على ضفاف يوليو 1952
بقلم : أحمد عز الدين
( 1 )
يبدو أن ثمة إحساساً عميقاً بالقلق من زلزال قادم ،
ومن نهاية فاجعة معه كان يغشى جميع أولئك الذين كانوا يجلسون على مقاعد الحكم ، من
الملك وبطانته إلى الدوائر المحيطة بها .
ويبدو أن هذا الاحساس العميق قد ترجم نفسه سلوكاً فى
صورة سعى محموم إلى جمع الثروة وتكديسها ... فبينما كان الوطن يزداد فقراً
وإملاقاً ، كانت الثروات الخاصة تزداد تضخماً ، من خلال أشكال مختلفة من النهب
المنظم ، حتى تكاد المرحلة – فى جوهرها – أن تكون مرحلة تنمية الثروات الخاصة –
على حساب الوطن .
إن تقرير السفارة البريطانية نفسها ( 23 / 2 / 1951 )
هو الذى يصف حكومة الوفد بأنها : " حكومة الأثرياء " . والقائم بالأعمال
البريطانى هو الذى يطلق على المجموعة المحيطة بالملك – قبل الثورة بيومين – وصف
" العصابة " لأنها سيطرت على السياسة فى السنوات الأخيرة ، وفقاً لمبادئ
وضيعة ، والسفير البريطانى نفسه هو الذى كتب فى أحد تقاريره الى لندن ( 15 / 6 /
1951 ) " أن الفساد قد وصل الى درجة أكثر إثارة للقلق " ، بل إن وزير
خارجية الوفد محمد صلاح الدين ( وهو المشهود له بالوطنية والنظافة ) يعترف فى لقاء
مع السفير البريطانى ( 28 / 8 / 1951 ) بأن الفساد قد انتشر وكذلك عدم الكفاءة .
من يتصور أن يذهب رسول من الملك ، ( وهو كريم ثابت )
إلى وزير المالية ليطلب استثناء من دفع الضريبة على الايراد وأن الوزير الذى لم
يجد نصاً يمكن بموجبه إعفاء الملك من الدفع ، يطلب إلى ناظر الخاصة الملكية بما
يفيد إعفاء الملك من تقديم إقرار خاص بالضريبة ، وبذلك يمكن تسوية الأمر سراً !
ومن يتصور أن يطلب الملك لتمويل صفقة خاصة به لشراء
أسهم وسندات فى الخارج ، أن تقوم الحكومة بمنحه قرضاً حسناً قدره ( 300.000 دولار
) .
ولما كان الطلب بلا سابقة مماثلة فقد اعترض النحاس ثم
وافق بعد الحاح وزير المالية ، وبعد أن ربط طلب الملك ببقاء الوزارة فى الحكم ،
وحيث تقرر اقراض الملك ( 91.000 جنية ) سراً ، عانى تدبير المبلغ فى ضوء أوضاع
الميزانية من صعوبات ( حيث لا يمكن فتح اعتماد جديد له بسبب السرية ) فلم يمكن
تحصيل سوى ثلث المبلغ من حسابات الديوان الملكى ، واهتدى وزير المالية ووزير
الداخلية ، وقد كان شخصاً واحد الى الحل فتقدم الأول الى الثانى يشير ، بأن يقرض
فاروق مبلغ ( 58,000 جنية ) من أموال المصروفات السرية المخصصة لوزارة الداخلية ،
وطلب الملك تحويل المبلغ الى دولارات ، وإرساله الى امريكا وإيداعه فى أحد بنوكها
، فصدر الأمر للبنك الاهلى بالتنفيذ .
لقد شارك القصر الملكى باستثمارات فى إنشاء مصنع
بيبسى كولا فى القاهرة ، وحين لم يحقق المصنع نجاحاً موازيا لنجاح مصنع الكوكا
كولا ، تلقت الشركة الأخير " ثلاثة الاف مخالفة مرور لسياراتها خلال شهر واحد
حتى اضطر كوكى بالى الى ان يدفع رشوة لكريم ثابت ( المستشار الصحفى للملك ) بمنحه
مقعداً فى مجلس إدارة كوكاكولا فى مصر وإعطائه مبلغاً وكذلك مدير الخزانة الملكية ،
يصل الى 25 ألف جنية " ليدلانه على الصداقات المفضلة عند الملك فاروق "
.
ولم يقتصر الأمر على الشركات الأجنبية أو حماية
الاستثمارات الملكية ، فحسب رواية محمد فرغلى ( الذى لقب بملك القطن ) ، فإن إلياس
أندراوس ( المستشار الاقتصادي للملك والذى كان عمله الاساسى تهريب امواله الى
الخارج ، وتسهيل حصوله على الاموال بطريقة غير مشروعة من مختلف المصادر ) طلب منه
أن يهب الى لقائه فى مكتبه فى شارع الانتكخانة فى القاهرة وسافر فرغلى من
الاسكندرية رأسا الى الموعد ولم يمهله أندراوس، فقد أخبره بأن الملك يطلب منه دفع
مائة وخمسين الف جنية وتساءل فرغلى مندهشاً " مقابل ايه ؟ " ورد أندرواس
" هل نسيت ما حدث لأمين عثمان ( الذى قتل بالرصاص وكان صديق فرغلى وزميله )
إذا لم تدفع فسوف تندم ، ولا تنسى أن هناك عشرة ألاف أخرى للاوركسترا ، ثم تدخل
بعد ذلك حافظ عفيفى ، وعلى الشمسى لتليين دفاعات فرغلى وإقناعه بالدفع .
