آخر الأخبار

من يمنح المغفرة لمن ؟!


من يمنح المغفرة لمن ؟!






بقلم : أحمد عز الدين
لا أحب ولا أحبذ تعبير " الإسلام الوسطي "، لأنه يمثل إقرارا بتقسيم جوهر الإسلام إلى .. وسطي ، ومتطرف ، وربما إرهابي ، فمن الطبيعي أن ينشأ إلى جانب تعبير " الإسلام الوسطي " " الإسلام الإرهابي " ، وهو التعبير الذي يستخدمه الرئيس الأمريكي " ترامب " أو الإسلام المتطرف الذي تستخدمه مراكز الأبحاث والدراسات الغربية ، وهو ما يعني بديهيا ، أن التطرف مُكوّن أساسي في الإسلام ، وأن الإرهاب مٌكوّن عضوي فيه ، وفرع طبيعي في شجرته ، وفق ما ينطق به الأغلب الأعم من مدارس الفلسفة الغربية .
عندي أنه ليس هناك أكثر من إسلام واحد ، لا يمكن تقسيمه إلى اثنين أو ثلاثة ، وأن الإسلام وحدة واحدة لا تقبل التفكيك ، وليست متعددة الوجوه ، وأي وجه غريب عن جوهر الإسلام ، أو يمثل شذوذا مخالفا لجوهره ، لا يمثله ولا ينتسب إليه .
ماذا أريد أن أقول ؟ ما أريد أن أقوله قد يتوزع على النقاط التالية :
أولا : أن تعبير " الإسلام الوسطي " دائما ما يرد في الأحاديث والتفاسير مستندا إلى القرآن الكريم ، كمضمون لآية صحيحة : " وكذلك جعلناكم أمة وسطا " ، مع أن وصف " وسطا " ليس راجعا إبى العقيدة بذاتها وإنما إلى الأمة في سلوكها ومواقفها ، فهو تعبير يدخل في توصيف التكوين الذاتي لما سُمي ب " الأمة " بكل مكوناتها وأعراقها وعقائدها ، وقد يدخل في باب ثقافة الأمة أو تراثها أو تاريخها ، أو محددات توجهها ، بمعنى أنها ليست حدّية في خياراتها ، غير أن المرادف اللغوي لكلمة " وسطا " لا تعني التوسط ، ولا أن خير الأمور الوسط كما يقال ، فوفقا لأكبر وأدق قواميس اللغة العربية فإن مرادف " وسطا " هو " عدلا " أي " أمة عدلا " فالعدل هو جوهر التعبير ، وليس السير في طريق وسط ، بين طريقين آخرين ، يحملان نفس الأسم أو العنوان ، وأمة وسطا هنا يعني أنها تزن مواقفها وتوجهها بتوسط رمّانة الميزان بين كفتين ، وهو ما يؤسس لمفهوم واسع لتعبير العدل ،بكافة أبعاده ومراميه ، حيث العدل هو جوهر الرسالة ، وهو إطارها الحاكم .
ثانيا : أن تعبير " الإسلام الوسطي " إضافة إلى ما يمنحه من فرصة معتلة ، لمضادات الإسلام ، بفرز أو تصنيف أكثر من إسلام واحد ، فإنه فاقد للدلالة ، لأن الإسلام ذاته هو الظاهر ، أما الباطن فهو يتعلق بأمر آخر ، وهو " الإيمان " فالإسلام لا يعني الإيمان ، وإنما يعني القبول بالدخول في النظام العام ، الذي تقره شريعة الإسلام ، والانطواء تحت سقفه العام ، حتى دون أن يسري في قلوب أصحابه إيمان راسخ به ، يقول القرآن الكريم : " قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ " .
الإيمان إذا هو الباطن ، ومحله الكامن هو القلب ، أما الإسلام فهو الظاهر ، ومحله الإعلان والانطواء والانتساب ، والقبول المعلن بالعيش تحت سقفه وفي إطاره ، وتلك المسافة الرحبة بين الإيمان والإسلام ، هي التي دخل منها الإرهاب بكل صنوفه وألوانه ، رغم أنه ليس لمسلم أن يشق قلب آخر ليكشف عن مكنونه ، كما خرج منها مصطلح " الأسلمة " الذي أصبح مطرا في كثير من الكتابات ، رغم أنه بدوره ، لم يتنّزل ، لا من فقه الإسلام ، ولا من فقه اللغة ، وإنما من فقه الكونجرس الأمريكي .
ثالثا: ثمة إيهام كبير ، يعاد شحن الناس به ، وذلك بالربط بين " الوسطية " وبين " السلفية الجديدة " - على شاكلة فلسطين الجديدة - على غرار ذلك الشيخ الوهابي ، الذي قدم اعتذارا عما سبق من فتاويه ، التي ظلت تقطر سيوفا ودما ، مبشرا بعودته إلى الإسلام الوسطي ، بعد رحلة دموية ماتزال ظلالها تصبغ وجهه ولحيته .
إن السلفية ليست " الأصولية " ، وقد جرى الخلط بينهما ، حيث جاء تعبير الأصولية ترجمة مباشرة لكلمة " Fundamentalism" التي تم إطلاقها تحديدا على بعض الدعوات المسيحية الغربية ، بالعودة إلى نصوص الإنجيل ، بعد أن أصبح اللاهوت سلاحا للمقاومة ، في إيدي الإقطاع الغربي ضد بذور الرأسمالية النامية .
إن " السلفية " هي إحالة إلى السلف ، أي إلى تصور أشخاص محددين في الماضي ، لكن الأصولية حتى في دلالتها الغربية القديمة ، يمكن أن تكتسب معاني جديدة مختلفة ، إنه المعنى الذي يجعل " نهرو " أصوليا هنديا ، ويجعل " ماتوسي تونج " أصوليا صينيا ، ويجعل " جمال عبد الناصر " أصوليا مصريا ، فالأصولية بهذا المعنى ، هي ربط أشكال الحداثة والتطور ، بقدرتها وقابليتها على التكيّف مع التراث الوطني التاريخي ، ومع الخصوصية الوطينة ، وليس العكس ، كما أن الأصولية أيضا ، وفق هذا الفهم ، ليست صيغة لتجديد الماضي ، أو تحديثه ، أو إضفاءه قشرة عصرية مستعارة عليه ، سرعان ما تجرفها عاديات الزمن .
رابعا : إن هذه السلفية العدوانية البغيضة ، تحت اسم الوهابية أو غيرها ، المناهضة لجوهر الإسلام ، والتي تريد أن تصور لعموم الناس ، أنها تنكبت الطريق ، ثم عادت إلى الطريق القويم باسم " الوسطية " ، معتذرة عن خروجها الجامح ، هي ضالة ومضللة ، فهي كالحرباء تتلون حسب البيئة ، دون أن أن تتغير أحشاؤها الداخلية ، والذين يرون في اعتذاريتها عما أدته وظيفيا من هدم وخراب ودم ، ما يستحق التنويه أو يستوجب الاستجابة والقبول ، هم بدورهم ضالين ومضللين ، فالذين أنتجوا بحورا من الدماء ، وجبالا من الضحايا ، وهدّموا سقوف البلاد على رؤوس أهلها ، وأشاعوا الخراب والعذاب والفاقة والتشرد ، في ربوع بلاد العرب ، لا غفران لهم عند رب العالمين ، وإنما عند البشر الذين طالتهم سيوفهم ، بحسب جوهر الإسلام ذاته ، ولذلك إذا أرادوا غفرانا من البشر فعليهم أن يجمعوا كل قطرة دم سٌفكت ، وكل روح بريئة أزهقت ، وكل حبة رمل هدّمت ، ويسألوها بأنفسها غفرانا ، لعلها تقدم لهم المغفرة .
إن الدم وحده ، هو الذي يملك حق الغفران للسيف ، وعقيدته .

إرسال تعليق

0 تعليقات