انتهت الحربُ إذن ! وماذا بعد ؟.
دينا
محسن
هدوءٌ نسبى بعد انتهاءِ أى
حربٍ ، خرج الجنرالُ غيرَ آسفٍ على شئٍ لكنها الحرب قد تُدمى القلب ها قد انتهت
وماذا بعد ؟، لم يعد الأمرُ ملتبساً علىّ قالت لم يعد الأمرُ ملتبساً علىّ .
لا يهم عدد الضحايا فى الحروبِ
نأمل لذويهم الصبر والسلوان ، ماذا عن الدمارِ لا بأس سيتم محو كل آثارِ الجريمة
ثم ماذا ؟، وضع الجنرال سماعة هاتفه ربما سيغلقه ، أنهى مكالمته سريعاً مثلما
يُنهى وجبته واقفاً ، أصدر أوامرَ عقابٍ جماعى للأسرى دون رحمة ، وماذا بعد أين هى
الآن ؟، قال لقد انتهت الحرب وربما تشرد الجميع .
هذا أمرٌ قد قُدِر ، أزال
غِطائه عن عينها فبصرها اليوم حديد ، كانت أقرب إليه منه كحبل الوريد ، كأنها روحه
نثرت الكلامَ على ورقٍ دون أن تعلم ما جدوى الكلام ! هذا الدمع لى أكفّن به الذكرى
ولا يبقى سوى الصدفة التى تذكرنا بما لا نريد حقاً تذكره .
فى مرحلةِ ما بعد الحرب يتم
انتشال الجثث ووضعها فى حفرة ثم ردمها ونثر بعض الماء والورود فوقها ، وعادةً ما
يذهب الجرحى إلى الأطباء إن كان مازال لديهم أمل فى الشفاءِ أو البقاء ثم ماذا ؟.
قال لها طبيبٌ حتماً ستشفين ،
عمليةٌ جراحيةٌ سريعةٌ شعورٌ دفينٌ بالألمِ المؤقتِ خروج آخر ما تبقى من الرصاصة
تضميد الجرح المرور بحالة حرجة خروجٌ مؤقتٌ عن الوعى فقدانُ السيطرةِ على أى شئٍ
وكل شئ ، إغماءٌ لحظى مرارةٌ فى الهواءِ أنفاسُ ثقيلةُ الوزنِ بطيئةُ الحركة توتر
ٌ نسبى ثم قلقٌ مزمن ثم ماذا ؟، هكذا عبرتى مرحلة الخطر بشكلٍ تام وما بعدها تلك
بيدى الله ، بالملاحظة سيبدو الأمرُ جلياً هل تجاوزتِ الأمرَ أم لا لكنكِ حتماً
تقدرين إرادتك قوية وملامحك صلبة وقلبك مازال ينبض وعينيكِ حرة فلما لا ؟!
فارقٌ شاسعٌ ما بين عدم قدرتك
على النوم وعدم رغبتك فى الاستيقاظ ، ما جدوى مواجهة العالم مواجهة هذا الفراغ
الكونى ، أيُملأ الفراغُ بالفراغ ؟! أتلك نهايةُ الحربِ ! وماذا بعد ؟!
هل تسقط الذكرى معى وتصاب
بالشللِ المؤقت ، تلك الشفاة قد أقسمت أنها لم تلامس شفاة من قبله ولا بعده ، ستظل
حبيسة وجهها الذى لامسه الهواء ثم تبخر فى السماء ليحلق بعيداً ، ثم ماذا اطلقت
سراحه قالت له اذهب أنت الآن حرٌ من قيودك حرٌ من عهودك ووعودك حرٌ من كلِ شئٍِ ،
استرح فأنت الآن حرٌ منه ومنها لا تعبأ بما خلفته الحروب هى وحدها القادرة على
إزالتها ، ربما تحتاج بعض الوقت لتنسى أو تتناسى مشاهد القتل والدمار والموت
المحلق فوق الرؤوس النيام !
كنقطةِ ماءٍ سقطت فى كوبٍ من
الماءِ اندمجت أضلعها بأضلعه حين عانقها ، فكانت من تلّقى سهامَ الموتِ فى آخر
معاركها ، ليتها ما خاضت مخاض الحرب منذ اندلاعها واكتفت بإلقاء التحية للمنصورِ
ومواساة المُنهزم .
