آخر الأخبار

الحقيقة الغائبة الأستاذ والطالب أو الولي والوريث لكشف 2/2



الحقيقة الغائبة

الأستاذ والطالب
أو
الولي والوريث لكشف 2/2





الزركانى البدرى 


ولفهم أجواء صدور هذه النصوص لا بد من الإلمام بفكرة عن أحداث تلك الفترة وظروفها، وإلا ستصبح بعض النصوص مبتورة وغير مفهومة، كما تعسّر فهم كثير من نصوص المعصومين (عليهم السلام)؛ لأن الأصحاب لم ينقلوا معها ظروفها وأجواء صدورها.
وخير من يحدثنا عن تلك الفترة سماحة الشيخ نفسه حيث عاشها من موقع المسؤولية والقيادة التي تكلل عملها بالنجاح والتوفيق بفضل الله سبحانه، فكان في قلب الأحداث وليس على هامشها، وننقل هنا نصوصاً من مذكراته، حيث خصص الفصل السادس منها لمرحلة ما بعد استشهاد السيد الصدر (قدس سره) حتى سقوط الصنم الصدامي، وسوف ننقل المقدار المرتبط بصدور هذه الخطابات والتوجيهات والبيانات.
قال دام ظله: ((رحل(1) عنا السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) وترك وراءه فراغاً كبيراً، وهالنا وقع المفاجأة، فقد كان المرجع والقائد والأستاذ والأب والمربي والرمز والأمل، وكان الركن الشديد الذي نأوي إليه إذا أحزبنا أمر، أو داهمتنا الخطوب، أو استعصت علينا مسألة، أو أشكلت علينا معضلة، وقد كانت مصيبة كل واحد منا بقدر معرفته به (قدس سره) وبمقدار ما نهل من علومه ومعارفه وأخلاقه، وبمقدار ما علق عليه (قدس سره) من آمال، فسكبنا ما شاء الله تعالى من الدموع، وانطوت جوانحنا على ما يعلمه الله تعالى من الآلام والهموم.
وتحول مرقد السيد الشهيد (قدس سره) إلى محل يجتمع فيه يومياً آلاف المفجوعين من أتباعه، وآخرون أحسوا بالندم؛ لأنهم لم ينصروه، ولم يشاركوا في حركته، وسمعوا فيه كلام الباغين والحاسدين، ويُلقي الشعراء المراثي ويقابلهم الحضور بالبكاء واللطم على الصدور، والسلطة تراقب عن كثب، ولا تتدخل لامتصاص زخم الجماهير الغاضبة، ولسان حالهم: (فلقد قضيت من الحسين ديوني)، وأخذت الأعداد تتزايد عندما رفع الحصار عن النجف بعد أسبوعين تقريباً، وبدأت أعداد كبيرة تفد من المحافظات، واستمر هذا الحال إلى الأربعين، الذي صادف قرب زيارة الغدير، وهي زيارة ضخمة إلى مرقد أمير المؤمنين (عليه السلام)، ومن ثمّ انتشر جلاوزة السلطة حول المرقد الشريف، ونشروا سيطرات عسكرية لمنع وصول الناس إليه.
وبإزاء هذه المشاعر العامة كان عندي إحساس من نوع خاص، إنه الشعور بالمسؤولية تجاه المشروع الإصلاحي الذي اختطه السيد الشهيد (قدس سره) وتوجيه الحركة الإسلامية المتنامية في العراق، وكنت أرى أن التصدي لهذه المسؤولية منحصراً بي، حيث ارتعدت فرائص الآخرين من الخوف، ولم يجرأوا حتى على فتح أبواب دورهم عندما طرقها ذوو السيد الشهيد (قدس سره) المفجوعون ليلة الاستشهاد، وهم شباب لا تجربة لهم، وطلبوا مساعدتهم والصلاة على جثمانه الطاهر، فحرموا من هذا الفضل العظيم.
وقد اقترن هذا الإحساس بتكليفي بحمل هذه الأمانة بقرائن وجدانية، من خلال ما أفاض الله تعالى علي من الطمأنينة وقوة القلب ورباطة الجأش واستصغار الدنيا والطامعين فيها وعبدة الطاغوت - مهما كان جبروتهم - والحكمة في التصرف، مما لم أكن أعهده من قبل، وفهمت بالوجدان ما روي عن الإمام الهادي (عليه السلام) حينما قال لجلسائه يوماً – وهو في المدينة – الآن توفي أبي الجواد (عليه السلام)، قيل: وكيف علمت يا ابن رسول الله وأبوك في بغداد؟ فقال (عليه السلام): لقد داخلني من الهيبة لله تبارك وتعالى ما لم أكن أحسه من قبل، فعلمت أنني أصبحت الإمام الفعلي(2) الإمام بعد وفاة أبي (عليه السلام).
فانضم هذا الإحساس الوجداني إلى ما أعلنه السيد الشهيد(قدس سره) مراراً وفي أكثر من موطن وموقف، وبصيغ متنوعة لحوزته وأتباعه ولعموم الأمة في تعيين القائد البديل – كما كان يكرر (قدس سره)، وقد ذكرنا تفصيل ذلك في الفصل الرابع من هذه المذكرات، حيث كان يدعو باستمرار إلى الرجوع إلى البديل الذي يعده من طلابه قيادةً آنذاك، حتى لو لم يشهد باجتهاده؛ لحاجة الحوزة والمجتمع إلى من يقودهما ويرتب أمورهما والرجوع إلى مجتهد آخر لإبراء الذمة، حتى يشهد باجتهاده فيكون الرجوع إليه تقليداً وقيادةً لأنه الأعلم.
