آخر الأخبار

السكان والتنمية وإصلاح التعليم

السكان والتنمية وإصلاح التعليم








د. محمد إبراهيم بسيوني

الدولة المصرية لن تستطيع إصلاح التعليم مهما فعلت مع عدد المواليد السنوي الهائل (٢.٦ مليون مولود). مهازل مستويات خريجي الجامعات سببها ان منتج التعليم قبل الجامعي هو منتج رديء وآخذ في الانحدار والعينات أمامنا. منظومة التعليم لم تتطور منذ ١٩٥٢ حتى الآن، ولم تهتم مؤسسات الحكم المتعاقبة بالإنفاق الاستثماري الحقيقي على التعليم واحتياجات سوق العمل.
بغض النظر عمّا قيل أو سيقال أو ما قد سنقوله ونتناوله في موضوعنا هذا لابد من الاعتراف بحقيقة ثابتة لا جدال فيها سواء من قبل الأشخاص المتدينين أو العلمانيين آلا وهو موضوع الإنجاب أو استمرار النسل البشري بمفهومه العام الشعبوي أو المؤسساتي الأيديولوجي أو بمفهومه الشخصي الضيق. إن هذا الموضوع والحدث الجلل للكثيرين من أبناء جلدتنا لطالما شكّل هاجساً وحافزاً في المضي قدماً نحو تلك الحياة بمستقبلها المضلل المظلم والمجهول والغير مشرق للعديد منا عبر أطوار حياته وتقلباتها المتراكضة على ذاتها.
في العديد من الثقافات الدينية يعتبر إنجاب الأولاد مسألة قدرية ومصيرية تتصل بالسماء العليا، فالرزق والنصيب بما فيها إنجاب الأولاد هو قرار سيادي للسماء وماردها الأعلى وما البشر سوى أدوات تنفيذية أو فئران تجارب في أحواض المختبرات. أما عند أصدقائنا المرتبطين بحبال وجدائل الثقافات الدينية الغيبية حيث تنتشر سحابة الجهل والتخلف والتسطح، فإن مسألة إنجاب أو إنتاج سلالة بشرية جديدة تحمل عبق التأريخ العائلي وآمال المستقبل العريض المنكبين هو مسألة وقرار إلهي بامتياز بغض النظر عن تكوين ذاك الإله وحساباته، إنه الجهل والخوف من المجهول هذا بدوره أدى إلى نشوء وارتقاء ثقافة الأرانب بامتياز.
اسمحوا لي بأن اسمّيها بتلك التسمية لأن الأرانب كما هو معلوم ومتعارف عليه تمتلك السبق في عدد المواليد التي تنجبها أو تنتجها غريزياً، طبعا وباستبعاد البكتيريا والجراثيم وأشباهها التي تتكاثر بطريقة الانقسام الخلوي ومن دون أدنى تلقيح أو تزاوج جنسي بين ما يسمى بثنائية الذكر والأنثى.
إن تلك الثقافة التي استمدت شرعيتها من الغيبيات وفلسفتها اللامنطقية شئنا أم أبينا أصبحت واقعاً عاماً وعرفاً بل وقانوناً في الكثير من مجتمعاتنا العربية وعلى الأخص الإسلامية، بسند شرعي من بعض الأحاديث والمقولات المدسوسة والمفبركة والتي تم اعتبارها مقدسة في غفلة من الزمن العابث فنرى في مجتمعاتنا العربية والإسلامية تسود تلك الثقافة أو الفلسفة بشكل تواتري وغرائزي ومن جيل إلى أخر وكأنه حُمّل على الجينات الوراثية وأصبح استعداداً فطرياً ومن ثمّا فكرياً. فنحن وعلى الرغم من بلوغنا القرن الواحد والعشرين بثراه العلمي والأدبي والتكنولوجي لازال العديد والعديد من الأسر والعوائل تتبع هذا المنهج وبغض النظر عن الحالة الاجتماعية والاقتصادية بل وحتى الثقافية.
فلازلنا نشاهد الكثير منهم يصر على الإنجاب وبأعداد تفوق قدرته الاقتصادية المادية وحالته الاجتماعية رغم تحصيله العلمي الجيد الى حد ما رغم أن مسألة الشعور والإحساس بالأمومة والأبوة تتحقق بوجود ولد واحد وبالتالي لن يزداد الشعور كمياً بازدياد العدد تصاعدياً والعذر والمبرر دائماً موجود آلا وهو إن هذه هي إرادة السماء والقدر.
