آخر الأخبار

الانتقام من التاريخ


الانتقام من التاريخ








محمد عبدالله


في كلمات قليلة لخص مسئول الدعاية والإعلام في العصر النازي 'جوبلز' كيفية اختصار المعارك والحروب في كتابه 'قذائف الورق' قائلا: (إذا أردت أن تقضي علي شعب فلابد أولا أن تقضي علي تاريخه وأساطيره) .

وكان الفيلسوف الإغريقي أرسطو ينصح تلميذه الاسكندر الأكبر بضرورة دراسة أساطير وتراث وأغاني أي دولة يريد غزوها حتي يستطيع أن يفهم هذه الشعوب التي سيقوم باحتلالها.لذلك لم يكن غريبا أن يكون التراث هو أول أهداف أي مستعمر نزل أراضي العرب والإسلام.

فمنذ اللحظة الأولي التي دخلت فيها قوات الاحتلال الأمريكية بلاد الرافدين كان هدفها الأول سرقة التاريخ وتطبيق مقولة 'جوبلز' والقضاء علي تراث الشعب العراقي .. وسرقة المتحف الرئيسي بمدينة بغداد.والأهم أن تركيز هذه القوات كان علي كل أثر يخص اليهود في فترة السبي البابلي.إذن لم يكن الهدف هو مجرد ثروة العراق المادية من البترول والأرض والزرع ولكن الأهم هو الذاكرة.


وقبل المشهد العراقي وما تم فيه من جرائم وانتقام من تاريخنا كانت العصابات الصهيونية قد اغتصبت تاريخ فلسطين وتراثه قبل أن تحتل الأرض.
وكانت أهم مهام عناصر الاستخبارات الإسرائيلية حتي قبل إعلان اغتصاب فلسطين رسميا هو نهب وطمس هوية وتاريخ وتراث الشعب الفلسطيني ومحاولة إثبات أن اليهود هم أصل شعوب المنطقة لا العرب .. ويكفي الرجوع في هذا المجال لما ذكره الإرهابيون الأوائل للكيان الصهيوني أمثال: تيودور هرتزل وبن جوريون ومناحم بيجين وموشي ديان حول ضرورة مسخ وإزالة الهوية الفلسطينية وضرورة الاستيلاء علي تراث هذا الشعب وسرقته.وهاهي القدس يتم تهويدها وتتم تهيئة الأجواء لبناء هيكل سليمان وهدم المسجد الأقصي وسط صمت عربي وإسلامي يدعو للصدمة.ومع ما تم في العراق وفلسطين تقوم الدعاية الصهيونية بمحاولات مستميتة للاستيلاء علي الآثار المصرية وان لم تفلح في ذلك فهي تقوم بتخريبيها ولم تكن كلمات مناحم بيجين عندما زار مصر في نهاية السبعينيات حول ان اليهود بناة الأهرامات مجرد استهلاك محلي أو مجرد دعاية .. ولكنها تعبر عن توجه حقيقي يؤكد أن تاريخ وتراث المصريين لن يكونا في مأمن عن السطو الصهيوني.إذن لنعترف أنهم نجحوا في مخطط يتم منذ عشرات السنين لإثبات أن اليهود هم أصحاب الحضارات وغيرهم من 'الجوييم' مجرد عبيد .. ونجحوا في تحويل الأساطير المؤسسة لكيانهم إلي ثوابت تاريخية يقتنع بها العالم بأسره ومازلنا نشجب وندين ونستنكر.إذن هي حرب ضد التاريخ بل هي انتقام من التاريخ واغتصاب للماضي العربي بعظمته وتراثه .. ومحاولة لتعليق الجرس في رقابنا بدعوي أن التراث الإسلامي ليس إلا مجموعة من الأحكام والعبادات التي تحض علي القتل والإرهاب وأن تراث المقاومة ما هو إلا تقنين وشرعنة لمنطق الغاب والهمجية.وللأسف فقد بادرنا بحلق رءوسنا وتبرأنا من هذا التاريخ والتراث طواعية ودون تفكير بل وسلمنا بأننا نحمل في داخلنا جينات الإرهاب الفكري ومعاداة الحضارة.والأمر الذي يدعو للدهشة ان العرب والمسلمين استجابوا لذلك وقبلوا أن يستقوا تاريخهم وتراثهم من خلال الرؤية العنصرية الأمريكية الصهيونية ومن خلال بعض المستشرقين الذين وضعوا أنفسهم وتاريخهم الأكاديمي في خدمة اليهود .. ولعل أشهر نموذج لهؤلاء المستشرقين هو الدكتور برنارد لويس الذي يعتبر المحرك الأساسي لمشروع الإمبراطورية الأمريكية وأخطر المبشرين والمنظرين لنظرية 'صراع الحضارات' التي اعترف صمويل هنتنجتون أنه استقي مبادئها من أفكار برنارد لويس.ويكفي ان نذكر ما قاله عنه أحد صقور المحافظين الجدد صاحب فضيحة البنك الدولي 'وولفويتز' في حفل أقامته جامعة تل أبيب عام 2002 لتكريم برنارد لويس حيث قال 'لقد علٌمنا برنارد لويس كيف نفهم التاريخ المعقد والمهم للشرق الأوسط وكيف نستعمله أي التاريخ ليوجهنا إلي المرحلة القادمة من أجل بناء عالم أفضل لأجيالنا القادمة'.