وكان هذا الاستخلاف للقيادة النائبة مبنياً على تقييم دقيق لاستحقاقات المرجعية القائدة علمياً وأخلاقياً وفكرياً واجتماعياً امتدّ لفترة خمسة عشرة عاماً(3)، أما المستوى الأخلاقي والفكري والحركي فيكشف عنه كتابا (قناديل العارفين) و(الشهيد الصدر الثاني كما أعرفه) وأما المستوى العلمي فقد كان النبوغ واضحاً منذ البداية وصدر في عامي 1418- 1419هـ (1998م) كتابان مهمان حظيا بالثناء والإعجاب، أولهما كتاب (المشتق عند الأصوليين) وتضمن تقرير أبحاث السيد الشهيد الصدر(قدس سره) في علم الأصول مع بعض المداخلات، وقد أعجب به السيد الشهيد(قدس سره) وجعله من أجزاء دورته الأصولية (منهج الأصول) مستغنياً به عن كتاباته (قدس سره).
وثانيهما كتاب (الرياضيات للفقيه) وهو فريد في بابه لذا نال إعجاب المراجع والعلماء بما تضمن من تحقيقات فقهية وأصولية ورياضيات معمقة لا يوجد من يجمعها، وناقشت فيه أساتذتي المراجع وقد شهد به السيد الصدر (قدس سره) وأوضح في بحثه الخارج – في صلاة الجمعة – عندما ناقش مسألة الفرسخ(4) وقال عنه أنه نقل الفقه من الحيض والنفاس إلى الآفاق العلمية العالية، كما أثنى المراجع الآخرون في كلمات نحتفظ بها، فكانت هذه الوثائق الإثباتية مستندة إلى حقائق ثبوتية واقعية بفضل الله تبارك وتعالى، حيث لم يعرف عن السيد الشهيد(قدس سره) المجاملة والمداهنة خصوصاً في مثل هذه الأمور المصيرية التي كان تقييمه للآخرين فيها صريحاً وواضحاً وتحمل بسبب ذلك ما تحمل.
وكانت هذه المنزلة المتقدمة للشيخ اليعقوبي معلومة لدى جميع المقربين منه (قدس سره) ولدى كل المطلعين على حركة السيد الشهيد (قدس سره) حتى خصومه، وبرز ذلك بشكل واضح في مجلس تلقي التعازي وقراءة سورة الفاتحة على روحه الطاهرة الذي أقيم في جامع صافي صفا، فقد كان سماحة الشيخ من يتلقى التعازي، ولما حان وقت صلاتي المغرب والعشاء أجمع ذوو السيد الشهيد(قدس سره) والعاملون في مكتبه وأتباعه ومريدوه على تقديم سماحة الشيخ لإمامة الصلاة إعلاناً لكونه المقدم عليهم بعد رحيله (قدس سره).
وكان من بقي من أنجال السيد الشهيد (قدس سره) –بعد استشهاده ومعه ولداه مصطفى ومؤمل - يحفظ لي هذه المنزلة ما دام بعيداً عن المتعصبين والحاسدين والمتملقين، فقد أمر – كما تقدم – بأن أتولى الصلاة على الجثمان الطاهر للسيد الشهيد (قدس سره) والإشراف على تغسيله وتجهيزه ودفنه، كما رغب أن أجلس في المقعد المجاور لموضع جلوس السيد الشهيد في الغرفة الكبيرة، ووضعنا صورته في مكانه، وجلست إلى جانبها لاستقبال المعزّين طيلة أربعين يوماً.
وفي مساء اليوم الثالث حيث انتهى مجلس العزاء اجتمع كل العاملين في المكتب للمداولة في كيفية الاستمرار بالعمل، وكان الجميع يتعاملون مع سماحة الشيخ على أنه كبيرهم والمقدم عليهم وواجهة العمل في مكتب السيد الشهيد(قدس سره) وكان مما طلبوا: الاستفادة من الزخم العاطفي لحادث الاستشهاد وإقامة صلاة الجمعة في الكوفة ومواصلة الخط الحماسي الذي صنعه(قدس سره) في نفوس الجماهير المؤمنة.
وكان من رأيي أن هذا غير ممكن ولا جدوى منه بعد المنع الذي أبلغه لنا صريحاً في مجلس الفاتحة الوفد الذي بعثه المقبور صدام وضم مسؤولين كبار في نظامه لتقديم التعازي، فليس من الحكمة الاصطدام المباشر مع النظام الطائش المتفرعن الذي لا يتورع عن ارتكاب أية جريمة، وما زالت دماء السيد الشهيد(قدس سره) طرية، وذكرت شاهداً تصرف الإمام السجاد (عليه السلام) لما أستقبله أهل الكوفة بالعويل والبكاء بعد استشهاد أبيه الإمام الحسين (عليه السلام) وعرضوا نصرتهم عليه ضد الطاغية ابن زياد فرفض ذلك، فلا بد إذن من العمل بآليات جديدة تديم الحركة الإسلامية وتنميها تمهيداً لإقامة دولة العدل الإلهي، وتصون أبناءها من بطش الطاغوت إلى أن يقضي الله أمراً.

