اللغة بين التطور والانحدار
(صراع الفصحة والعامية)
د. محمد ابراهيم بسيوني
اللغة
هي نسق من الإشارات والرموز، تشكل أداة من أدوات المعرفة، وتعتبر اللغة أهم وسائل
التفاهم والاحتكاك بين أفراد المجتمع في جميع ميادين الحياة. وبدون اللغة يتعذر
نشاط الناس المعرفي. ترتبط اللغة بالتفكير ارتباطًا وثيقًا؛ فأفكار الإنسان تصاغ
دومًا في قالب لغوي، حتى في حال تفكيره الباطني. ومن خلال اللغة تحصل الفكرة فقط
على وجودها الواقعي. كما ترمز اللغة إلى الأشياء المنعكسة فيها، فاللغة هي القدرة
على اكتساب واستخدام نظام معقد للتواصل وخاصة قدرة الإنسان على القيام بذلك،
واللغة هي أحد الأمثلة المحددة من هذا النظام، وتسمى الدراسة العلمية للغة بعلم
اللغويات.
هناك
تساؤلات حول فلسفة اللغة نوقشت من قبل جورجياس وبلاتو في اليونان القديمة مثل ما
إذا كان للكلمات يمكن أن تعبر عن خبرة ما، فيقول بعض من المفكرين مثل روسو أن
اللغة نشئت من العواطف، بينما آخرون مثل كانت يرى أنها نشئت من التفكير العقلاني
والمنطقي، ومن فلاسفة القرن العشرين مثل ويتينستاين قد قال بأن الفلسفة هي حقاً
دراسة اللغة، وتشمل الشخصيات الرئيسية في علم اللغويات فرديناند دي سوسير، ونوم
نشومسكي، وويليام ستوكيو.
يتفاوت
تقدير عدد اللغات في العالم بين 5000 و7000 لغة، ومع ذلك فإن أي تقدير دقيق يعتمد
جزئيا على التمييز التعسفي بين اللغات واللهجات، فاللغات الطبيعية تكون إما لغة
منطوقة أو لغة الإشارة، ولكن يكن ترميز أي لغة إلى وسائل الإعلام الثانوية
باستخدام المنبهات السمعية والبصرية أو اللمسية على سبيل المثال، في الكتابة
التصويرية، أو طريقة بريل للمكفوفين، أو الصفير، وهذا لأن لغة الإنسان هي لغة
مستقلة.
ويعتقد أن اللغة قد نشأت عندما بدأت كائنات شبيهة بالإنسان في وقت مبكر بالتغيير تدريجيا في نظم التواصل الرئيسية، واكتساب القدرة على تشكيل نظرية العقول الأخرى والقصد المشترك، ويعتقد أن هذا التطور في بعض الأحيان قد تزامن مع زيادة في حجم المخ، ويرى الكثير من اللغويين هياكل اللغة بأنها تطورت لتخدم وظائف تواصلية واجتماعية محددة، فتتم معالجة اللغة في العديد من المواقع المختلفة في الدماغ البشري، ولكن خصوصا في مناطق بروكا وفيرنيك، ويكتسب البشر اللغة من خلال التفاعل الاجتماعي في مرحلة الطفولة المبكرة، ويتحدث الأطفال عموما بطلاقة عندما يبلغون ما يقرب الثلاث سنوات من العمر، واستخدام اللغة متأصل في ثقافة الإنسان، بالإضافة إلى استخداماته للتواصل بشكل صارم، وأيضا للغة العديد من الاستخدامات الاجتماعية والثقافية، مثل الدلالة على هوية المجموعة، والطبقات الاجتماعية، وكذلك الاستمالة الاجتماعية والترفيهية.
