن أعرف
اسمه وشخصه وسمت وجهه وإذ بى كلما قرأت اسما اتضح لى أنه ليس له ، وانما لجندى آخر
سقط كشهيد للوطنية فى معارك الإرهاب ، حتى صورته التى انتشرت بكثافة شديدة على
المنصات الإخبارية ومواقع التواصل الإجتماعى فى اليومين الأولين التاليين
لاستشهاده اتضح أنها كانت لشخص آخر هو الجندى المصرى أيمن حسن الذى قتل عدد من
الجنود والضباط الاسرائيليين على نقطة الحدود المصرية بعد أن استفزته إساءتهم
لوطنه عبر تحرشهم المستهزئ بالعلم المصرى فى عام ١٩٩٠ فقدمته السلطات المصرية
للمحاكمة وحكم عليه بالسجن وخرج بعد عشر سنوات ..
وقعت انا فى نفس المشكلة عندما
وضعت الصورة المتداولة الأولى التى اتضح أنها صورة الجندى أيمن حسن صورة لغلافى
على موقع الفيسبوك ثم حذفتها بعد أن اتضح لى أنها ليست له
، ثم تم بعد ذلك تداول أكثر من صورة أخرى ، على التوالى لليوم
الثالث على وقوع الحدث ليتضح بعد ذلك أنها جميعا ليست له
بالطبع عملية البحث الشديدة
التى يقوم بها المصريون على مؤشرات البحث الالكترونى تأتى على خلفية عدم الإعلان
الرسمي المصرى عن شخصية الجندى المصرى الشهيد حتى الآن تزامناً مع
عدم إعلان قيادة الجيش الصهيونى
عن شخصيتة باعتبار أن سلطاته العسكرية لاتزال تحتفظ بجثمانه الطاهر حتى تاريخه .
، ومنذ الإعلان عن الحدث هبت عاصفة شعبية مصرية وعربية شديدة من
البحث عن شخصية الجندى المصرى الشهيد فى مؤشرات البحث وفى المواقع والمنصات
الألكترونية سواءً المصرية والعربية أو حتى العبرية والأجنبية
.
وبالتزامن مع حمى
البحث العاصف اندفع التدفق الهادر لكلمات التحية والثناء على روح أبطال الوقائع
المشابهة والتى تطرقت إلى روح البطل المصرى الشهيد الخالد الجندى سليمان خاطر
وامتدت لتستعيد حكاية الشهيد سعد إدريس حلاوه مروراً بالجندي المصري
أيمن حسن صاحب نسخة عام ١٩٩٠ من
الحدث ذاته ..
لتتدفق أمام أجيال جديدة لم
تشهد أحداثها ووقائعها صور سعد إدريس وسليمان خاطر ليعاد بعثهما من جديد كما بعث
الشيخ امام ومحمد حمام أمام أجيال جديدة فى ٢٥ يناير ٢٠١١ بعد أن كانت قد اقتربت من
النسيان بفعل الحظر الرسمي المطلق لإعمالهما ، وكأن من أرادو إخفاء المعلومات عن الناس
بخصوص هوية الجندى المصرى ايقظوا - دون أن يدروا - بركاناً عاصفاً كان كامناً فى
الذاكرة المصرية ..
