آخر الأخبار

الحلقة الرابعة: اليعقوبي من الياء إلى الياء .... (خصائص الدرس الفقهي عند سماحة الشيخ اليعقوبي)

الحلقة الرابعة
اليعقوبي من الياء إلى الياء
خصائص الدرس الفقهي عند سماحة الشيخ اليعقوبي







الزركانى البدرى


إن المتتبع للدرس الفقهي الاستدلالي الذي شرع به سماحة آية الله العظمى الشيخ محمد موسى اليعقوبي ( دام ظله ) يجد فيه مميزات علمية وأخلاقية وفنية جديرة بالإشادة والاهتمام ، مما يجعل اليعقوبي ليس مميزا بالتنظير الاجتماعي والرؤية السياسية فحسب ، بل وفقيها لامعا يمثل مرحلة ناضجة من مراحل الفقه الشيعي المبارك ويمكن خلاصة هذه الخصائص بما يلي :
1. العمق في النظر والتحليل، إذ تجد أن المسألة الفقهية التي ضربت فيها الآراء منذ قرون لم تزل محلاً للجديد عنده ومجالاً لأن يطرح فكرته المبدعة فيها، إذا لاحظنا أن مقياس التخطئة والتصويب في هذا المجال وساحة الإبداع تتمثل في بيان مدى ارتباط الفكرة المطروحة بالنصوص الشريفة ومصادر الاستدلال الفقهي. الأمر الذي لا يمثل عمق الارتباط ودقة التمعن في الشريعة لدى اليعقوبي فقط بل ويمثل برهاناً لمدى قدرة النصوص الشريفة على العطاء ومواكبتها للمجتمع في جميع عصوره في مرحلة نحتاج فيها لمثل هذا البرهان لقهر التحديات التي تتهم الشريعة بعدم مواكبة متطلبات العصر الحديث وتتصيد الغافلين بأمثلة واهنة مغلوطة.
2. الاحتياط في الاستدلال للفتوى ولا أعني به فقط مراعاة الأحوط للمكلف في العمل بل وأعني به ظاهرة تحشيده لأكثر من دليل رغم كفاية أحدها لترجيح الرأي المختار فتجد انه لا يكتفي بالمُرجّح والمرجحين بل وتمتد المرجحات عنده لتكون أربعة أو خمسة أحيانا وهي تكشف عن مرونة علمية عالية لديه وهيمنة على الرأي الآخر مع تورع علمي يرافقه وهي صفة نادرة لدى الأذكياء حين يحسون التفوق الفكري لديهم فإنهم نادراً ما يراعون احتمال الخطأ في أدلتهم أو يعضدونه بأدلة أخرى معه.
3. ويؤمن الشيخ اليعقوبي بسماحة الشريعة وسهولتها ويسر الخطاب من لدن الأئمة عليهم السلام. والإيمان بسهولة تعابيرهم لا يتضح بفهمه لمفردات اللغة الخطابية للأئمة فهماً ظاهراً وبسيطاً فحسب بل ويمتد إلى الإيمان بسهولة معاني التعليمات الشرعية والأوامر الدينية الفقهية في خطاب الأئمة فلا يحتاج المخاطب في زمانهم إلى نظريات فلسفية أو قواعد أصولية أو فقهية لفهمها آنذاك الأمر الذي يراعيه اليعقوبي عند الإنصات إلى نص معصوم ومحاولة فهمه بعيداً عن التعقيدات التي قد تلحق بالفهم الفقهي الاستدلالي.