ولم يكن غريباً ولا مدهشاً أن يذهب بعد ذلك الى
السفير البريطانى ( حسب تقريره فى 29 / 12 / 1951 ) ليفسر له فيضان المظاهرات
الشعبية العفوية فى شوارع القاهرة والإسكندرية ضد الملك شخصياً ، بأنها من تحريك
الوفد لأنه " دفع للمتظاهرين نقودا " ، فقد كان ذلك هو المنطق العام
الذى يحرك الأشياء قرب القمة .
إن كريم ثابت نفسه هو الذى يعترف بأن تعيين حافظ
عفيفى رئيساً للديوان الملكي كان عنصرا فى صفقة ثنائية بينه وبين أندرواس تضمن
عنصرها الثانى بأن ينضم الأخير الى مجلس ادارة بنك مصر ، وانه عندما عرض اندرواس
أمر التعيين على فاروق ، لم يلق استجابة إلا عندما علم بالمقابل وهو مائة الف جنية
جاءت عن طريق البارون كوهورن الذى أرسل من أمريكا يعلن رغبته فى بيع اسهمه فى شركة
مصر للحرير الصناعى ، " فرأى أندرواس أن يقوم بشرائها جملة دون أن ينافسه بنك
مصر فى الشراء أو القسمة أو يحض أحد شركائه أو أحد عملائه على مزاحمته ، وبالفعل
اشتراها بثمن أثلج صدره وصرح لكريم ثابت بأنه سيبيعها بالتجزئة ويكسب مائة الف
جنية ، ويقدم نصفها للملك الذى أوفد من تسلم المبلغ " .
فى هذا المناخ كان طبيعياً أن تفسر اقالة وزارة نجيب
الهلالى التى اتخذها رئيسها شعاراً له " التطهير قبل التحرير " ثم فوجئ
بأن حالة العفن أكبر من أمانيه فى الصلاح " بل إن مجموعة مستشارى الملك ومعهم
أحمد عبود دفعوا للملك رشوة قدرها مليون فرنك ليقيلها ، ثم كان طبيعيا أيضا أن
يتحول هذا التفسير الى قناعة راسخة لا فى أوساط الناس فقط ، بل فى أوراق بعض الباحثين
فى التاريخ ، بالرغم من أن فرغلى باشا ( صديق عبود) يرى أنه " أبخل من أن
يدفع مليون مليم لأى هدف " .
( 2 )
لقد كان العجز هو الذى يعتلى واجهة المسرح السياسى ،
فى تلك الشهور المعبأة بالنار والبارود من عام 1952 .
وبينما كان فاروق يتصور أن عظم الوفد قد احترق مع
حريق القاهرة الكبير ، ظلت النار تمسك بعظم النظام كله ، حتى بعد أن انطفأت
ألسنتها فى شوارع العاصمة .
لقد تقّلبت على ذلك المسرح أربع وزارات خلال أقل من
ستة أشهر ، دامت أولها أياماً أما أخرها فلم تعش غير بضع ساعات ، وحاولت كل وزارة
أن تجد سبيلا لتنفض عنها الرماد ، وتجمل وجهها ببعض المساحيق ، دون جدوى ، حاول
على ماهر ذلك بتخفيض بضعة ملاليم فى أسعار السكر والزيت والكيروسين ، وحاول (
الهلالى ) بشعاراته الساخنة عن التطهير ، ولم يكن لدى سري فى أيام وزارته الثمانية
عشر ، ولا ( الهلالى ) ثانية فى ساعات وزارته الأخيرة ، ما يمكنه تجميل وجه كان قد
اكتمل قبحاً ودمامة .
ولم تكن المشكلة فى أى من هذه الوزارات أو وجوهها أو
برامجها ، وإنما كانت فى هيكل النظام السياسى والاجتماعي الذى كان يسد بنفسه
الأبواب والنوافذ أمام أى تغيير يستوعب الزاد السياسى والاجتماعى الجديد ، والذى
كان ماضياَ فى تعريف نفسه بالقوة الجبرية .
غير أن تغيراً كبيراً قد لحق بهيكل النظام ، ليس فقط
فيما يتعلق بالقدرة الوظيفية لأضلاعه على التماسك والبقاء ، ولكن بمحتوى محيطه
الداخلى ، الذى أوصل حالة الغليان فى داخله الى درجة تؤذن بتمزيق هذه الأضلاع .