تتطور
اللغات وتتنوع مع مرور الوقت، ويمكن إعادة تاريخ تطورها وبنائها من خلال مقارنة
اللغات الحديثة لتحديد سمات لغات أجدادهم التي يجب أن تكون من أجل المراحل
التنموية التي يمكن ان تحدث في وقت لاحق، ومن المعروف أن مجموعة من اللغات التي
تنحدر من سلف مشترك تندرج كلغة الأسرة مثل عائلة الهندو أوروبية وهي الأكثر
انتشارا والتي تشمل لغات عدة مثل الإنجليزية والروسية والهندية، والأسرة بين الصين
والتبت، والذي تتضمن الفصحى واللغات الصينية الأخرى، والتبت، وعائلة الأفرو
آسيوية، والتي تشمل العربية والصومالية، والعبرية. أيضا لغات البانتو والتي تشمل
السواحلية، والزولو، ومئات من اللغات الأخرى المستخدمة في جميع أنحاء أفريقيا.
ولغات مالايو-البولينيزية، والتي تشمل الإندونيسية والماليزية والتغالوغ، ومئات من
اللغات الأخرى المستخدمة في جميع أنحاء المحيط الهادي. و لغات أسرة درافيديون التي
غالبا يتحدث بها جنوب الهند والتي تشمل لغة التاميل والتيلجو. يذهب التوافق
الدراسي إلى أن ما بين 50٪ و 90٪ من اللغات التي يتحدث بها في بداية القرن ال21
على وشك أن تنقرض بحلول عام 2100.
اللغة
فى مصر :
الناظر
للواقع اللغوي المعاصر في مصر سيصاب بحيرة شديدة جراء ما يجده من ظواهر لغوية
معقدة، ومتشابكة، وفي أغلبها غير فعالة. فإن كانت اللغة غير قادرة على تأدية
وظيفتها الرئيسية وهي التواصل فإنها تكف عن كونها لغة من الأساس، وتصبح مجموعة من
الأصوات غير ذات المعنى أو الهدف.
إذا
قمنا بتشريح الواقع اللغوي المصري بشكل مختصر وعام فإننا سنجد الآتي. يتحدث
المصريون، في معظمهم، في حياتهم اليومية، نمطا معينا من اللغة يمكن تفريقه بسهولة
شديدة عن ما يسمى بالعربية القياسية الحديثة أو لغة نشرات الأخبار العربية. اصطلح
المصريون، نخبتهم وعوامهم، على تسمية هذا النمط بالعامية المصرية. يُعتقد أن هذا
النمط هو لهجة من لهجات اللغة العربية، ويعتقد كثير من علماء اللسانيات الغربيين
أن هذا النمط يمكن اعتباره لغة مستقلة بذاتها. ما يهمنا هنا أن أحدا لم يهتم أبدا
بوضع قواعد أو مراجع قياسية لهذا النمط. هل يحق لنا أن نتكلم بأي طريقة، بأي
كلمات، بأي مخارج حروف ونظل داخل إطار هذا النمط ؟ في الحقيقة، ليست هذه دعوة لوضع
قواعد لهذا النمط على الإطلاق؛ ولكنها محاولة لفهم كيف يمكن رسم الحدود بين ما هو
هذا النمط وما هو غير هذا النمط. تساؤل كهذا يثير استهزاء كثير من الناس لأنهم
يرون أن هذا النمط هو بالأساس تشويه لنمط أعلى، وأقدم، وأقدس وهو العربية الفصحى
وبالتحديد عربية القرآن. بالتالي، محاولة تصور إطار - حتى ولو كان تعريفيا فقط-
للتشوه هو محض جنون.
