عباس ينقب عن حوت يونس ....(
اشتباك حر) الجزء الثالث
محمود جابر
فى الحلقة السابقة استطاع عباس
الزيدى إثبات أن نينوى التى وردت فى قصة النبى يونان – يونس- ضمن الفضاء الجغرافى
لمدينة كربلاء العراقية .
القرعة :
القرعة أو الاقتراع هو الإجراء
الذى قام به البحارة حينما ارتفع الموج واشتد الريح فقاموا بعمل قرعة لمعرفة
الجانى الذى يجب التخلص منه فى البحر .
وكعادته فى البحث ووقوفه عند
كل شاردة وواردة وقف (( عباس)) أمام موضوع الاقتراع وبحث خلفيته الثقافية
والتاريخية ووضع احتمالات وحصر الشعوب التى كانت تستخدم الاقتراع باعتباره استشاره
للسماء، أو إجراء عقلانى محايد، وعن طريقه يتوصل إلى حل القضية أو معرفة الجانى،
وعن طريقها يعرف تحديد القيام بعمل أو القعود عنه، ثم يقول عباس ولكن جريمة يونس
ليست من نوع الجرائم التى تتيح لأي قانون أرضى أن يحكم بها، وكان دور القرعة معرفة
من هو السبب فى المشكلة التى حلت بالسفينة وركابها، وعن السبب وراء عمل تلك القرعة
وشرعيتها فى التوراة قال عباس إن مفسرو التوراة لم يسعفونا بجواب، وكذلك المفسرين
المسلمين لم يكن لديهم جواب وما ذكر كان نوعا من التخبط وذكر رأيا للشيخ الطبرسى
فى مجمع البيان فى تفسير سبب إجراء القرعة ولكن عباس قال إن ما قاله الشيخ الطبرسى
نوع من التخبط .
ثم ذكر عباس نصا من موسوعة
" شريعة حمورابى" للدكتور نائل حنون، والذى قال فيه انه يرد ذكر النهر
فى شريعة حمورابى باعتباره المكان الذى يحتكم إليه لإثبات الاتهام من عدمه، وقد
أصبحت هذه العملية إجراء طبيعيا وشرعيا فى بلاد الرافدين فى العصر البابلى الأول
فصاعدا وكانت هذه عملية يحتكم إليها حين يكون هناك اختلاف قضائي، كتضارب أقوال
الشهود ووجود أدلة وعكسها هنا يتم الاحتكام للنهر المقدس.
والطريقة الإجرائية المستعملة
هو أن يخوض الشخص الماثل أمام المحكمة فى النهر فى موضوع معين فإن نجي فهو بريء
وإن هلك فهو مذنب، وقد لقى ما يستحق .
وكان يتم الاحتكام إلى اقرب
نهر للقاضي أو المتخاصمين،وكما تم الاستدلال على طريقة الاحتكام للنهر فى شريعة
حمورابى فقد وجد نفس النص – تقريبا- فى قوانين العهد الأشوري الوسيط، وبما أن
طريقة الاحتكام للنهر امتدت وقتا طويلا فى العراق سواء البابلية أو الأشورية فإنه
يجدر الإشارة أن هذه القوانين أو بعضها استعمل فى حل القضية المتعلقة بالنبي يونس .
الحوت :
من المعلوم أن التوراة لم تذكر
كلمة (حوت) وإنما ذكرت كلمة (سمكة أو شيول أو ش ءول).
ولا يوجد ثمة رابط بين السمكة
والحوت الذى هو حيوان ثدى بحرى، وبين الكلمات السابقة، وقد تبرع التوراتيون
وترجموا كلمة سمكة إلى حوت واستقر الوعى المعرفى – جزافا- عند التوراتيين
والمسلمين بأن الحوت هو الحيوان الثدى البحرى حصريا.
علما أن كلمة ( شيول / شءول)
تعنى العمق آو الهاوية عن مفسرو التوراة .
وان الترجمة التى قاموا بها
التوراتيين وتم الترجمة مرة بالسمكة ومرة بالحوت، وما زاد الطين بله هو استبدال
النهر بالبحر، وفى نص كتاب " المدخل إلى العهد القديم" لصموئيل يوسف نجد
أن النبى يونس يقول وان الماء بلغ أنفى والعشب يغطى رأسه، فهل باطن الحوت فيه ماء
وعشب بهذا العمق؟
واستشهد عباس بفلهوزن الذى
أنكر ابتلاع الحوت – الحيوان الثدى ليونس- إنما هو عمق النهر أو باطنه . وهذا
السفر كما هو أسفار العهد القديم التى كانت تعبيراتها كلها يغلب عليها المجاز،
ومنها قول يونس :" من باطن شيول استغيث" فما الذى جعل شيول – الهاوية –
سمكة ؟!!