لقد كان هيكل النظام باختصار شديد – يبدو غير قادر
على احتواء حجم الضغوط التى تولدت فى داخله ، وعندما وصلت هذه الضغوط الى حالة
الانفجار كان خروجها – بحكم قوانين الطبيعة – من ناحية أكثر الاضلاع ضعفاً ، ولم
يكن ذلك إلا من نصيب الملك .
وللأمانة فإن السفير البريطانى فى القاهرة كان قد وصل
خلال الأسابيع الأخيرة والأشهر الأولى من عام 1952 الى فهم بعض جوانب هذه الحقيقة
، ولكن النخبة الحاكمة فى بريطانيا ، رفضت حتى أن تتأمل ملاحظاته ، بينما كانت
الأجهزة الأمريكية فى القاهرة أكثر إستيعاباً لها .
لقد فهم ( ستيفنسون ) ان منع الانفجار – أو تأجيله –
سيتاح فقط إذا قدمت بريطانيا ما يخفف الضغط الواقع على هيكل النظام المصرى ، ودعا
بذلك الى أن تبادر الخارجية البريطانية بتقديم تنازلات " تساعد الملك على
التحرك " وتهدئ المصريين بتبيان " أن القوات البريطانية لن تنوى البقاء
فى منطقة قناة السويس الى الابد ...
لكن مستر ( إيدن ) لم يوافق على أى تنازلات ،
وبالتالى لم يوافق – من حيث لا يحتسب – على تأجيل الانفجار ، لقد كتب ( ستيفنسون )
فى ضوء هذا الفهم يلح على الوزارة البريطانية أن تدرك " الصعوبة الكبرى التى
تواجهنا فى تقرير سياستنا قصيرة الأمد أنه لا يوجد من يستطيع تقدير مدى الثقل فى
حالة ضغط مفاجئ من جانبنا ، الذى يمكن أن يتحمله البناء الاقتصادى والاجتماعى
المتداعى لمصر ، بدون أن ينتج موقفاُ ذا طبيعة ثورية يضر نهائياً بمطالبنا طويلة
الأجل " .
ولكن مستر ( إيدن ) لم ير ذلك أيضاً ، لكنه عندما كتب
( كريسويل ) – القائم بالأعمال فى ( 7 / 12 / 1952 ) تقريراً ضمنه لقاءه مع على
ماهر وطلب الأخير كشرط لتوليه الوزارة تشكيل فرق كوماندوز بريطانية لإبادة
الفدائيين فى منطقة القناة ( وكان هذا الرأى ينتسب أيضاً إلى عبد الفتاح عمرو سفير
الملك فى إنجلترا ومستشاره ) ، وكتب إيدن على التقرير بخط يده " إنه تحليل
ممتاز " ... بينما كان راى ( ستيفنسون ) – السفير الأمريكى – ( وهو أول من
علم من الملك بإقالة حكومة الوفد بعد الحريق ) ، " إنه ليس مرغوباً أن تنتظر
الحكومة البريطانية إشارة من الحكومة الجديدة ، تنم عن الصداقة معها ، لأنها ستكون
بمثابة قبلة الموت لها" ..
وبدلاً من أن يخفض البريطانيون من ضغوطهم على هيكل
النظام المتداعى ، مارسوا العكس ، فضاعفوا حجم قواتهم المسلحة فى منطقة القناة حتى
وصلت الى ( 90.000 جندى ) وطاحوا فى المنطقة كلها إرهاباً وتنكيلا ولم يتوقفوا عن
ممارسة استعراض أحمق للقوات ، تعبيرا عن تصور صاغه الجنرال ( روبرتسون ) – قائد
القوات البريطانية فى الشرق الأوسط – من أن الهدف هو " إقناع المصرين باليأس
فى قضيتهم " وهكذا كان الجنرال روبرتسون يضع حل مشكلة بريطانيا فى مصر ،
ومشكلة مصر مع بريطانيا فى أيدى " الجنرال يأس ".
( 3 )
كان ( ستيفنسون ) ما يزال يواصل صرخاته التى كادت أن
تشكل مرثية مبكرة للوجود البريطانى فى مصر :
.. إن مصر تموج بالقلاقل وتغص بالعملاء ، وبمنظمات
ذات طابع وطنى متطرف أو ثورى ... لا يمكن لإستراتيجيتنا أن تقوم بعد الان على أساس
مصر " .
" لا بديل عن حكم البلاد بقوة خارجية ، أو بترك
مصر تسير فى طريقها ".
وكان الحل الأول هو الأقرب الى طبيعة العقلية
الاستعلائية فى لندن ، وبدا فى مرحلة متأخرة أن بريطانيا والملك متفقان على أن
يكون الحل الاخير حكومة عسكرية تستند الى سلطة الملك ، أى أن يقوم الملك بانقلاب
عسكرى .