تتطور اللغات في عملية شبيهة بالتطور الدارويني. على سبيل المثال، تظهر كلمات جديدة دائما، بعضها يبقي وبعضها يندثر. مع مرور الوقت تتراكم التغيرات الطفيفة الطارئة على اللغات في كلماتها وقواعدها وتراكيبها حتى تختلف اللغة المحكية اليوم في انجلترا مثلا عن تلك المحكية في انجلترا منذ خمسمائة عام اختلافا ملحوظا. ولكن، لا يمكن النظر أبدا لانجليزية القرن الخامس عشر كصورة أرقى وأسمى وأقدس من انجليزية اليوم، فقط لأنها أقدم. هي فقط صورة مختلفة وكانت مناسبة لعصرها ومكانها واستعمالاتها أي أنها كانت مناسبة لسياقها. لذلك، يعتقد علماء اللسانيات أن اللغة هي نشاط إنساني يهدف للتواصل وأنه لا توجد لغة أفضل من لغة بل توجد لغات مناسبة لسياقات معينة ولغات غير مناسبة
تتطور
اللغات في عملية شبيهة بالتطور الدارويني. على سبيل المثال، تظهر كلمات جديدة
دائما، بعضها يبقي وبعضها يندثر. مع مرور الوقت تتراكم التغيرات الطفيفة الطارئة
على اللغات في كلماتها وقواعدها وتراكيبها حتى تختلف اللغة المحكية اليوم في
انجلترا مثلا عن تلك المحكية في انجلترا منذ خمسمائة عام اختلافا ملحوظا. ولكن، لا
يمكن النظر أبدا لانجليزية القرن الخامس عشر كصورة أرقى وأسمى وأقدس من انجليزية
اليوم، فقط لأنها أقدم. هي فقط صورة مختلفة وكانت مناسبة لعصرها ومكانها
واستعمالاتها أي أنها كانت مناسبة لسياقها. لذلك، يعتقد علماء اللسانيات أن اللغة
هي نشاط إنساني يهدف للتواصل وأنه لا توجد لغة أفضل من لغة بل توجد لغات مناسبة
لسياقات معينة ولغات غير مناسبة لتلك السياقات. يزداد الأمر تعقيدا في مصر،
فالتشوه المزعوم في اللغة المحكية ليس مرتبطا فقط بكونها حديثة ولكن كذلك بكون النمط
القديم هو نمط القرآن الكريم وهو النمط الذي اختاره الله دون سائر الأنماط لإرسال
آخر رسالة للبشر. ليس هذا فحسب، نعتقد نحن المسلمون أن القرآن كلام الله حرفيا أي
أنه أنزله على الرسول محمد بالحرف الواحد وليس فقط بالمعنى أو المضمون. هذا
بالضرورة يجعل النمط المختار أفضل وأرقى الأنماط على الإطلاق فهو النمط الذي
اصطفاه الله لإيصال كلامه بالحرف الواحد. هذه قضية إيمانية فلا يمكن الجدال فيها
أو تقديم الحجج ضدها أو معها وهو ليس موضوعنا على أية حال. ما يمكننا الجدال فيه
هو كون اللغة تتطور أو لا. وقد أوضحت أنها بالفعل تتطور. وبالتالي، إن كان هذا
النمط الراقي المقدس محكيا منذ ألف وأربعمائة سنة في شبه الجزيرة فإنه بالتأكيد لم
يكن هو نفسه -تحت أي ظرف من الظروف- ليظل محكيا اليوم على ضفاف النيل. وهو ما حدث
بالفعل. بناءا على ذلك فإن أي محاولة لاسترجاع هذا النمط أو فرضه هي محاولة سباحة
عكس التيار الجارف، قد تنجح قليلا لكنها تفشل في النهاية. قد يستطيع خطيب أزهري
مغمور في مسجد ما أن يلقي خطبة عظيمة على مسامعنا بدون أخطاء نحوية حتى النهاية.
أما القاضي الذي قرأ نص حكم المحكمة على الرئيس السابق حسني مبارك فقد وقع في
أخطاء نحوية قاتلة بالرغم من كونه تعلم اللغة العربية الفصحى لمدة اثني عشر عاما
على الأقل في المدرسة وتخرج من كلية الحقوق ولم يكن يرتجل الكلام. النتيجة أنه وإن
كانت هذه اللغة العربية الفصحى نمطا أرقى من اللغة فيجب أن نقبل أنها ذهبت بغير
رجعة شأنها شأن كل الأنماط المحكية منذ ألف و أربعامئة سنة.