ولكن اعتقد أن عباس وقع فى عدة
اخطأ فى قضية أن البحر والنهر واليم مترادفات لكلمة واحدة فى المعنى، وسوف يكون
لهذا الموضوع حديث آخر كموضوع مصر الذى تركناه مؤجلا حتى لا نربك القارئ معنا فسوف
نترك الأمر و لكل حدث حديث .
عاد عباس ومن خلال الحوت يثبت
أن " نينوى" ليست هى المدينة الاسبانية التى تحدث عنها علماء التوراة
لان لحوت لا يعيش فى البحر المتوسط الواصل بين فلسطين واسبانيا، ووفقا لرؤية عباس
فإن " نينوى" التى هى فضاء كربلاء الحالية وهى بيئة نهرية لا يمكن أن
يتواجد فيها حيتان، فإن قضية الابتلاع فى باطن الحوت " شيول" تعمى انه
غرق فى باطن الهاوية واشرف على الموت المحقق وإنه وصل حين غرق إلى أسس الجبال أي
إلى عمق الأرض حتى الماء .
ثم عاد عباس للبحث عن كلمة حوت
فى معاجم اللغة العربية التى لم تتفق فى تفسير كلمة حوت إلا على معنى واحد وهو
" الروغان" أو " الاضطراب " كمعنى وحيد متفق عليه وليس "
الحوت الذى يعنى الحيوان الثدى الذى يعيش فى الماء .
وبينما يحاول عباس البحث عن
دلالة كلمة "حوت" فجر لنا مجموعة من القضايا الكبرى التى يمكن أن تحدث
ثورة فى عالم قراءة النص القرآني وتلك القضايا هى :
- فسر كلمة " حوت"
فى قصة موسى والفتى التى وردت فى قول الله تعالى(قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا
إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنسَانِيهُ إِلَّا
الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ ۚ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي
الْبَحْرِ عَجَبًا) الكهف 63.
قال عباس إن الحوت المذكور فى
الآية تعنى المركب .
الثانية: " الثعبان"
هو اسم لفعل وليس اسما علما، والثعب هو حركة الماء وتمددها وهو ما حققه عباس فى
كتابه .
الثالث : أشار عباس بشكل واضح
أن التفسير المربك جاء نتيجة الروايات الوضعية – المكذوبة- التى تم الاستشهاد بها
على إثبات مالا يمكن إثباته فكانت النتيجة حالة من التيه فى قراءة النص المقدس؛
لكن عباس لم يقطع فى اتهامه لمن وضع الروايات المكذوبة .
ولكن لنا ملاحظة هامة وهى أن
عباس قطع أخذنا فى طريق طويل عبر الكثير من البحث والعمل فى قضية معنى كلمة"
حوت" وراح يبحث وينقب ويناقش ويستعرض قضية حوت فتى موسى التى وردت فى سورة
الكهف ورغم أهمية هذا المبحث وتفرد الكاتب فيما ذهب إليه إلا أن الملاحظة المهمة
انه اخذ القارئ بعيدا جدا عن عنوان وموضوع الكتاب إلى مبحث فرعى استفرق ما يقرب من
ثلث صفحات الكتاب أو البحث .
ثم عاد لنا عباس بعد رحلة حوت
فتى موسى برواية من بحار الأنوار للمجلسى والرواية عن الإمام الباقر ومفادها أن
يونس غرق فى البحر ولم يبتلعه الحوت كما هو متعارف او مشهور من خلال كتب التفسير .
ومجددا يصدم عباس القارئ بما
يطرحه من مفاهيم جديدة على أسماع وأذهان القارىء المتخصص قبل العادي، فقد شرح معنى
كلمة " وذا النون " التى وردت فى قول الله تعالى ( وذا النون إذ ذهب
مغاضبا) فقال أنها ليس لها صلة بالحوت وانما " ذا النون" صفة ليونس
والنون هو الغضوب الحاد، وهو ما ذكره ابن منظور فى لسان العرب أن " نون"
تعنى شفرة السيف، ومن هنا ومن خلال نصوص القرآن وخاصة ما ورد فى سورة القلم (
فاصبر لحكم ربك ولا تكن كصاحب الحوت ) الآية تتحدث عن صفات يونس التى تتسم بالغضب
والحدة والضجر والعجلة .. وكلها صفات للنبى يونس وليس اسما للحوت، بل إن وصف يونس
بـ " ذو النون" كان سابقا عن حادث الغرق .