لكن هناك ما يشير الى ان الانجليز كانوا يدركون فى
المرحلة المتأخرة للأزمة أن المخرج يحتاج بالفعل الى تنازل وتضحية ولما لم يكن
لديهم الاستعداد لأن يدفعوا هم ثمن التضحية ، فقد قرروا أن يدفعها كاملة فاروق
بتحويله نفسه إلى أضحية ! .
وهكذا حرضوا الاخوان المسلمين على أن يقوموا من
جانبهم باغتيال الملك .
لقد اتصل حسن عشماوى ( أحد قادة الاخوان ) بجمال عبد
الناصر – كما روى فى اجتماع لقيادة الضباط الأحرار على مشارف الثورة – وأبلغه أن
الإنجليز يريدون التخلص من الملك فقد أصبح مكشوفاً ومكروهاً من الشعب ، وأنهم يرون
– أى الإنجليز – أن الشعب لن يقبل باستمرار هذا الملك المنحل والضعيف ، ثم أضاف (
عشماوى ) إن الانجليز طلبوا من الاخوان اغتيال الملك لكنهم رفضوا ، خوفا من عواقب
ذلك ضدهم .
أما التصور على الجانب الأمريكى ، فكان مختلفاً فتحت
ضغط الأزمة انتهى الأمريكيون فى البداية ( وكانوا ما يزالون فى زهو ألوان
الليبرالية والتحرر ) إلى صياغة تصور يمكن أن يكون عنوانه " تجديد النظام
" أى المحافظة على ثوابت النظام وهياكله الأساسية مع إحداث نوع من الإصلاح
الاقتصادي لقاعدته الاجتماعية الرثة .
ولم تكن وعود الاصلاح الاجتماعي فى وزارة الوفد
الأخيرة عن طريق وزير الشئون الاجتماعية أحمد حسين بعيدة عن هذا التصور الأمريكى ،
فقد كان صاحبها وثيق الصلة بمصادره لكن هذه الحكومة لم تنته فقط – الى تبديد وعود
الاصلاح الاجتماعى ( بعد أن طرد الوزير لطموحه ) وإنما الى تبديد كافة الوعود
الأخرى بدءا من مجانية التعليم وإلزامه ، وانتهاءاً بمواجهة الارتفاع فى نفقات
المعيشة .
ولم تكن – ايضا – محاولات وزارة نجيب الهلالي وحملتها
علي الفساد باسم التطهير ببعيدة عن ذلك التصور الامريكى ، لتجديد النظام مع بقاء
هيكله الأساسى ، ولقد كانت هذه المحاولات من بدايتها إلى نهايتها لا تخلو من عبثية
غريبة بتلك الفرضية التى رأت أنه من الممكن رسم خريطة اجتماعية جديدة لمصر ، مع
المحافظة على البنية السياسية للنظام القائم .
وعندما غادر ( كرميت روزفلت ) القاهرة الى أمريكا (
مايو 1952 ) ، بعد أن أنفق شهوراً فى القاهرة يكرر المحاولة العبثية السابقة ، قدم
تقريراً إلى ( دين أتشيسون ) وزير الخارجية الأمريكى ( حسب رواية كوبلاند ) يرتكز
على أنه" يجب أن توافق الحكومة الأمريكية على إقصاء الملك فاروق " ، لم
يعد هناك أمل فى إبعاد الجيش عن القيام بانقلاب قريب ، وإذا كان الوقوف فى مواجهة
التغيير العاصف أو منع الانفجار مستحيلاً ، فلا بديل عن محاولة احتوائه ، وبذلك
حاولت أمريكا أن تعمق جسورها داخل القوات المسلحة المصرية ، وقد كانت تتصنت مبكراً
جداً على نبض هذه القوات كما سبق القول .
لم يكن بمقدور أحد خارج دائرة الجيش وضباطه الصغار أن
يؤدى دور اداة التغيير المرتقب ، فكل الأدوات كانت قد تآكلت أو استهلكت ولم يكن
بمقدور أحد بالتالى خارج هذه الدائرة أن يصنع حدث التغيير ، وإنما كان بمقدور
الجميع أن يحاولوا امتطاءه بعد ذلك .
أما الملك نفسه ، فلم يكن يدرك حجم المخاطر من حوله ،
ولم يستطع رؤية النار التى تمسك بثيابه وعرشه ، كان يرى أنه يجلس فوق قمة نظام
عميق الجذور فى تربة مصر ، وأن أحداً بالتالى لا يستطيع اقتلاعه ، وهكذا تعامل مع
الخطر ومصادره ، باستهانة واستخفاف .
( 4 )
فى 18 أكتوبر 1950 – وعندما كان الوفد فى الحكم – رفع
كل ممثلى فصائل المعارضة التقليدية الى الملك ( والتى طالما دخلت فى تحالفات مكينة
وطويلة معه ) كتاباً بالغ التعبير عن الخطر ومصادره .