لا
جدوى من إنكار الواقع ومحاولة خداع الذات. لنقل أننا قبلنا بالواقع، وهو أن
النمط الأرقى قد ذهب، هل آن لنا أن نقبل النمط السائد الآن كأمر واقع وأن نحاول
تطويره وجعله مناسبا للاستعمالات الحديثة (ليؤدي وظيفته في التواصل)؟
هل
يحق لنا أن نحلم أن نطوع العامية المصرية لتكون صالحة لكتابة ورقة بحثية في
الفيزياء مثلا؟
دعك
من هذا، هل يحق لنا أن نحلم أن نطوع العامية المصرية لكتابة بريد إلكتروني بين
مدير وموظفيه؟ لم لا؟ ماذا ينقصنا؟
يمكننا
البدء بإنشاء مؤسسة تعمل على تأليف ونشر المعاجم وكتب القواعد النحوية للغة
المصرية الجديدة متى شئنا. يمكن لدور النشر المصرية أن تبدأ في نشر كتب بالعامية
المصرية حتى لو على نطاق ضيق كبداية. بالفعل هناك محاولات خجولة هنا وهناك.
هل
تعلم أن أول رواية مصرية على الإطلاق وهي رواية زينب للكاتب الكبير محمد حسين هيكل
كُتب الحوار فيها بالعامية المصرية؟ والأديب المصري الشهير يوسف القعيد ألف رواية
بأكملها بالعامية المصرية وهي رواية لبن العصفور.
أيضا،
الكاتبة والمترجمة المصرية الشابة ناريمان الشاملي قامت بترجمة عمل أدبي بديع إلى
العامية المصرية وهو رسالة الغفران لأبي العلاء المعري. نال المترجمة المبدعة ما
نالها من هجوم بل وشبهها أحدهم بالدواعش الذين فجروا قبر المعري في سوريا.
سيسألني
أحدهم و لم كل ذلك؟ لم لا يبقى الوضع كما هو عليه الآن؟ قلت لك في البداية أن
الأنماط السائدة لغويا عند المصريين غير فعالة. كيف هذا؟ اللغة العربية الفصحى هي
اللغة التي تمتلك مؤسسات تحميها، وكتاب، ومؤلفين، وعلماء ... إلى آخره لذلك هم
يحاولون الحفاظ عليها، وتطويرها، وإضافة الكلمات لها، ودراسة تراكيبها الجديدة
إلخ. ولكنني أخشى أن أخبرهم أن كل ما يفعلونه باطل وقبض الريح، فلا أحد يتحدث هذه
اللغة. فما فائدة أن يسمي مجمع اللغة العربية الراديو بالمذياع إن كان لا أحد
يستعمل أو حتى سيستعمل هذه الكلمة ويستعمل المصريون كلمة راديو بكل سلاسة وأريحية؟
ولأن المصائب لا تأتي فرادى فإنه على النقيض من ذلك لا يجد النمط المحكي من يطوره
ولا من يدرس تعابيره الجديدة ولا من يحاول أن يجد نظائر فيه للمخترعات الحديثة ولا
حتى من يدرسه في المدارس كلغة عاشرة وليس كلغة أولى. فأصبح المصريون لا يتواصلون
بكفائة فهم يتعلمون اللغة كالأميين تماما من خلال الاستماع، والتقليد، ولا يدرسون
لغتهم بالمدارس، ويدرسون بالمدارس لغة لا يستعلمونها ولن يستعملوها. لهذا وصفت
الواقع اللغوي للمصريين بغير الفعال.
أما
عن فلسفة اللغة في الوعي الجمعي فهي مصيبة أعظم.