4. وكذلك يتميز استدلال الشيخ اليعقوبي بقضية كبرى عامة وهي إيمانه بشمولية الشريعة إجمالاً لكافة موارد ابتلاء الفرد والمجتمع وكفاية ما وصل إلينا لصياغة فقه يسد الحاجة في عصور الغيبة بشكل (لا يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلاً) ويتضح إيمانه بهذه القضية في قبوله لإلحاق أحكام المعتدّة بأحكام من طُلّقت طلاقاً غير صحيح بقوله أن دمج الإحكام بين المسألتين يسد هذا الفراغ في الأحكام في هذه المسألة منطلقاً من قضية قبلها مفادها –كما نفهم- أن الأئمة عليهم السلام لم يتركوا هذه المنطقة بلا تشريع وأيضا فإن المتشرعة وأصحاب الأمة لم يغفلوا عن السؤال عن هذه المسألة المهمة بالتأكيد، ومن هنا تجد أن نظرية المعرفة لديه لا تتجه بنفس منهج نظرية المعرفة التقليدية التي تلزم الاستدلال بالترابط بين القضية المقدمة والقضية المستنتجة ترابطاً موضوعياً، وبشكل تحس معه أن على المجتهد أن يكون عبارة عن دائرة معرفية شاملة بشمول الشريعة وباستحالة الانفكاك بين الفقه وبقية المنظومة المعرفية الدينية، مع الانسجام السيكولوجي لدى الفقيه بما يضمن موقفاً متوازناً في تحري حقيقة الحكم الفقهي أو الموقف العملي تجاهه، وقد لمس الجميع في داخل الحوزة وخارجها التوازن الأخلاقي للمرجع اليعقوبي في أكثر المواقف حراجة ومع أكثر الأعداء ضراوة لم يخرج معها اليعقوبي عن جادة الاعتدال ولم يغلب الموقف العاطفي لديه على التجريد العلمي، وسيتضح في النقاط الآتية بإذن الله التوازن السيكولوجي في بحثه العلمي كذلك.
5. ومن الخصائص الفقهية إيقان الشيخ اليعقوبي بقابلية الفقه على التقنين أو القصدية الترتيبية في خطاب أهل البيت (ع) بحيث تركوا ما يمكن أن يكون الفقه معه نظاماً مقنناً، فهو ينتقد أحياناً بعض الفقهاء الذين تكثر استثناءاتهم على القواعد أو الكبريات الفقهية عند أول ما يعرض لديهم من نص يخالف بظاهره تلك الكبريات أو القواعد ويسمي ذلك عجزاً ويصفه بأنه منافٍ لوظيفة الاجتهاد.
6. سعة اطلاعه على تاريخ المسألة الفقهية والظروف المحيطة بالفقهاء وما عسى أن يكون قد تدخل في تصورهم لموضوع المسألة، ليس ذلك لأنه يرى حجية أقوال غير المعصومين في المدركات العقلية بل لتعليل مناشئ اختلاف الفقهاء أحياناً وبيان الأسباب التي قد تكون دعت إلى الإفتاء في المسألة الفقهية على منوال واحد رغم ضعف الاستناد إلى نصوص المعصومين (ع).
7. وتجلت سعة الاطلاع ايضاً في فهم الظروف المحيطة بالمعصومين (ع) لما لذلك من دخل في توضيح ما قد يكون صدر منهم تقيةً من السلطة الحاكمة آنذاك وليس ذلك بغريب بعد أن عرفنا وضوح تصوره لدور المعصومين (ع) في حياة الأمة الإسلامية في مؤلفاته السابقة.