قال خطاب المعارضة المستأنسة المفتوح للملك :
" ... أصبحت سمعة الحكم المصرى مضغة فى الأفواه
، وأمست صحافة العالم تصورنا فى صورة شعب مهين / يٌسقى الضيم فيسكت عليه ، بل ولا
ينتبه إليه ، ويساق كما تساق الأنعام ، والله يعلم أن الصدور منطوية على غضب تغلى
مراجله ، وما يمسكها إلا بقية من أمل يعتصم به الصابرون " ... ،، ... إن
احتمال الشعب مهما يطل ، فهو لابد منته لحد ،،.. وكان كل دور صاحب العرش أن أوعز
إلى وزارة الوفد بأن تمنع نشر الخطاب وأن تصادر الصحف التى نشرته بالفعل ، وترك
تبرير المنع والمصادرة لها ، فقدمته قائلة أن الكتاب قٌدّم ،، ... على ورق وبخط
غير لائقين بما يرفع إلى أسمى مقام فى البلاد ،، ..
وعندما اندفعت المظاهرات العارمة فى شوارع القاهرة
والمحافظات المقترنة بميلاد ولى العهد ، ومتخذه طابع العنف ، ( وقد صبت جام غضبها
على فاروق ووليده ) كان تفسيره الوحيد أنهم يفعلون ذلك لأنه تم استئجارهم له
وتقاضوا أموالاً عليه .
وبعد خروج الوفد من الحكم فى نهاية الشهر نفسه (
يناير 1952 ) كان قد وضع نفسه فى حالة خصومة كاملة مع كافة فصائل المعارضة بل مع
جميع الأحزاب والتيارات السياسية والاجتماعية المصرية دون استثناء .
أما بالنسبة للجيش فقد كان يعتقد ( تقرير ستيفنسون فى
14 / 2 / 1952 ) أن مخاطر الجيش تنحصر فى اثنى عشر ضابطاً بطردهم يتم القضاء على
تلك المخاطر ، أو كما يقول د . حسين هيكل : " بدأت اتجاهات الضباط الأحرار
فأبدى من عدم الاكتراث لها ما يكاد يبلغ حد الاستهتار ، فلما عرضت عليه معالجتها
بتعيين اللواء نجيب بك وزيراُ للحربية رفض تعيينه ، ولم يفكر مع ذلك فى أن يتخذ أى
احتياط بما عساه يترتب على هذا الرفض " .
وفى الحقيقة فإن الاستهتار فى هذه الحالة لم يكن مرده
الى طبع أو تكوين وإنما كان صادرا بالأساس عن إيمان عميق بأن أحداً لا يستطيع أن
ينازع سلطته أو سلطانه ، وذلك ما يتمشى مع طبائع الاستبداد ويعبر عنها ، فلم تكن
سلطته محل مراجعة من أحد ، لا فى البرلمان ، ولا فى الوزارة ، ولا فى غيرهما ،
فسلطان القصر " تجاوز رسم السياسة العامة الى التدخل فى شئون الحكم جليلها
ودقيقها ... وكان سلاح إقالة الوزارة أو دفعها كارهة للاستقالة هو ما تخشاه بعض
الوزارات ، وما ترتعد منه فرائصها .. ،، .
انه لم يكن مستهتراً ولا عابثاً فى هذا السياق – رغم
كل ما هو معروف عنه من عبث واستهتار – ولكنه كان يتصرف بمنطق المستبد وبطبائع
الاستبداد لذلك كتب ( كريزويل ) إلى ( إيدن ) قبل الثورة بأسبوعين إثنين بالضبط (
7 / 7 / 1952 ) يركز على ضرورة أن يفهم فاروق أن بريطانيا لن تعرض حياة جندى
بريطانى واحد للخطر من أجل إنقاذه وأسرته وثروته فقد كان الملك يتصرف بمنطق
المستبد الذى يستمد قوته من منجم قوة أجنبية لا تنفذ ، لأنها لا تستطيع أن تحقق
مصالحها بغيره أو بدونه ، ولعل ذلك ما حدا بالبعض أن يكتب مفسراً خطاً فاروق
الأساسى فى أنه " تصور أن بريطانيا تحبه أكثر من كراهيتها للشيوعية "..
( 5 )
أما أولئك الضباط الذين انشق عنهم ليل القاهرة ثم
انبلج الفجر وهم يمسكون بأغلب أركان السلطة فلم يكونوا حتى بعد أن صدر بيانهم
الأول ، وبعد أن تملكوا أدوات السلطة أو كادوا – يدركون ماذا هم فاعلون بها ، بل
ماذا هم فاعلون بالملك ذاته ، الذى لم ينتهوا فيه الى قرار إلا مساء اليوم التالى
( 24 / 7 ) بالفعل .