هى لا تجيد الوقوفَ على مسارحِ
العشقِ وتقمّص دور البطولة الزائف ، ماذا عنه ؟ كان بطلُ الروايةِ الحزينةِ ولكنه
بطلٌ من تراب بعثرته رياح الحقيقة . آثارٌ جسيمة خلفتها الحروب كل تلك الندبات
الكثيرة المتشعبة فى الجسدِ والروح لن تختفى من يومين وليلتين ، التاريخُ يحتاج
وقتاً كافياً لكتابة الفصلِ الأخير فى الرواية .
وتلك الوردات التى يملئها
الشوك ذاك الشوك أوفى منه ، ماذا عن عطر الياسامين ؟! هذا العطر أوفى من صاحبه
مازال يسأل عنه مازال يحب ولا يكره لا يغدر لا يكذب لا يخدع ، مازال يذكره لم يكن
لينسى حتى وإن لم يلامس عطره أنفك مرة ثانية مازال يتساءل إلى من يفوح بعطره ،
مازال هذا العطر أوفى من صاحبه مازال هذا العطر عنك يسأل !
راقبت عن كثبٍ مواطنَ أثاره
المتبقيات ، خطوات قدميه على الطريق عطره ورائحته ، واستدلت بهما وسارت خلف ظنونها
بأنه لم يعد لها حيزاً من الوقت يكفى لإلقاء تحية سلامٍ ، اشتدت الحربُ صارت أكثر
اضطراباً دقات قلبها تتسارع وتتصارع داخل مضيق أوردتها ، لتلحق بسيارةٍ خلف شجونها
لتوّدع على مهلٍ أحلامها الصغرى والكبيرة تسابق الريح لتراه ولو لمرةٍ أخيرة .
وقف المارةُ فى الطريقِ فى
ازدحامٍ لابد أنهم يلوذون أيضاً بالفرار وكأن كل الأشياء تتكدس لعرقلة الوصول ،
وصلت لحافة الميناء وقفت على أطراف أناملها هاتفته فلم يُجِب ، اقتحمت الصفوف عنوة
هل هو هنا أم هناك ؟!
أوقفها رجل الأمن المقنّع بالغباء ثم أبعدها عن الساحةِ المزدحمة لترى ، فقالت له هل لى أن أرى عيناه للمرةِ الأخيرة ، رأته من مكانٍ بعيدٍ يا لبعد المسافات ! كيف وصل الأمر إلى هذه الدرجة لو كنت أعلم أن الحربَ تنتهى هنا ما أنهيتها ! قالت هل أعود لأقاتل دون شروط مسبقة أو عهود ، وماذا بعد ؟.
لملمت حوافرها المنغمسة بالأرض
وانتزعت يدها الملتصقة بالجدار ، لملمت الخيبة والذهول معاً وضعتهما فى قاع محيط
أفكارها وقالت متى ينهمر البكاء ، وكأنهم جميعاً ينظرون لها تملأ نظراتهم الشفقة
التى تميتها كاد الحزن يقتلها ، بدأت فى التقاط الأنفاس لا أعلم إلى أين أذهب وإلى
أين أعود فالحرب مازالت مشتعلة هناك ؟!
حملت متاع المشقّة كله وأخذت
تهرول لا ترى من الطريق سوى وجهه ، وجهه الذى لم يغادر وجوه المارة حولها جميعهم
وكأنه هو لا ليس هو ربما ها هو ، كان الليل شديد الظلمة والجو شديد الاختناق مثله
تماماً ، تذبل الورود إن غاب ساقيها وتموت الورود حزناً إذ ذهب من كان يرعاها .
ظلت تفكّر بصوت مرتفع للدرجة
التى كادت تتشاجر فيها مع نفسها ، لا أسمعهم حين يصيحون بتكرار نداء إسمى ربما
أيضاً لا استطيع رؤيتهم لكن وجب تعلّم التعايش معهم ، هكذا قالت شجارٌ كثيفٌ مع
المارة انحدار العربة بشكل مفاجئ لم أسمع صوت ارتطامها ولم أشعر بأى ألمٍ من فرط
الذهول ، نعم مازلت بخير لكننى افتقدته ، ربما تداخلت الرؤية ربما افتقدته ربما
أشعر بأسفٍ عميق على تلك الكلمات التى لم يكتبها قلبى بل كتبتها يداى فلتقطع يدى
ولتسحقها إن شئت ، ثم ماذا صدّق أننى لم أعد أصدق أى شئ .