إن لويس وبكل ما يمثله من عداء للعرب والإسلام لم يأخذ حقه من منظور علمي من النقد والتحليل والترجمة والرد.برنارد لويس صاحب نظرية 'الفوضي الخلاقة' كانت أطروحته للماجستير عن طائفة 'الإسماعيلية' أو 'الحشاشين' تلك الطائفة التي أشاعت الفوضي في أركان دولة الخلافة الإسلامية حتي أسقطتها.

لقد فهم الأمريكيون تاريخنا وتراثنا جيدا ثم أعادوا إنتاجه وصدوره لنا مغلفا برؤية صهيونية تصب في النهاية في خندق التجهيل وطمس الهوية .. فأعضاء الإدارة الأمريكية الحالية أو القادمة ما هم إلا وجهان لعملة واحدة .. كلهم استنساخ لأفكار برنارد لويس وليفي شتراوس وفوكوياما وهنتنجتون .. قد تتغير الوجوه ولكن الأفكار لن تتغير.وحتي عندما يحاول بعضهم إظهار حياده الأكاديمي أو أنه يراجع أفكاره مثل مقولة 'نهاية التاريخ' التي أطلقها فرانسيس فوكوياما ثم عاد ونقضها بدافع كما يقول البعض من حياده كأكاديمي .. أراه يتنافي مع واقع طاحونة الحرب الفكرية للمحافظين الجدد.فنهاية التاريخ كنظرية كانت تعني وقوف أمريكا عند حدودها وبعد سقوط الاتحاد السوفيتي محور الشر وسبب ظلام العالم كما كانت تردد ماكينة الحرب الأمريكية.

ان نهاية التاريخ كانت تعني أيضا خسارة كبيرة لصناعة السلاح ولوبي النفط والشركات متعددة الجنسيات ولذلك كان يجب إدارة معركة مقابلة من جانب مراكز الأبحاث التابعة لجماعات المصالح التي يمتلكها لوبي النفط والسلاح .. الذي انتصر لنظرية صراع الحضارات وبذلك تصبح المعركة القادمة ضد العرب والمسلمين خطوة فقط ووسيلة وليست غاية حتي تصل أمريكا إلي حدود الصين مستخدمة نظرية صراع الحضارات وربما تعود بنا من جديد لمحور الشر الصيني باعتباره يأجوج ومأجوج .. وهي فكرة توظيف التراث لخدمة الآلة العسكرية.وتعتبر مؤسسة التراث من أهم مؤسسات المحافظين الجدد وأخطرها علي الإطلاق ولنلاحظ أنهم استخدموا كلمة 'تراث' .. تراث من؟! .. أمريكا .. فهل لأمريكا تراث؟!.لقد لعبت هذه المؤسسة دورا خطيرا في توجيه الرأي العام الأمريكي منذ السبعينيات وهي الآن تقوم بإعداد العالم لمعركة هرمجدون من خلال نشر أبحاثها وعلمائها ومنظريها لنشر فكر اليمين المحافظ في العالم .. خاصة أوربا وأفريقيا من خلال التعاون مع 200 منظمة ومجموعة أجنبية ولعلنا هنا نذكر بأن مشروع نشر الديمقراطية في الشرق الأوسط الذي أطلقه وزير الخارجية السابق 'كولن باول' خرج من مؤسسة التراث .. التي تعد إحدى أذرع المخابرات الأمريكية.إننا أمام واقع مرير ومؤلم يتعامل معنا فيه أصحاب التوجه الميكيافيللي الشتراوسي بمنطق خطير من التنميط والتربص ينتهي بإثبات أن فشل العرب والمسلمين في تحديات الحداثة و'العولمة' يرجع إلي تمسكهم بتراثهم وتاريخهم وبالتالي أصبح واجبا علينا أن نعتبر التاريخ العربي والإسلامي رجسا لا نقبله أو نقربه.وفي المقابل يذهب التراث ضحية لخلافات سياسية نضع أمامها ألف علامة استفهام أليس ما يحدث بين فتح وحماس من إهدار وتخريب متعمد وإهمال للتراث الفلسطيني يثير التساؤلات .. أين تراث فلسطين؟! ..



هل نحميه بالقتال المستمر بين حركة فتح وحماس؟! .. أين المراكز البحثية الفلسطينية؟! .. كيف نرد علي الصهاينة أمام العالم بأن هذه أرض عربية ولا يوجد مركز فلسطيني قادر علي الرد؟!

إن القدس تتعرض للتهويد وطمس الهوية والتراث.ونسيت فتح وحماس أن التراث قد يكون شرعية لمن لا شرعية له .. ودعما قويا وسندا لمن يرعاه ومحرقة لمن يهمله أو يسلمه للأعداء.إننا نتعامل مع التراث بنوع من التخبط والتناقض وبدون خطة واضحة أو موقف واضح من تجديد ونشر هذا التراث وعدم وجود إستراتيجية واضحة المعالم في التعامل معه جعلنا نعتبره نقيضا للحضارة والتقدم. ورغم تعدد مراكز التراث علي مستوي العالم العربي والإسلامي إلا أنها لم تحصل علي الدعم الكافي لوضع استراتيجيه منظمة للاهتمام بالمخطوطات التي يهتم بها الغرب أكثر منا .. فمصادر التاريخ الإسلامي التي يعتمد عليها الباحثون لا تتعدي15 % من إجمالي المصادر الموجودة.إننا في حاجة إلي مؤسسة ضخمة لرعاية التراث لان القادم لا يحتمل الانتظار ..

 والحرب القادمة هي حرب التاريخ والذاكرة .. وإلا فالبديل أن نكون نحن يهود التاريخ.



إرسال تعليق

0 تعليقات