ضريح يونس :
البحث الذى قام به عباس فى هذا
الموضوع لا يقل قيمة عن سابقه، فقد ذكر فى مفتتح هذا العنوان ضريح النبى يونس فى
نينوى الشمالية محافظة الموصل، واثبت ان هذا الضريح لا يحتوى على رفات النبى يونس .
والأصل فى هذا الضريح انه كان
فى أصله دير مسيحى تحته عين تسمى عين يونس وقد شيد الدير واحتوى على العين وكان
ذلك قبل الإسلام فى القرن الخامس الميلادى ومن المحتمل انه يحتوى رفات راهب مسيحى
يسمى يونان .
ويقطع عباس أن بناء الأضرحة فى
العراق هو تقليد مصرى انتقل إلى العراق فى القرن الرابع الميلادى من مصر على يد
رهبان مصريين وكان ذلك على يد راهب مصرى يدعى مار أوجين توفى 362م، ومن المحتمل
انه هو من بنى دير يونان الواقع فى نينوى.
ومن خلال بحث طويل فى تاريخ
المسيحية فى العراق وبناء الأضرحة والأديرة على يد رهبان المسيحية يطوف بنا عباس
مؤصلا هذا الوجود ومستعرضا كل وجهات النظر التاريخية، ثم يقول أن تاريخ بناء
الأضرحة والأديرة فى العراق ليس محل اتفاق بين كتاب التاريخ فمنهم من يعود بوجود
الأضرحة والأديرة إلى سنة 82م، وأن أول دير بنى فى المشرق بنى فى العراق أنشأه مار
مارى فى منطقة النعمانية بمحافظة واسط، ويقول عباس أن " مار مارى" هو
أحد تلامذة "مار أدى" أحد تلاميذ السيد المسيح، ومن خلال عمل بحثى طويل
ومستفيض يصل بنا عباس إلى أن الضريح الموجود فى نينوى ليس هو ضريح النبى يونس قطعا
وأنه لم يكن موجودا قبل القرن الرابع الميلادى .
ومن خلال كتاب نزهة المشتاق فى
تاريخ يهود العراق قطع المؤلف حديثه بخصوص نسبة القبر والضريح الموجود فى نينوى
للنبي يونس عليه السلام .
ثم يعود عباس ويقطع مجددا أن
قبر يونس يوجد بالكوفة على الضفة اليمنى لنهر الفرات ويعرف بمسجد الحمراء، وان
الإمام على بن الحسين زار قبر النبى يونس بهذا الموضع مستشهدا بكتاب "
المزار" لمحمد بن جعفر المشهدى ومحققه محمد سعيد الطريحى الذى ذكر فوائد هامه
فى هذا الخصوص .
فى الختام يعتبر عباس الزيدى
باحثا وكاتبا ومفكرا استثنائيا لم يسبقه إلى هذا العالم – عالم مطابقة النصوص
المقدسة بالكشوف الآثارية – سوى القليل والقليل جدا وهم ممن يعدون على أصابع اليد
الواحدة، بل ما طرحه فى هذا الكتاب يحتاج عمل وإعلام ونقاش، لو ثبت نصف ما جاء فيه
من معارف أو تحقيق لكنا أمام عالم ومفكر وحيد فى زمانه فريد فى عمله وبحثه كشفه،
لا استطيع القطع بما أقول ولكن احترم رأى من يقرأ ويبحث بعدى ويثبت ذلك وهذا يحتاج
فريق عمل أكاديمي متخصص فى مجالات متعددة، وارجو ان تنتبه حوزتنا العلمية لما يكتب
هذا الرجل المعمم لعلهم ينتبهون إلى أن كثير من المعارف التراثية لديهم تحتاج الى
مراجعة شاملة تفتح أفق جديدة للعمل الدينى التكاملى على الإطلاق وتطلق قيد البحث
لديهم إلى أفق ليست مسبوقة .
لكن هذا المقال لن يكون المقال
الأخير بل احتاج أن ادخل فى عراك جدلى وفكرى فى المقال القادم مع عباس فى عمله هذا
وحول عدد من القضايا التى اختلف معه فيها مع تقدير وامتناني وشكري له ولجهده
العظيم .
0 تعليقات