هل تصدق أن نصف حزنك سببه لك
من لم تكن فى يوم من الايام تحسبه يؤذيك ، الكل يؤذيك ولكن لكل طريقة ومنهاجاً
وأسلوباً فريداً فى القتل ، هناك من يقتلك بكلمة هناك من يقتلك بسهام نظرة هناك من
يقتلك بابتسامة شفقة هناك من يقتلك بترياق قبلة ، ثم ماذا ؟ ثم تسقط مغشياً عليك .
لم يلتفت خلفه ليراها كانت
أكثر جبناً من أن تذهب لتصافحه واكتفت بسماع صوته المتداخل لكنه أطفأ المذياع
لينشر الصمت المدجع ، رسالتها الأخيرة لم تصل ، لم يلتفت خلفه ولم يستطع شم رائحة
طيفها حوله ، لم يراها أم رأى عدماً وأسِف للنهاية ! أتلك نهايةُ الحربِ ! وماذا
بعد ؟!.
قال أنا قاتلٌ لى قلب لكن بلا
ضمير لم أكن لأقتل ضحية دون إذنها ، خيرتك فاخترتى بكامل إرادتك ، قال أنا لا أخدع
الأحبة ولا أخون الأصدقاء ، عملياتٌ مموهة تلك التى تستهدف تصفية العقل والجسد .
هناك من كُتِب عليه النجاة وهناك
من كُتِب عليها الشقاء ، هناك من ضحى ليهنأ وهناك من ضحت لتشقى ، هناك من هو مضطر
ليغادر وهناك من هى مضطرة لتستكمل الطريق ، هناك من يتحمل وهناك من تتألم فى صمت ،
هناك من لا يعبأ وهناك من لا تنام ، هناك من لا يستطيع البكاء وهناك من تمسك
دموعها بيدها قيد الانهمار ، هناك من لاذ بالفرار وهناك من تمسكت بحبال بالية أدمت
يداها ، هناك من طلبت احتضانها بشدة وهناك من اختنق فى الهواء ، هناك من وأد سره
وقتل حبه وهناك من حفظته عن ظهر قلب ، هناك من أراد كل شئ وهناك من لم تطلب أى شئ
، ثم ماذا ؟، لا مأمن فى هذه الدنيا لا أمان لهذه الأيام .
فتراتٌ متقلبةٌ أجواءُ غير
منتظمة ، سقطت فى بئرٍ من الظلام ، ثم ماذا ؟ أنجز معركته سريعاً ثم هيئ أمره
للجلوس على طاولة المفاوضات ، ما لا نغتنمه من الحربِ ننتزعه بالقوةِ ، الضغطُ
بالجدلِ والنقاش لا نهائى حتى يجد نفسه الطرف المقابل على أطراف الطاولة تائهاً فى
دوامات التنازل دون أن يدرى أكان خطئاً أم صواب ما اعترف به وأقره فى ميثاق .
كتَبَتْ أحببتك وانتظرتك قبل
الحرب وبعدها ثم دَوّنتْ اسمها فى نهاية المدى ، كان اعترافها بسيادته عليها
كافياً لإنهاء الحربِ فقد حصل على كل شئٍ ، أرضاً ليست أرضه قلباً لم يكن له من
البداية سعادة لم يحلم بها ، ثم ماذا رحل يبحث عن مجدٍ آخر فى ساحاتٍ أخرى خالية ،
ماذا عنها ؟، قال لها الطبيبُ ألم أقل لكِ أن العبث بالمشاعر يقتلها ، أفرحةٌ أنتِ
بحطام جسدك ، هل تزرعين فى غير حقلك ، هل فقدت صوابك وعقلك ؟!
ترابط النجوم بالسماء وكذلك
ترابط القمر بهما مسار أحادى يجمعهما حتى وإن كانا لا يلتقيا ، كان لديها كل
محفزات التضحية التضحية بكل شئ ما عداه ، طلب منها تقديم جسدها قربان للآلهة ، هل
كفرت به أم أن حدسها العالى أخبرها أن رائحة الخيانة تفوح فى المدى وأنه ليس
فارسها فى الغرام !