8. الأخلاق العلمية التي تميز بها درسه (وهي شيء ليس بجديد عليه) ويتضح ذلك في عدة مواضع في بحثه منها انه حين يذكر أحد العلماء الماضين (كالسيد محمد باقر الصدر والسيد الخوئي والسيد محمد الصدر والشيخ الغروي وعلمائنا الأقدمين) فإنه يذكره بكل احترام وإجلال ويذكر بعد اسمه (قدس سره) أما أساتذته الحاضرين (كالشيخ الفياض والسيد السيستاني) فإنه يذكر بعد أسمائهم عبارة (دام ظله الشريف). ومن المواضع التي تجلت فيها نزعته الأخلاقية فإنه حينما يتناول رأياً ما ويفنده فإنه لا يترك لأذهان الطلبة أن تذهب بعيداً في الاستغراب من القائل بل يذكر وجوهاً محتملة لإعذاره في رأيه ربما يكون ذلك القائل قد أخذها بالاعتبار وهي وجيهة على كل حال. ومما يلتمس فيه إنصافه العلمي أنه يعرّج أحياناً على بعض الآراء أو الأقوال التي نُقِضت وفهم منها غير ما كان يريد القائل ويفهمها بشكل أكثر قبولاً رغم أن القول قد يكون مخالف لما يذهب إليه سماحة الشيخ ويؤاخذه من جهات أخرى. ومن أخلاقياته في الدرس الأمانة العلمية في نقل الأقوال فرغم انه يحشد من الاستدلالات لرأيه ما لم يسبقه به أحد من الفقهاء فيصل إلى نتيجة معينة في المسألة الفقهية إلا انه يذكر احياناً أن بعض الفقهاء قال بهذا القول أو ذكر هذا من قبل رغم انه قد لا يكون مطلعاً على ذلك الرأي في بداية البحث أو أن يكون القول المذكور ليس للمصادر التي تؤخذ عند استقراء الآراء الفقهية.
9. ومن خصائص بحثه الشريف الجرأة العلمية الناتجة ربما عن الإحاطة والتدقيق الشامل للمسألة الفقهية وعدم الانبهار بكثرة الأقوال أو الإجماع المدّعى أو الشهرة إذا لم يساعد على ذلك كله دليل شرعي متين، وهذه الجرأة العلمية يرافقها ورع في الحكم وعدم إعطاء الدليل أكثر من مؤداه من القطع أو اليقين الموضوعي ويسمي مخالفة ذلك احياناً بالمجازفة.
10. ومن خصائصه عدم التقيد بأطر انتمائه المدرسي أو الفقهي أو المذهبي فنجد انه لا يرى ضرورة الإيغال في العمق الأصولي الذي عرفت به المدرسة وأحياناً يلتمس العذر للفقهاء الإخباريين ويعلل موقفهم من الأصول من أنهم استغربوا معطيات بعض التطبيقات القاصرة للأصول والتي قد تعطل الأخذ بمفاد بعض النصوص الشريفة، ونجد كذلك اطلاعه على بعض آراء مدرسة فقهاء العامة حتى في غير المواضع التي نحتاج لمعرفة آرائهم لتوضيح مواقف التقية من غيرها بل ويلمس مباني بعض الفقهاء في آرائهم ففي مبحث الجمعة يذكر رأياً لسيد قطب يؤيد فيه رأي الشيعة في مسألة صلاة الجمعة ويرى انه كان يتعامل تعامل المجتهد في آرائه.
11. الابتعاد عن الترف الفكري في الفقه والمحتملات الشاذة في البحث التي قد تجعل البحث الاستدلالي معقداً وذهن الطالب مترهلاً بعيداً عن سلاسة وبساطة فقه أهل البيت (ع).
12. الابتعاد عن التقنين الزائد في الأصول ووضع أصول الفقه في موضعها المناسب من كونها آلة للاستدلال الفقهي، وربما كان قصده من ابتداء درسه بالفقه قبل الأصول إذ لم يدرّس قبلها الأصول إلا في درس الكفاية الذي كان يقتصر في الغالب عند تدريسها على المتن إلا ما ندر، أقول: ربما انه بدأ في تدريس البحث الخارج بالفقه الاستدلالي رغم انه يطرح احياناً بعض القواعد الأصولية التي يحتاجها البحث في المسألة ربما كان ذلك ليبين لطلبة الموضع المناسب للأصول لتكون فائدتها شاخصة عند تدريسها فيما بعد ولا تؤخذ كمادة علمية رياضية مجردة للاستعراض الذهني والترف الفكري رغم أنها آلة لاستنباط الفقه وليس غاية وهي ينبغي أن تكون آلة خفيفة تتحول إلى ملكة مع طول الممارسة.وان من الواضح أن دراسة الأصول وحدها لا تكفي لصنع المجتهد إذ ليس (كل من يدرس المنطق وحده يُعصم من الوقوع في الخطأ عند إجراء العمليات الذهنية) فلا بد من التطبيق العملي لتتضح قدرة الفقيه الاستدلالية وإحاطته بآليات الاستنباط الفقهي وقدرته على التصرف بآليات الفقه للوصول إلى قطع أو حجة في المسألة الفقهية. وربما كان المقصود بالاعلمية المرتبطة بالأصول هي القدرة على تطبيق الأصول في الاستدلال الفقهي ليس فقط فهم المطلوب من المسألة الأصولية والفارق بينهما هو الفارق بين الإثبات والثبوت (أي أن التطبيق العملي للقواعد الأصولية هو الكاشف عن القدرة أو الفهم الأعمق للأصول والمرونة في تطبيقها والإحاطة والتصرف بها).