لقد كانوا جميعاً أبناء طبقة متوسطة سيقدر لها أن
تنهض بعد ذلك ، وبالرغم من أن طلائع هذه الطبقة كانوا قد أنفقوا جهاد نصف قرن أو
يزيد ليصبح لها وجود وكينونة ، فإنها حتى لحظة الانفجار الكبير فى 23 يوليو 1952 ،
كانت ما تزال أقرب الى خط اجتماعى رقيق يفصل أو يصل بين القمة الضيقة التى تحتكر
لنفسها كل شئ ، وسفح القاع الاجتماعى العريض الذى لا يجد لنفسه شيئاً ، وبذلك كان
أولئك الذين خرجوا يهزون هيكل النظام السياسى والاجتماعى ويحطمونه ، ينتمون الى
طبقة غائبة أو غائمة لا بالمعنى الفكرى ولا السيكولوجى ، وإنما بالمعنى المادى
المباشر ، لكنها غيرت أفاق الحياة من حولها ، رغم تكرار محاولات إسقاطها من موقعها
فوق هذا الدرج الاجتماعى ، كلما لاحت فرصة لإعادة بنائه من جديد .
وعلى مشارف هذه الليلة ، وحتى فى حدود المهمة التى
رسمتها هذه الطلائع لنفسها ، فلم يكن ما يدور فى خلدها يصل الى طموح تغيير النظام
، فضلا عن بناء نظام بديل ، ولذلك فإنها التمست أكثر من طريق لكى لا تنفرد بالدور
وحدها ، ففى أوج حريق القاهرة قرر الضباط أن يبعثوا برسالة منهم إلى النحاس ، واختاروا
أن يحمل الرسالة أحد الضباط الاحرار ، الذى يرتبط بعلاقة صداقة مع زميله الضابط
محمد النحاس أبن أخ النحاس (باشا).
قالت رسالة الضباط " إن ضباط الجيش على استعداد
للوقوف معك اذا وعدت فى حال عودتك للحكم باستمرار المعركة ضد الانجليز ، وإن
الضباط يتمسكون بالدستور والبرلمان .. "
وكان الرد كما جاءهم من عنده " قال الباشا انه
لا يستطيع أن يدخل لعبة الضباط ولا يريد ذلك كما أنه لا يريد أن يخسر أوراقه مع
الأمريكان ".
بل أن هؤلاء الضباط حاولوا فى البداية وخططوا لآن
يتزامن توقيت خروجهم بقواتهم الى الشارع مع ما ترامى إلى أسماعهم عن عزم نواب
الوفد باقتحام مجلس النواب ، حتى لا يتحركوا وحدهم ، ووفق شهادة عبد اللطيف
البغدادى فقد كانوا يتوقعون النجاح بنسبة لا تتجاوز عشرة فى المائة ، وينتظرون
الفشل بنسبة لا تقل عن تسعين فى المائة .
لقد عجّل بخروجهم وربما حسم أمر الخروج أصلا – ذلك
البلاغ الذى تلقاه محمد نجيب بأن أسماء المجموعة القيادية لهم قد وصلت الى القصر
الملكى ، وأنهم أصبحوا قاب قوسين أو أدنى من حفرة الموت أو غياهب السجن
عندما وصل بيان الثورة الأول الى الناس فى ذلك الصبح
المبكر من يوم 23 يوليو ,, سيطرت على قادة الحركة أحاسيس جديدة تماماً ، فبوصول
البيان الى الناس ، تبددت العزلة وأصبح للحركة عمقا أكبر وبالتالى أصبحت أكثر ثقة
وثباتاً...
كانت الرسالة الأولى التى حملها الملك لمصطفى صادق ،
( عم الملكة وضابط الطيران ) ودفعه بها الى مقر القيادة تقول إن الملك مستعد
لتلبية كل مطالب الجيش بشرط أن يتوجّه اليه اللواء محمد نجيب ويستعطفه لتلبيتها ،
وحين رفض طلب الاستعطاف أسقطه الملك ثم أسقط غيره ، وهكذا حتى أصبح انطباع الضباط
أن الملك " مستسلم ومنهار ".
واختير على ماهر ( ذلك الثعلب العجوز ) فى المرحلة
التالية لإسقاط وزارة الهلالى ، فقد كان المطلوب شخصية غير حزبية ، وذات تأثير على
فاروق وتعطى للحركة فى الوقت نفسه فى عيون الملك والأجانب موقفاً معتدلاً ، ولم
يعرف على ماهر – الذى اشترط أن يكلفه الملك نفسه بالوزارة – عن الحركة أكثر من
أنها تهدف الى التطهير والإصلاح .
حاول فاروق أن يستعين بالسفير الأمريكى ، حتى أنه شكى
اليه – ظهر يوم 23 يوليو – من أن الإنجليز هم أصحاب الفتنة ونقل اليه ( كافرى )
أول انطباع لحكومته ، أن يضبط أعصابه ويتصرف بحكمة ويضحى ببعض مستشاريه ليسترد
الكثير " .. لكن الملك كان يريد تدخلاً عسكرياً بريطانيا فوريا لقمع حركة
الضباط وتثبيت اركان عرشه ، وكان البريطانيون ما يزالون مأخوذين بالمفاجأة ، بينما
كان الامريكيون يرون ما حدث " مسألة داخلية " لا تستوجب التدخل العسكرى
لصالح الملك إلا إذا اتضحت علاقة شيوعية بارزة فى الحركة ( وفق رواية السفير
البريطانى فى واشنطون 24 / 7 ) .