إن العلوم الطبية قد تطورت وقطعت أشواطاً كبيرة وهائلة في هذا المجال فأصبحنا اليوم نستطيع تحديد عدد المواليد واختيار جنسهم بإرادتنا نحن فلم يعد هنالك عذر مقبول في تلك المسألة. إن المخجل هو الجهل وعدم السؤال بل والمزري والأشد قذارةً ونفاقاً على النفس والغير هو تحميل الأمر أكثر من الطاقة والاستطاعة وكأنه خارج عن إرادتنا أو سيطرتنا إلا في نطاق ضيق جداً. إن الأمر لا يتعلق بكثرة العدد والعديد فنحن لسنا أمام سباق تسلح لخوض معركة أو حرب تستهدف الحصول على مناطق خصبة للماء والكلأ كما كان يحدث في تلك الأزمنة السحيقة العتيقة حيث تقاس القوة بمقدار ما للأسرة او العشيرة من رجالات وأبناء. الأمر بعيد كل البعد عن ذلك فالمسألة تتعلق بالتزام أخلاقي وأدبي وواجب تربوي بامتياز فالكيفية والنوعية هي الأساس في عصرنا هذا وخصوصاً في ظل فاقة وعوز متجدد وأزمات اقتصادية وسياسية متلاحقة ومتكررة. ولكن في المقابل نرى الفئة التي تتّبع المنهج العلماني كأسلوب حياة وطريقة في التفكير تنهج سلوكاً مغايراً ومختلف تماماً.
فأولاً إن مسألة إنجاب الأطفال هي قرار ذاتي وشخصي نابع من إرادة شخصين متطابقين إلى حد ما وليست مسألة عبثية أو قدرية مرمّزة أو مشفرة بل هو مشروع مخطط له معلوم الدوافع والأسباب والنتائج.
وثانياً هو التزام أخلاقي وانساني وأسري ومادي إلى حد كبير لأن مسألة إنجاب الأطفال ومن ثمّا إلقائهم في طرقات الحياة ومن دون أدنى سبل العيش او فرص التكيف والتقدم والنضوج على كافة المستويات وبعدها خلق وإيجاد الأعذار والتبريرات بحجج واهية لا منطقية وعبثية لهو الجنون والحماقة والوقاحة في آن معاً.
وثالثاً هو واجب والتزام وطني من منظور أكثر بعداً وعمقاً ففي الدول الغربية والتي تنتهج العلمنة في أدبياتها وتشريعاتها نرى المواطن يشارك بهذا الأمر من بعد أخر آلا وهو مسألة إنجاب الأطفال لأن الدولة والحكومة ككيان سياسي واجتماعي واقتصادي عليها مهام وأعباء تجاه رعاياها ويزداد ثقلاً وحملاً كلما أزداد عدد الرعايا بشكل طردي إيجاباً وبشكل عكسي سلباً.
أي بمعنى أخر إن الدولة أو البلد وبغض النظر عن شكل الحكم السياسي تتحمل أعباء إضافية فكلما ازداد عدد الرعايا والسكان ستكون نوعية الخدمات والنفقات على تلك الأعداد الغفيرة وبشتى المجالات إن وجدت رديئة وسيئة وعبثية واستنسابية ولكن في المقابل كلما انخفض عدد السكان كلما زادت الثروة وقدمت الخدمة على إختلاف أشكالها ومسمياتها بشكل أفضل وطالت عدداً أكبر من الرعايا المواطنين حتى تصل الخدمة إلى مستوى الرفاه في عرف القانون الدولي.
ومن هنا نرى أن الالتزام الأدبي والأخلاقي والوطني يساهم وبشكل غير مباشر في رفع سوية البلاد ودعم اقتصادها من كافة النواحي والأصعدة وسيزداد تحصيل الفرد ومعدل الإنفاق ونوعية الخدمات ومستواها بشكل
ومن هنا نرى أن الالتزام الأدبي والأخلاقي والوطني يساهم وبشكل غير مباشر في رفع سوية البلاد ودعم اقتصادها من كافة النواحي والأصعدة وسيزداد تحصيل الفرد ومعدل الإنفاق ونوعية الخدمات ومستواها بشكل لائق ومحترم.