كما
قلنا فاللغة نشاط إنساني هادف للتواصل. في وعينا الثقافي الجمعي فإن اللغة هي
غاية في حد ذاتها فاللغة أداة للتفاخر. وصياغة الجمل الإيقاعية والطويلة وغير ذات
المعنى لهو فن مبهر ورص الكلمات ذات النغم في مقدمات الكتب لهو إبداع وتألق. الأمر
يبدأ من المدرسة فيقومون بتعليم الطالب أن يكتب كما معينا في موضوع التعبير دون أن
يهتموا بتعليمه ماذا يكتب وكيف يكتب. يقوم الطالب على مدار 12 عاما من التعليم المدرسي
بتعلم ملأ الصفحات دون أن يهتم بإيصال أي معنى. حدثني أحدهم ولست أدري مدى صدق
المعلومة أن مصححي الثانوية العامة يقومون بقياس مواضيع التعبير بالشبر ويعطون
الدرجة على هذا الأساس. يشير الكاتب الكبير زكي نجيب محمود في كتابه تجديد الفكر
العربي إلى أن هذه الظاهرة ضاربة في عمق تراثنا الأدبي والفكري. يرى الكاتب أن
الكتاب العرب القدامي كانوا يفعلون الشيء ذاته وهو ملأ الصفحات بالكلام المسجوع
المتوازن ويأخذون
يشير
الكاتب الكبير زكي نجيب محمود في كتابه تجديد الفكر العربي إلى أن هذه الظاهرة
ضاربة في عمق تراثنا الأدبي والفكري. يرى الكاتب أن الكتاب العرب القدامي كانوا
يفعلون الشيء ذاته وهو ملأ الصفحات بالكلام المسجوع المتوازن ويأخذون القارئ معهم
في رحلة قوامها عشرات الصفحات حتى لا يجد القارئ أي إضافة تذكر في النهاية. فاللغة
لديهم غاية في حد ذاتها كما هي لدينا أيضا. كنت كلما زرت معرض الكتاب أجد الكتب
التراثية تحديدا تمتد في عدد كبير من المجلدات قد تصل للعشرين وللثلاثين مجلدا
للكتاب الواحد. كنت أتعجب هل حقا ملأ أحدهم ثلاثين مجلدا بشيء مفيد؟ هل يمكن أن
تكون كل صفحة في هذا الكتاب تضيف شيئا جديدا؟ أدعوك عزيزي القارئ إلى أن تغير
نظرتك إلى اللغة فهي ليست غاية في حد ذاتها وإنما وسيلة لإيصال أفكارك وليكن ما
تقول هو ما قل ودل. وإن وجدت أحدا يطيل الكلام بلا إضافة فاعلم أنه لا يجد ما يقول
وأنه يضيع وقتك سواء كان هذا الكلام مقروئا أو مسموعا.
أما
عن البعد الحديث لنظرتنا كمصريين للغة، فقد أصبحت اللغة مثارا للتفاخر الطبقي
والديني. لعب الإستعمار دورا كبيرا في تغريب النخبة المصرية لغويا ولكن هذا زمن قد
مضى. حتى الآن، يذهب كثير من المصريين إلى تعليم أبنائهم بالمدارس التي تعرف
باسم المدارس اللغات -و حديثا المدارس الدولية- فهي تمتاز فوق كل شيء، بكونها تدرس
التلاميذ لغة واثنين من اللغات الأجنبية ليقال عنهم أنهم من متحدثي اللغات. فتجدنا
قد صرنا نراسل بعضنا على الهواتف وشبكات التواصل بالانجليزية. تجدنا أيضا نقحم
الإنجليزية وأحيانا الفرنسية بشكل مفرط، بقصد أو بدون قصد، في أحاديثنا اليومية.