وفى عصر يوم 23 يوليو وقبل أن تقدم وزارة الهلالى
استقالتها ، طلب ( مرتضى المراغى ) من ( كريزويل ) تدخلاً عسكرياً بريطانياً لحسم
الأمر لأن الحركة " تضم المسئولين عن كتائب التحرير الفدائيين فى القناة –
وأن وراءها ( وفقاً لمعلوماته كوزير للداخلية ) الإخوان المسلمون والشيوعيون معاً
، فصغار الضباط يمثلون الشيوعيين ، أما محمد نجيب فهو من الإخوان ، ولكنه ضعيف
ويفتقد الفطنة " .
ولما لم تتم الاستجابة لطلب وزير الداخلية ، تحرك
الملك بشكل آخر ، فقد تلقى مجلس الوزراء البريطانى رسالة من أحد أعضاء الحكومة
البريطانية السابقة ، يبلغه فيها أن الحركة من تدبير الشيوعيين والإخوان المسلمين
، وهدفها الثورة ضد النظام الرأسمالى ، ويطلب ( إيدن ) عودة ( ستيفنسون ) الى
القاهرة فوراً ، ووضع القوات البريطانية فى درجة الاستعداد لتنفيذ خطة احتلال
القاهرة والإسكندرية والدلتا عسكرياً عندما يتطلب الامر ذلك .
( 6 )
فى صباح اليوم التالى ( 24 / 7 ) كان على ماهر يحمل
مطالب الجيش الى الملك ، وتشمل تعيين محمد نجيب قائدا عاماً مع اعطائه السلطة
لإحالة ستة وخمسين من كبار الضباط الى التقاعد ، وحل الحرس الملكى وضم وحداته
وأسلحته إلى الجيش ، وفصل حاشية الملك ولم يقاوم الملك إلا فى بند فصل الحاشية
فرفضه للوهلة الأولى بإصرار .
ويبدو أن الملك كان ما يزال يترقب تدخلاً بريطانياً
لحسم الموقف ، فلما استبطأه قرر أن يتحرك بنفسه ليخلق حالة جديدة تستدعى بنفسها
القوات البريطانية لإعادة احتلال القاهرة والإسكندرية ، وبالتالى إجهاض الحركة
وتحويل الانتباه عن نطاق الأحداث الراهنه ، ووجد ضالته فى مخطط بسيط وهو ترتيب
مقتل بعض كبار البريطانيين فى القاهرة والإسكندرية ، وكان ذلك كافياً لتدخل عسكرى
بريطانى .
غير أن العسكريين فى الجيش قاموا بحركة اعتقالات
سريعة بين صفوف البوليس السياسى ، فقد وصلت أنباء مخطط القصر إلى علمهم ، فقطعوا
عليه الطريق .
ولم يعد أمام الملك إلا أن يطلب لنفسه الحماية ،
فانتقل فجر يوم (25 / 7 ) من قصر المنتزة ( حيث رأى أنه هدف سهل من الجو ) إلى قصر
رأس التين ( وفى أحضان البحرية وفى ظروف أفضل للهرب .)
فى مساء اليوم السابق كان الضباط قد انتهوا إلى قرار
بالتخلص من الملك ، وسافر الى الاسكندرية لتنفيذ القرار ، عدد من الضباط ( زكريا
محى الدين – حسين الشافعى – عبد المنعم أمين – يوسف صديق – صلاح سالم ) ولكن
مجموعة الإسكندرية اختلفت ماذا تفعل بالملك ، تطلق سراحه أم تقوم بإعدامه ، وعاد
صلاح سالم الى القاهرة ( وكان متحمسا لإعدام الملك ) ولكنه عاد الى الاسكندرية فى
اليوم نفسه ، وهو يحمل رسالة من عبد الناصر " أتركوه يرحل وسيحكم التاريخ
عليه بالموت " .
غير أن الملك الذى تحصن داخل قصر رأس التين ( وجمع
إلى جواره ستاً وستين حقيبة ) طلب من السفير الأمريكى طائرة حربية أو بارجة لتنقله
وأسرته إلى الخارج ، ولم يعطه السفير رداً مباشراً ، بينما كان تقدير كريزويل (
كما كتب الى لندن ) ـ انه " يستخدم كل نفوذه لمنع الملك من الرحيل حتى لا
تنشأ جمهورية متطرفة تكون قاتلة .. "
وخلال اتصالات أمريكية بريطانية مكثفة بحثت إمكانية
إخراج الملك بالقوة ، ثم استبعد الاحتمال خشية مضاعفاته ، ثم اختزل الأمريكيون
والبريطانيون خطتهم الآتية فى المحافظة على حياة الملك ، لا على عرشه أو نظامه .
