بين الوهم
والحقيقة فى تاريخنا الإسلامي
د. محمد ابراهيم بسيوني
تتمتع قصص الأنبياء بشعبية واسعة وشكلت جزءا من التراث الثقافي لشعوب عدة تعبر من خلالها عن أفكارها ورأيها للكون وتستخدمها فى تربية النشء الجديد ليتواصل انتقال الموروث الشعبي إلى الأجيال الجديدة.
الصورة للوحة جدارية بمعبد يهودي قديم بسورية
الحبيبة من حكاية نجاة سيدنا موسى. حكاية النبي موسى واردة فى سرديات أصحاب
الديانات الإبراهيمية الثلاثة ولها بناء درامي قائم على التشويق لأحداث متصاعدة
ويستخدم الرواة هذا البناء لطرح أفكار ومبادئ تختلف تبعا لشخصية الراوي وثقافته
فالخيط الدرامي للحكاية واحد لكن الصيغ متعددة.
تقول السيرة أن أم سيدنا موسى وضعت رضيعها فى قفص
وتركته للنيل خوفا عليه من جنود فرعون الذين يقتلون الأطفال. هل كانت مطمئنة إلى أن
مصير رضيعا السابح وحده فى النيل أكثر أمنا من بقائه معها؟ الم تتوقع له الغرق أو أن
تراه ورديه من الجنود؟ هذه أسئلة لا تطرحها السيرة.
لا احد
يستطيع أن يجادل النص القرآني لكنها تأملات في أحداث القصة وأسئلة تدعو للتفكير
والتأمل في تفاصيلها.
القصة معجزة
إلهية لا تخضع لأي تفسير منطقي (إذا خفتي عليه "فألقيه في اليم").
فى مشهد درامي مثير فى فيلم السكرية للرائع نجيب
محفوظ ، يفغر عبد المنعم إبراهيم فاه مندهشا لدى رؤيته أباه السيد احمد عبد الجواد
يرقص ويغنى وسط العوالم، ويقول لنفسه من هول المفاجأة يابن الكلب يا بابا، هو أنت
كده ؟؟
هذا هو حال اغلب المسلمين السنة وأنا
كنت منهم حتى قراءتي لكتاب الخلافات السياسية بين الصحابة لمؤلفة الجميل المفكر محمد مختار الشنقيطى، متحدثا
عن الفترة الباكرة التي تلت وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، متناولا الخلافات والصراعات التي
حدثت اعتبارا من خلافة أبى بكر وعمر بن الخطاب وعلى بن أبى طالب وعثمان بن عفان
ومعاوية بن أبى سفيان، وعمرو بن العاص والزبير بن العوام وطلعة والسيدة عائشة وغيرهم كثر
والى نهاية الفترة الأموية تقريبا، لنرى من خلال الكتاب هؤلاء
العظام بشرا يخطئون ويصيبون تلهيهم السلطة والمجد وتتناوشهم الخلافات، يضعف بعضهم أمام
القوة ويلوى آخرون عنق الحق والعدل فى سبيل إمارة أو ولاية، هم بشر بكل معنى
الكلمة ولكنهم
فى النهاية استطاعوا أن يضعوا الأساس لحضارة إسلامية زاهرة كانت مركز العالم لقرون
عديدة، وللعجب فان الكتاب بتصدير احد المختلف عليهم وهو
القرضاوى الذي يبدوا انه لم يقرا الكتاب وإنما صدره مجاملة لمؤلفه وإلا لما كان
موقفه الانتهازي من مصر عقب الإطاحة بالإخوان.
نعود إلى موضوعنا ترى هل فقهائنا
ووعاظنا الذي درسوا لنا التاريخ الإسلامي ورجاله العظام حكوا لنا هذا التاريخ يحلوه
ومره، للأسف لا لقد زيفوا التاريخ ورسموه لنا على انه يوتوبيا أرضية لقديسين عاشوا
على الأرض ولم تك تشغل بالهم أمور سوى الصلاة والصوم والنقاب والحجاب وإطالة اللحى
والمداومة على الذكر مع غض البصر وهكذا كانت سيرتهم فانفتحت أمامهم أبواب الخير من
كل حدب وصوب، لقد زيف
الفقهاء والوعاظ التاريخ وصوروهم لنا رجالا لاياتيهم الباطل ولم يقولوا لنا أن
هؤلاء العظام اخطاؤا وأصابوا، ولكنهم فى سبيل بناء دولتهم كان التفكير العقلاني والدهاء
رائدهم وكان الأخذ بأسباب العلم وفق مقاييس عصرهم هو السبيل لبناء حضارتهم الإسلامية، إن احد الأسباب المهمة للإرهاب فى بلادنا هو هذه
الصورة المزيفة لتاريخنا الإسلامي والتي تختزل الحل السحري لمشاكلنا فى التعليم
والصحة والحكم والاقتصاد وغيرها فى هدم المجتمعات القائمة والعودة إلى
الصورة الزهنية المزيفة لعصور الإسلام الأولى وتطبيق الشريعة وهذا غير واقعى وغير
حقيقى، فلقد تمكن الإسلاميين
المعتدلين منهم والمتطرفين من بسط سيطرتهم على مناطق شاسعة فى عالمنا العربى فى
العراق وسوريا وليبيا وفى أفغانستان ولكنها جميعها باءت بالخراب والفشل ناهيك عن
القتل على الهوية والدمار والهدم لجميع مكتسبات الحضارة الحديثة، ذلك لأنهم جميعا كانوا يطبقون الصورة الذهنية المزيفة
المطبوعة فى عقولهم عن انهار اللبن والعسل التي سرعان ما تنهمرعلى المجتمعات التي
يحكمونها بمجرد
تطبيق شرع الله المتصور فى عقولهم، وهكذا مازال آلاف الشباب
ينزلقون إلى العنف المؤدلج لإعادة هدم المجتمع وبناءه ولو عرف هؤلاء التاريخ الحقيقي
لهذه الحضارة بمثالبها وروائعها وتراثها وقيمها العليا التي قامت على التسامح وفق
مقاييس عصرها بل وإتاحة المجال أمام الرأي الآخر مهما بلغ شططه أيضا وفق مفاهيم عصرهم
بل واحترامهم ديانات الآخرين وعدم التدخل فى عبادتهم ما وصلنا إلى
هذا الحال المزري من ارتباط العنف بالإسلام ، وإذ أنت خاطبت فقهائنا لضرورة شرح الماضي
بمحاسنه وسيئاتها ليكون عونا لنا على بناء المستقبل وانه لايمكن استنساخ الماضي أبدا لسبب
بسيط انه غير موجود بالأساس فسوف تتهم فورا فى عقيدتك لتنتقل من موقف الهجوم
والنقد إلى موقف الدفاع عن نفسك خوفا من إهدار دمك ليت فقهائنا يعون هذه الحقائق
ويتوقفوا عن تزييف التاريخ ، وقتها فقط سيفغر شبابنا أفواههم ويقولوا لهم ما قاله عبد المنعم إبراهيم لأباه
فى سرهم بالطبع...
----
عميد طب المنيا السابق
0 تعليقات