الثمانينيات .. سيرة السنوات المنسية
محمد قياتى
السبعينيات أيضا لا تمحى من الذاكرة، الجيش المصري يعزف أنشودة النصر العسكري في أكتوبر، بنطلونات الشارلستون تبقى علامة على عقد الجنون، سعاد كانت هناك أيضا تؤكد " الدنيا ربيع "، والسادات يفتح أحضان القاهرة عنوة لأصدقائه الجدد أصحاب النجمة السداسية، ويفتح أبوابها لطوفان التطرف والإرهاب، نجيب سرور يكفر بالجميع ويسب الجميع ويعري الجميع ويموت وحيدا وحزينا ومقهورا، وأمل دنقل يصرخ في الرئيس المؤمن " لا تصالح " لكنه فعلها ، ميرفت ولبلة وصفاء وسهير سيتنافسن في ارتداء المايوهات والميكرو جيب، والمهندس وعوض ورضا سيتصدرون الأفيشيات، فلعل الضحك والعري يصلح ما أفسدته السياسة.
التسعينيات أيضا حاضرة، حرب
الخليج الأولى تفتح أبواب المنطقة للغزو الثاني، والاتحاد السوفيتي يسقط بعد طول
ترنح، والإرهاب يتغول في شوارع المحروسة، والشعراء يعلنون التمرد بـ " قصيدة
النثر"
وحدها الثمنانيات تقف بين بين،
لا يتذكرها أحد ولا تترك علامة بارزة في الذاكرة، ليس في مصر وحدها بل في العالم
كله، في الولايات المتحدة يصل ممثل مغمور لا يعرفه أحد " رونالد ريجان "
إلي سدة الحكم في البيت الأبيض، وجوربي يقضى على ما تبقى من أسطورة الاتحاد
السوفيتي بهدوء قاتل محترف، وفي مصر يصعد رجل من المجهول للحكم في مشهد دراماتيكي على
وقع طلقات الرصاص في يوم الاغتيال المشهود، لكن الرئيس الذي رأي سابقه مدرجا في
دمائه لن يرحل عن السلطة إلا بعد تلك اللحظة بثلاثين عاما وعلى وقع صيحات هادرة
لملايين تهتف بإصرار حروفا أربعة "إرحل" .
لا شيء يثير الدهشة في تلك
السنوات البعيدة، كان كل شيء امتدادا لما مضى وطهيا على حطب بارد لما سيأتي،
القاهرة غامضة وضبابية، لا شيء يحدث بينما يحدث كل شيء ، مناطق جديدة تنمو على
أطراف العاصمة لتستوعب من ضاق بهم العيش في المدن والقرى البعيدة المنسية، ستتحول
تلك المناطق فيما بعد إلي مساحات شاسعة من العشوائيات تمسك بخناق العاصمة، وعندما
كان " الهرم " يتحول إلي ملجئ لمن يريدون الابتعاد عن الصخب لم يكن يدرك
قاطنيه الجدد أنه سيصبح لاحقا مركزا للفوضى والصخب حد الجنون، سيارات فيات تتصدر
المشهد في الشوارع 128 البيضاء لمتوسطي الحال و 132 الرمادية أو الزيتية للمرفهين
أما سيارات مرسيدس 200 و 230 فكانت تظهر على استحياء وينظر إلي راكبيها على أنهم
من اللصوص أو تجار المخدرات، العائدون من الخليج يبدأون في نشر ثقافاتهم وعاداتهم
الجديدة وتهل بشائر الجلباب الأبيض القصير والنقاب الأسود الكئيب وتتحسس شركات
توظيف الأموال خطاها بمباركة شيوخ النفط وصمت الدولة، يضرب الاقتصاد الريعي جذوره
في التربة المصرية، وتعلوا صيحات المجتمع الخدمي وبيزنس السمسرة وتفتح الخصخصة
أبوابها بوجل، ويحصل نجيب على جائزة نوبل فيشتعل غضب إدريس ويجن جنونه.
وبينما كانت الدولة تستمتع
بقيلولة الثمانينيات، كانت القوى الجديدة تدشن قلاعها وتثبت أركانها على الأرض،
جماعة الإخوان تنفذ إلي أحشاء المجتمع، تستدرك أخطاء حقبة الستينيات وتبتعد عن
الصدام وتقبل ان تعمل في ظل الدولة بهدوء ودون ضجيج، تحتل الأحياء الشعبية والقرى والمدن
شبه القروية بشبكة الخدمات الاجتماعية، بينما تترك مهمة وهبنة العقول للجماعات
السلفية، ويتخلى عدوية طائعا عن عرش الغناء الشعبي، ويبزغ نجم " الزعيم
" باعتباره بطل الشباك الأول حتى قبل أن يصبح زعيما وتبدأ "نجمة
الجماهير" في تقديم ملاحمها الخالدة بداية من "الباطنية" ووصولا
إلي "امرأة هزت عرش مصر" و " مهمة في تل أبيب" مرورا بـ
"المدبح" و "الضائعة" و "امرأة من من نار" ،
ويتنافس عشر مطربون على احتلال مكان عبد الحليم ويفشلون، ويحب الناس أحمد زكي .
لا شيء يمكن أن نذكره إذن عن
تلك السنوات المنسية، لا شيء يترك أثر نافذا في الذاكرة الفردية أو الجمعية،
وكأنها كانت ماء يفصل بين ضفتين أو قبلة باردة في ليلة حب لم تشرق عليه الشمس، فقط
كان صناع السينما الجديدة يحررون مساحات في الروح ويتركون علامات في القلب، الطيب
يقلب الطاولة بـ " سواق الأتوبيس" ويواصل ثورته بـ " التخشيبة
" و " ملف في الآداب" و " وأبناء وقتلة " و " الحب
فوق هضبة الهرم " و " البرئ " و " البدرون " و "
ضربة معلم " و " كتيبة الإعدام " و " الدنيا على جناج يمامة
" ، ويعزف داوود بمحازاته مفتتحا بـ " الصعاليك" و " البحث عن
سيد مزوق " وصولا لـ " قدرات غير عادية،" بينما يدهش محمد خان بـ
"طائر على الطريق " و " موعد على العشاء" و "
الحريف" و " زوجة رجل مهم " و " خرج ولم يعد " و "
عودة مواطن " و " أحلام هند وكاميليا".
تمر الثمانينيات كحلم سريع لا
تستطيع أن تتذكر منه الكثير حينما تصحو، لكنك حين تفتح عينيك ستجد الدنيا كلها قد
تبدلت .
0 تعليقات