الذاكرة الشعبية
ولاسيما المصرية إذن لاتعرف الحظر وتتمرد على كل آليات المحو والتجهيل
والتغطية على مالاترغب السلطات بأن يتردد فى أوساط الشعب وهاهى (أى الذاكرة
الوطنية الشعبية) تنتفض فى لحظة لتعيد الحضور للأعمال والأسماء والأبطال ولنجد أنفسنا أمام
انبعاث جديد لأسماء وصور وحكايات ووقائع منها حادثة البطل الشعبى المصرى سعد إدريس
حلاوه أول إنسان شعبى مصرى يقدم روحه كعربون مبدئى لمقاومة خطوات تطبيع العلاقات
مع الدولة الصهيونية المصطنعة بواسطة قوى الهيمنة الإستعمارية ، ومنذ اللحظات
الأولى لبدء عملية التطبيع عندما طالع سعد فى الجرائد الحكومية التى صدرت في إحدى
صباحات فبراير ١٩٨٠ صورة السادات وهو يستقبل إلياهو اليسار أول سفير اسرائيلى بعد
عقد اتفاقيات كامب ديڤيد لينطلق (حلاوة) الإنسان القروى البسيط
فى نفس اليوم متأبطاً حقيبته
التى كانت تحوي مع رشاشه اليدوى ميكرفوناً وجهاز كاسيت وشرائط كاست تحمل أغان
وطنية لعبد الحليم حافظ وام كلثوم وغيرهما وخطب للزعيم الوطنى الراحل جمال عبد
الناصر ليدخل مبنى الوحدة المحلية لقريته ويحتل الدور الثالث من البناية وليبدأ فى
إطلاق إذاعته الوطنية على القرية التى اقامها فى تلك البناية التى احتلها ليذيع
بياناته التى ترفض تطبيع العلاقات مع الصهاينة وسط فقرات من الاغانى الوطنية
ومقتطفات من خطب جمال عبد الناصر مذكراً الجميع بماارتكبته اسرائيل من جرائم فى حق الشعب
المصرى مرددا قصص مجزرة مدرسة بحر البقر ومحرقة عمال مصنع أبى زعبل بنيران طائرات
الفانتوم والسكاى هوك ، مطالباً بطرد السفير المصرى إلى أن توجه وزير الداخلية
المصرى وقتها على رأس قوات الأمن المركزى وتمت مداهمته بزخات طلقات الرشاشات بمجرد
أن لوح لهم من إحدى نوافذ البناية مستسلماً فتم إردائه جثة هامدة تملؤها ثقوب
طلقات المدافع بعد اقتحام المكان ..
أيضا فقد تألقت هذه
الأيام صورة سليمان خاطر بعد ان استحضرتها ذاكرة المصريين فاثبتت أن حضوره قد ظل حضورا خالدا فى
الذاكرة الوطنية الشعبية المصرية رغم مرورعشرات السنوات ..
وايقظ ذلك فى ذاكرتى (وربما على
نحو مماثل فى ذاكرة الكثيرين من جيلى) تلك الصورة التى ظلت متشبثة بجدران بيتنا
القديم إلى أن تركناه بعد أن قمت بلصق البوستر الذى يحمل صورته مكتوبا بأسفلها (سليمان
خاطر بطل شنقته قيود كامب ديڤيد..) وبغراء نشوى قاوم أيادى مخبرى حملتى إلقاءالقبض
على ضمن زملاء كثيرين من مناضلى اليسار المصرى خلال ماتبقى من عقد ثمانينات القرن
الماضى ..
سليمان خاطر الجندى
الذى استبق واقعة استشهاد بطل
الأمس القريب والذى لم تفصح البيانات الرسمية المصرية (حتى كتابة هذا المقال) عن
شخصه ، وقبل ثمانية وثلاثين عاماً من حدث الثالث من يونيو 2023 ، فى أواخر أيام ١٩٨٥
عندما كان سليمان خاطر ذلك القروى ابن محافظة الشرقية التى شهدت إحدى ابشع المجازر
فى التاريخ وهى مجزرة بحر البقر التى راح ضحيتها المئات من تلاميذ مدرسة بحر البقر
الإبتدائية والتى سجلتها العبقرية المصرية الشعرية لصلاح چاهين فى قصيدته الشهيرة
التى غنتها المطربة شاديه (الدرس انتهى لموا الكراريس(.
سليمان خاطر الذى شب
وفى عقله صور أقرانه واترابه وزملائه من تلاميذ مدرسة بحر البقر وهم
جثثاً مدماة تحت حجارة جدران حوائط واسقف فصول المدرسة الإبتدائية وشاهد كراريسا
واقلاما وحقائب مدرسيا متسربلة بدماء الضحايا وربما بحث مع جيرانه عن بقايا أعضاء
متناثرة لزملائه التلاميذ الضحايا ، ليصبح سليمان – فيمابعد - جندياً مصرياً على
الحدود المصرية مع فلسطين المحتلة وتستفزه مشاهد الصهاينة وهم يرتعون على حدود
سيناء عابثين ملوحين له بأقذر الإشارات وأكثرها إهانة واستفزازاً للكرامة
الإنسانية والوطنية ..