سأعطي مثالاً بسيطاً على ما أقول. في دولة كمصر أرض الكنانة وتحديداً في عشرينيات القرن الماضي كان عدد السكان بحسب إحصائيات رسمية حوالي سبع ملايين نسمة وبالمقابل وفي بلد كالنمسا أو سويسرا كان عدد السكان في نفس الفترة الزمنية من ذلك القرن أيضا حوالي سبع ملايين نسمة على أبعد حد. بنظرة سريعة اليوم إلى ما آلت إليه الأمور مصر العربية يقارب عدد سكانها المائة وعشرة مليون نسمة بينما لا تتفاجؤوا إذا قلنا إن تلك الدول الغربية كسويسرا والنمسا مازالت محافظة على نفس العدد تقريباً في يومنا هذا. هذا التضاعف الآسي والانشطاري لهو مؤشر خطير ومفزع خاصة اذا ما قارنا تلك البلدان على الصعيد الاقتصادي والمالي، فأين القوة وسباق التسلح من هذا الأمر؟؟. هذا إن دلَّ على شيء فهو يؤكد بأن العدد والذي كان له شأن فيما مضى لضرورات العمل العضلي والحروب و الاقتتال لم يعد له مسوغ أو مبرر وبأي شكل من الأشكال أو المسميات. لا يمكن ونحن في القرن الواحد والعشرين وفي عصر الفضاء وعلوم الذرة أن نبقى متساهلين ومتغاضين ومغمضي البصر والبصيرة عن هذه المعضلة والمشكلة الخطيرة على المدى البعيد. فمن غير المعقول أن تتضاعف أعداد منطقة أو مجتمع ما أربعة أو خمسة أضعاف خلال عقود قليلة نتيجة جهل البعض أو سلبية البعض الأخر كما حدث في مناطقنا وبلداننا. ولم تعد مقبولة تلك الحجج الضعيفة والواهية التي لا تصمد أمام العقل والمنطق والأخلاق كسياسة لفرض الأمر الواقع لتقبله سواء على المستوى الضيق الأسري أو على المستوى العام المجتمعي. العلوم الطبية موجودة والوسائل المضمونة متوفرة وكذلك الأزمات المالية والترهل الاقتصادي والاجتماعي في بلادنا موجود بكثرة ووفرة وللأسف لذلك لم يعد من المقبول أخلاقياً وإنسانياً وسلوكياً أن نرى في هذه الأزمنة. تلك الثقافة الأرنبية مازالت منتشرة بين ظهرانينا وبأي شكل وتحت أي ظرف أو مسمى كان.
إن المجتمعات التي تود النهوض والتقدم في رُكب الحضارة الإنسانية والخروج من الواقع المزري المتردي عليها الوقوف بحزم والتصدي لهذه الثقافة المشوهة عبر سَن تشريعات صارمة وقوانين ومؤيدات حازمة تمنع تشفي واستمرار تلك الممارسات حتى تنعكس على مختلف النواحي الحياتية والمعايشة.
ولنا في الصين كدولة مثال يحتذا به فبعد أن كان التضخم السكاني عندهم من أعلى المعدلات في النمو السكاني والذي أثّر سلباً على الدولة وتطورها انعكس إيجاباً بعد تطبيق سياسة تحديد النسل وأصبحت معدلات النمو السكاني عندهم من الأقل عالمياً على عكس بلداننا التي تعيش على الغيبيات والمغيبات في ظل وجود واقع معاشي مزري كما أشرنا مما جعلها من أعلى معدلات النمو السكاني فتصدرنا بذلك سباق التسلح.
لا أريد أن يفهم من كلامي هذا إنني ضد استمرار النسل البشري أو الإنجاب بشكل عام بل على العكس تماماً وإنما أنا ضد سياسات التفريخ والتدجين وكأننا في مداجن ومستوعبات لا هم لها سوى تفريغ مستوعباتها وبذورها في تلك الجرار والخوابي ومن باب إلقاء الأمور على عواهنها. المسألة تحتاج إلى التزام أخلاقي أدبي وانساني واجتماعي بكل المقاييس والأبعاد ونظام تشريعي عصري ومتوازن لضبط ذلك الانفلات والتكاثر العشوائي مع ضوابط وكوابح جزائية قانونية حتى تعود الأمور إلى نصابها وشكلها الطبيعي. فالخيرة والفاعلية والإنتاجية في النوعية والكيفية لا في العدد والعديد فتكفينا الكثير من الأزمات والانكسارات ولا نريد ان يكون التضخم السكاني من إحداها. دعوا الأرانب وثقافاتها الغرائزية وسلوكياتها الطفيلية وتسلحوا بالمعرفة والعلم والأخلاق لإحداث الفارق بين واقع مزري ومستقبل لابد أن يكون أكثر إشراقاً بكل محبة ووعي.
-----------

عميد طب المنيا السابق


إرسال تعليق

0 تعليقات