-----------------

(1)   استشهد السيد الصدر (قدس سره) مساء الجمعة 3/ ذو القعدة / 1419هـ المصادف 19/ 2/ 1999م كما هو معلوم. وقد خصَّص سماحته الفصل الخامس من مذكراته لشرح تفاصيل ليلة الاستشهاد حتى تولى الصلاة على جثمانه الطاهر، ونُشرت ضمن كتاب (السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) كما أعرفه).
(2)   أراد الإمام (عليه السلام) بهذا أن فترة إمامته الشريفة قد بدأت، ومثله حديث آخر عن صفوان أنه سأل الإمام الرضا (عليه السلام) (عن الإمام متى يعلم أنه إمام؟ قال: يعلم ذلك حين يمضي صاحبه، قلت: بأي شيء؟ قال: يلهمه الله). وحديث آخر عن هارون بن الفضل قال: (رأيت أبا الحسن علي بن محمد في اليوم الذي توفي فيه أبو جعفر عليه السلام فقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، مضى أبو جعفر عليه السلام، فقيل له: وكيف عرفت؟ قال: لأنه تداخلني ذلة لله لم أكن أعرفها) (الكافي:1/381، باب: في أن الإمام متى يعلم أن الأمر قد صار إليه، ح4،5).
(3) لاحظ جذور ذلك منذ عام 1985م في كتاب (السيد الشهيد الصدر الثاني (قدس سره) كما أعرفه)، وكتاب (قناديل العارفين): المقدمة.
(4) محاضرة بتأريخ 1-2/شعبان/1419هـ الموافق 21/11/1998.




إرسال تعليق

0 تعليقات