أطلق سليمان خاطر
رصاصاته على الصهاينة وقتل منهم من قتل واصاب منهم من أصاب ، فتم القبض عليه
لمحاكمته محاكمة عسكرية وسط تضامن شعبى ضخم معه ، ثم لم يلبث أياماً معدودات على
الأصبع فى سجنه حتى أعلنت السلطات المصرية عن أنه قد وجد مشنوقاً فى زنزانته فى
حدث من الأحداث الأشد غموضاً فى تاريخنا الوطنى .
استشهد سليمان خاطر
إذن وبعد مرور خمس سنوات على استشهاد سعد إدريس حلاوه ، وبعدها بحوالى أربع أو خمس
سنوات فقط كانت موقعة الجندى أيمن حسن.
وقد يبدو الأمر فى
حدود العلم الجنائى عبارة عن أحداث فردية لارابط بينها سوى تشابه وقائع العداء
للدولة الصهيونية والرفض التام للتطبيع معها ..
ولكن باستخدام علوم
التحليل الطبيعى والإجتماعى والسياسى نستطيع أن نقدر أن مثل هذه الأحداث وإن كانت
عفوية وفردية لاتحمل أى طابع سياسي منظم ولاأى دافع إيديولوجى إلا أنها تعبر عن (تنفيسات)
ظاهرية لحقيقة شعبية كامنة ومستقرة فى الوجدان الشعبى ..
كل هذا يدلل على أمر
واحد .. هو أن الشعب
المصرى يخلد فى عمق ذاكرته الوطنية البطولات الشعبية حتى ولو كانت على غير هوى السلطات
الرسمية ومهما كانت محاولات طمس هذه الأسماء بقصصها ووقائعها ، وقبل ذلك كله
فالمصريون يثبتون
يوماً بعد يوم وسنوات بعد سنوات أنهم لاينسون دماء شهدائهم ولم ينسون ضحايا
العدوان الصهيونى واحتلاله لأراضيهم والأراضي العربية ولاينسون أن الدولة
الصهيونية قد قامت بكلفة باهظة على الشعب المصرى لازال يعانى أثارها حتى الآن
وأن التطبيع بضاعة فاسدة وبائرة
لن يشتريها المصريون ولم ولن يقبلوا باعتها ولاالمروجين لها مهما كانت المغريات
وتعددت اشكال العرض طالما أنها بضاعة صنعها لصوص الحقوق مصنوعة بدماء الضحايا ،
وان السلام الحقيقي الذى يعنى عودة الحقوق لأصحابها لم يتحقق بعد ..
ولذلك فلازالت حمى
البحث عن اسم شخصية واسم وصورة الجندى المصرى الشهيد لليوم الخامس على التوالى
مشتعلة ومتواصلة ولاتهدأ .
ومع هذا البحث بعثت
من جديد كلمات الشاعر الشهير نزار قباني التى كتبها كرثاء لحظى للبطل الشعبى سعد
إدريس حلاوه أول من سقط من المصريين ضحية لمقاومة التطبيع ..
يقول نزار قباني :
)... جمجمة مصرية كانت بحجم
الكبرياء وحجم الكرة الأرضية
إنه خنجر سليمان الحلبي المسافر
قي رئتي الجنرال كليبر
هو كلام مصر الممنوعة من الكلام
وصحافة مصر التي لا تصدر
وكتاب مصر الذين لا يكتبون
وطلاب مصر الذين لا يتظاهرون
ودموع مصر الممنوعة من الانحدار
وأحزانها الممنوعة من الانفجار ..)
كانت هذه كلمات من
كتبها نزار قباني التى أراها
تفصح ليس عن سعد حلاوه وحده وانما يتجسد فيها الشهيد سليمان خاطر وتعبر عن مكنون
الجندى أيمن حسن وبطلنا الأخير (الشهيد محمد صلاح) إن صح وظهر أن اسمه بالفعل هو
محمد صلاح كما تداولته المنصات والصحف الإسرائيلية ويتداوله المصريون اليوم عبر
كتاباتهم وتغريداتهم على مواقع التواصل الإجتماعى مع تزامنا مع بعض جهود الكشف عن
معلومات عنه باستخدام صفحته على الفيسبوك وأيا كان الأسم فكلمات نزار قبانى قد
استبقتنا جميعا للإشارة إليه إنه هو
(جمجمة مصرية بحجم الكبرياء)
____________
حمدى عبد العزيز
يونيو ٢٠٢٣
0 تعليقات