فى صباح اليوم السادس والعشرين من يوليو ، كان قصر
رأس التين تحت حصار عسكرى مكثف ، تشارك فيه الدبابات والمصفحات ومدافع النيران ،
وثلاثة أسراب جوية قاذفة ، واتصل فاروق بالسفير الامريكى ثانية يستغيث بأن القصر
محاصر ، وأن ثمة محاولة تجرى لاقتحام ساحته بالقوة ، واتصل ( كافرى ) بمحمد نجيب ،
الذى بسط له الأمر وأكد تعهداته بعدم تعريض حياة الملك لأى خطر ، وضمان رحيله
سالماً.
وفى العاشرة والنصف صباحاً كان على ماهر يحمل الانذار
الى الملك ( شفاهة أولا) بالتنازل عن العرش لابنه أحمد فؤاد فى موعد غايته بعد
الظهر ، وأن يترك البلاد بأيه طريقة يختارها فى موعد غايته السادسة مساءا ، وطلب
فاروق بعد قليل من المقاومة أن يحضر ( كافرى ) و ( محمد نجيب وعلى ماهر ) لتوديعه
رسمياً وكان له ما أراد .
وفى السادسة مساء رحلت " المحروسة " وعلى
متنها فاروق وناريمان ( وابنه وبناته من فريدة ) وبصحبتهم خمسون حقيبة وصندوقاً ،
بعد أن أطلقت المدفعية إحدى وعشرين طلقة تحية له ، وأدى حرس الشرف التحية العسكرية
، وكتب كريزويل ( فى تقريره إلى لندن فى اليوم نفسه ) أن الفضل يرجع الى السفير
الامريكى فى جعل رحيل الملك " منظماً وذا طابع جليل " .
فى مساء الليلة نفسها ، وصلت الطائرة التى تقل النحاس
وفؤاد وسراج الدين الى ميناء القاهرة الجوى ، فقد كانا قد وصلا جنيف بحراُ
للاصطياف يوم 24 / 7 ) وعلى متن الطائرة فى الطريق الى القاهرة أخبرهما الطيار أنه
سمع فى المذياع عزل الملك ، كان أحمد أبو الفتح فى انتظارهما حيث اصطحبهما من
المطار مباشرة إلى القيادة العسكرية لتهنئة رجال الثورة ، وكان ذلك اللقاء الأول ،
وفى حين كان ترحيب محمد نجيب بمصطفى النحاس دافئاً فإن تحية بقية الضباط له ولفؤاد
سراج الدين كانت باردة وجافة ، كان النحاس قد بدأ اللقاء مخاطباً نجيب " أنت
رئيس مائة ألف ، وأنا زعيم عشرين مليون ، وفيما يبدو فإن وقع ملاحظته التى قدمت فى
إطار ضاحك كان ثقيلاً .. لكأن شيئاً من أسطورة ( بيجماليون ) قد اصطبغ العلاقة بين
الضباط الأحرار ، وبين بقية القوى السياسية التقليدية وفى مقدمتها الوفد المصرى .
(7)
لقد صنع بيجماليون إبداع تماثيله وتمنى – حباً له –
أن تدب فيه الحياة ، ليصير الجمال طليقاً وحراً ، وحين تحققت الأمنية أراد أن يسجن
التمثال فى ثنايا إرادته ، وتحت جدرانه ، ولم يكن أمام التمثال الذى دب فيه نبض
الحياة ، إلاٍ أن يهزم صانعه حد الموت ، كى تكتمل له الحرية .
أن أحداً لا يستطيع أن يدعى أو يزعم أن بمقدوره أن
يلعب دور شرطى المرور على مسار التاريخ ، فيسمح لمن يشاء بالمرور ويمنعه عمن يشاء
، ولذلك فإن أولئك الذين تصوروا أن ما حدث ليلة 23 يوليو 1952 يمكن اصطياده وحبسه
فى وعاء زمن سياسى واجتماعى سابق عليه ، رأوا شكل الانتقال ، ولم يدركوا طبيعة
النقلة .
لقد استعصى الأمر على التغيير فى مصر لقرون طويلة
متصلة ، وكان ذلك جزءا من منظومة ثقافية عامة ، ولدها نظام الحكم وأعانها على
العيش ، حتى استقوت بنفسها عنه ، وتحولت الى حارس عام له .
إن القائم يحظى بالاحترام لأنه ثابت كأقانيم الحياة ،
وتوالى الليل والنهار ، لا يقبل تحولاً ولا تبديلاً.
وفى لحظة ما من التاريخ أمكن قبر هذه القناعة ، فمع
انهيار هيكل النظام السياسى تمزقت منظومته الفكرية ثم الاجتماعية بالضرورة .
لقد فتح الباب وخرج الملك ، ولم يكن ممكناً أن يغلق
الباب من خلفه ثانية ، كان لابد أن يظل الباب مفتوحاً ، لتخرج منه مرحلة كاملة فى
التاريخ ...
0 تعليقات