13. ومن الخصائص الأخرى في البحث الفقهي للشيخ اليعقوبي تناوله للمسائل الخلافية فقط وهي المسائل التي شهدت ولا زالت سجالاً فكرياً بين الآراء وعدم خوضه في المسائل التقليدية التي نوقشت منذ قرون لما في ذلك من تكرار للجهود وإضاعة للوقت دون حاجة تذكر فإن ذلك كما عبر سماحة الشيخ بنفسه يسرّع في تحصيل ملكة الاجتهاد لدى الطلبة (بحسب المقتضي). وهو مفيد أيضاً في معرفة تمايز الفقهاء وخصائصهم.
وتتميز لغة سماحة الشيخ في بحثه الفقهي بالسهولة ليس لأنه يتكلم بلغة الشارع أو لغة الجرائد بل لأنه يعتقد أن في اللغة العربية فسحة في اختيار الكلمات السهلة مع فصاحتها، مع المحافظة في اصطلاحات الفقه وعدم اللجوء لأي الألفاظ المحدثة غير الدقيقة. ومن الملفت للنظر تجديده في طريقة البحث فهو عند تدريسه للفقه لا يلتزم بالطريقة التقليدية وهي أن يأخذ الشارح متن العروة الوثقى وتناول الآراء في كل مسألة والاستدلال عليها، بل هو يقوم ببحث مستقل عن المسألة ويطرح فيها مبادئها التصورية والتصديقية ذاكراً الآراء فيها والمحتملات مع النصوص الشريفة حول المسألة وفي أحيان كثيرة يقوم بتوزيع تلك النصوص على الطلبة ليمكنهم من التأمل في المسألة قبل طرحها ولذلك أكبر الأثر في معرفة الطالب وتقديره لقوته الذهنية إذ يحاول الاستدلال بنفسه ثم يرى استدلالاً كاملاً أمامه فيشخص بعد ذلك نقاط قصوره، وبعض بحوث الشيخ اليعقوبي مطبوعة سابقاً في كتب مستقلة فتطرح في البحث للمناقشة ويزاد عليها بما يستجد لدى الشيخ من تدقيقات أخرى. وربما وزع بعض البحوث على عدد من الطلبة ليرى تعليقاتهم على البحث قبيل طرحه في الدرس الخارج. كما أنها تنشر على صفحة مستقلة في موقعه الالكتروني في وقت مبكر جداً بعد إلقائها.
14. وعن أحد الذين يطبع لديهم سماحة الشيخ بحوثه الاستدلالية قبل الشروع بها انه كلما أدخل عليه طباعة نهائية أضاف عليها من بديع أفكاره ما يستجد حتى ربما تكررت الإضافات على ثلاث نسخ أو أكثر في كل مرة يضيف عليها شيئاً جديداً، ثم يقطع الأمر في النهاية وقد يترك التعمق أكثر أو تكرار النظر في المسألة إلى غيره ممن يأتي في المستقبل كما عبر بمثل هذا المعنى.
15. ومن الخصائص المميزة لمواضيع بحثه الخارج انه يتناول المسائل الابتلائية في المجتمع وما يكثر السؤال عنه لما في ذلك من منفعة اجتماعية وحل لمشاكل عامة.




إرسال تعليق

0 تعليقات