تجد بعضهم يتفاخر بجهله بالعربية ولست أدري أين المدعاة للفخر في الجهل بأي شيء
عموما. أما إخواننا المتدينون الله يجعل كلامنا خفيف عليهم، فإنهم صاروا يفعلون
النقيض، فتجدهم يبدلون كلمات مصرية بكلمات عربية فصحى ويستعملون مخارج حروف غريبة
على العامية المصرية فتجدهم يقولون مسجد بدلا من جامع، ومنتقبة بدلا من منقبة،
وصلاة بدلا من صلا، وقراءة بدلا من اراية، وينطقون الثاء والذال والقاف كنطقهم
بالعربية، ويعطشون الجيم، وغيرها من المضحكات المبكيات فهم بهذه الاختلافات
البسيطة يحاولون أن يظهروا قوة إيمانهم وتقواهم وتمسكهم بالدين. لا أعلم، هل
الأتراك والباكستانيون والألبان الذين لا يتحدثون العربية ولا أي لهجة من لهجاتها
غير مؤمنين أو غير متدينين بما فيه الكفاية؟ ولست أقول أبدا أن هذه الأمثلة غير
موجودة في العالم أجمع. الفوارق الطبقية في اللغة موجودة في كل مكان وتزدهر خصوصا
في ظروف التحولات الإقتصادية والإجتماعية كتلك التي شهدها المصريون خلال النصف
الثاني من القرن العشرين. وكذلك محاولة أتباع الأديان لتبني صور مختلفة من اللغة
عن تلك السائدة لهو دأبهم في كل بقاع الأرض ولكن إلى أي مدى؟ هل مثلا تجد الطبقة
العليا في فرنسا تتحدث الإنجليزية ويتفاخرون بجهلهم بالفرنسية أو اللاتينية؟ هل
تجد المسيحيين المتعصبين المتدينين بأمريكا يقحمون كلمات من الآرامية أو اليونانية
في أحاديثهم اليومية. فقط في العالم العربي نجد مثل هذه الظواهر المتطرفة و
الغريبة.
فقول للزمان ارجع يا زمان، لا تعتقد النخبة الفكرية المصرية في هذه المقولة
فهم بالفعل يعشقون الماضي على الأقل الماضي اللغوي. تجدهم يحبون استخدام الكلمات
بمعانيها التراثية الميتة فتجد واحدا مثل الدكتور يوسف زيدان يخرج على التلفاز
ليحاول إقناع المذيع أن إحدي الكلمات البذيئة تعنى الخادم المخلص ويجب على المصريين
أن يستخدموها بمعناها الصحيح بل ويتهمهم أنهم يستعملون الكلمات في غير موضعها.
ربما لا يعلم هذا الشخص أنه من الطبيعي جدا أن تتبدل معاني الكلمات مع مرور الزمن.
ولا يوجد معنى صحيح و معنى خاطئ في المطلق بل هو اصطلاح.إن اصطلح الناس على معنى معين فهو كذلك وإن اصطلحوا على معنى آخر فهو
الآخر ببساطة. ليس هذا فحسب بل يعشق الكتاب والمثقفون المصريون استخدام التشبيهات
والتعابير المندثرة. المصري العادي يقرأ القرآن أو الكتاب المقدس ويشاهد الأفلام
والمسرحيات والبرامج ويستمع إلى الأغاني والأمثال الشعبية. في الأعم الأغلب أي
محاولة لاستخدام تشبيهات وعبارات من مصادر أخرى لن تكون مجدية. و لكن هذا أيضا
مرده إلى نظرتنا للغة فهي ليست وسيلة ولكنها غاية. وغاية المثقفين، أيضا، أن
يثبتوا لنا أنهم قرأوا كتبا ميتة لم يقرأها أحد و أنهم على علم و إطلاع كبيرين.
ربما أيضا هذا غرض كثير من الناس في كل مكان ولكنهم يحاولون استخدام التعبيرات
المناسبة في السياقات المناسبة ولا يستخدمون تعبيرا لا يعرفه أحد فهذا ضرب من
العبث.
----
عميد طب المنيا السابق
2 تعليقات
اللغة العربية لغة سامية تعتبر أكثر اللغات تحدثاً ضمن عائلتها اللغوية، وإحدى أكثر اللغات انتشاراً في العالم، مقالة مفيدة جدا.
ردحذفالدكتور فارس ابراهيم
أحسنت دكتور
حذف