تتهاوى الممالك الكبيرة دون أن
يدرى قارئ التاريخ ما الأسباب الخفية وراك سقوطها المُدّوى ، حتماً ستروى القصة
بكل تفاصيلها وتشعرك أنك داخل دهاليز أنفاقها ، ربما الغد ربما بعد غد ربما آخر
العمر لكنه ليس اليوم .
فاليوم لن تستطع أن تكتب
للتاريخ حرفاً فمازالت آثار الجُرح فى يديها ، أناملها باردة من الخوف من الوحدة
من الوداع من كل مترادفات الموت .
فاليوم هى منشغلة بفكرة واحدة
هل ستقوى على الغناء منفردة دون موسيقى صوته ؟، سيمفونية منقوصة هى تلك الحياة لا
أحد يستطيع الوصول لمبتغاه ، والكون يهتز من خلفنا والأرض ضيقة علينا لم نكن نطمع
بالكثير سوى مزيد من الوقت ، لنظل معاً نشدو للبقاء .
أكاد أجزم أنها لم تنتهى بعد
لاتزال لديها حروبها الخاصة ، تبقى وكأنها لن ترحل ثم ترحل وكأنها لم تأتى ، كانت
له باباً مفتوحاً كان لها كالمتاهةً أى عدلٍ هذا ، جرحٌ طفيفٌ فى جدارِ القلبِ هذا
كل ما فى الأمرِ ، لن تنتظر شيئاً ولم تطلب شيئاً وحده كان الطالب والمطلوب الوجهة
والطريق القاتل والقتيل المحب والخائن ، وحدها كانت الشاهد الوحيد على المذبحة
والخيانة .
لم تصله آخر رسائلها فلتصحبه
السلامة لم تكن هناك معزوفة أخيرة بصوته الذى لم تودعه تمنت سماع ولو كلمة سلام
تدعو للسلام أو جملة وداع تليق بهيبة الوداعِ فارقت دنياك فهل من لقاء ؟!
لا يهم بماذا يشعر كلانا
فالقاتل يشعر بعقدةِ الذنبِ والقتيل بشعر بألمِ الغدر ِ ، كلاهما مذنب وكلاهما برئ
، لولا الضحية ما كان للجريمةِ أن تحدث هوّن عليك لا بأس ، لقد غسلت ذنوبك كلها
بدمعاتٍ أفرزتها المقل غصباً ، هوّن عليك وعلى نفسك لا تأس فلقد غفرت ذنوبك كلها
بذنبى لا بأس . لا بديل إن كان للحبِ بديلٌ لانهارت ممالك الحزنِ ، ليس للحزنِ
بديلٌ لكننا فقط عاشقون للشجن !
لماذا تغّيرت ؟! قل كيف تغيرت
وابحث عن ماهية التغيير ومسبباته ، هل لشئٍ من دوامٍ هل وصلت رسائلها هل قرأتها هل
هى قيد الانتظار ، لقد قلت لهم أخبروه أن الرياح قد سرقت فتاة كانت تنتظره فى
نهاية المدى تعشقه ، ما عليه الآن إلا أن يتجه لموانئٍ أخرى فسفينتها بيديه أغرقها
، فليحتفى ببداية عامه الجديد فى صرحٍ مديد حاملاً كأسه الفارغ من النشوةِ ناسياً
كل ما مضى فى عامه الذى مضى .
كل شبر مرت به وقفت فى نهايته
استدارت نظرت إلى الخلف ثم قالت ، قرار الانسحاب لم يكن سهلاً على الاطلاق ، فهل
أعود لأقاتل مرة أخرى هناك لألتقيه ثانيةً وانهزم أمام عينيه من جديد ، أم أحمد
الله على النجاة بجسدى حتى وإن دمرت روحى الحروب حتماً ستشفى ، أعلم أننى على كل
الأحوال سألقى حتفى هنا وحدى فى ساحات خالية ، لكنه أفضل كثيراً من وضعه جسدى فى
وضح النهار فوق جثث القتلى العارية .
0 تعليقات