الشطرنج وصراع الأقوياء
د. محمد ابراهيم بسيوني
تأثير العزلة لفترة طويلة
والفراغ على عقل الإنسان, لدرجة استخدامها كوسيلة لاستجواب السجناء السياسيين
وقدرة الإنسان على التحكم في
تفكيره للحفاظ على توازنه العقلي والنفسي. رسالة انتحار يختم كاتب حياته الحقيقية
ويغادر هذا العالم، يلقي آخر رسائله إلى العالم ويغادره. رواية “لاعب الشطرنج”
إحدى روايات الكاتب النمساوي ستيفان زفايغ، تحمل في مضمونها فضاءات سردية للعالم
الغارق في الحروب. أبطالها جيوش من خشب تسير إلى حتفها في صراع اللاعبين، كتبها
زفايغ بعد أن اتخَّذ قراره بالانتحار احتجاجاً على الحرب العالمية الثانية التي
رأى بوادرها تعصف بالقارة العجوز وبلدانها.
فيها رسائل الكاتب التي فاق
عددها المئة، وجهها إلى أصدقائه من مقر إقامته في البرازيل التي اختارها ملجأ
ومنفى له، بعد اشتداد قرع طبول حرب العالمية الثانية في القارة الأوروبية، تلك
الرسائل التي كان فيها زفايغ يخبر أصدقاءه بنيته وقراره الانتحار وإنهاء حياته،
وضع فيها خلاصة معرفته وتجاربه في الحياة، كما برر لمحبيه قراره الأخير بالاتجاه
نحو العالم الآخر بعد أن رأى وطنه وبلاده تنهار مترا مترا. ستيفان زفايغ مولود عام
1881 في العاصمة النمساوية فيينا، وحاصل على الدكتوراه في الفلسفة عام 1904، كان
همه الأساس في مشروعه الأدبي هو خلق جسور التواصل بين الثقافات واكتشاف الأفكار،
فوجد ضالَّته في السفر، ربما هذا ما يبرر كتابة رواية “لاعب الشطرنج” التي تبدأ
أحداثها لحظة انطلاق باخرة تحمل مسافرين من نيويورك إلى بيونس آيرس، الراوي مسافر
عادي لا يتم التصريح عن اسمه أو مهنته أبدا، او سبب سفره أو وجوده على متن هذه
الرحلة البحرية، نمساوي يحب لعبة الشطرنج، وهذا ما يدفعه إلى محاولة التقرب من
ميركو كزنتوفيك، بطل العالم في الشطرنج، ذلك الشاب الذي لم يكمل عامه العشرين بعد.
الرواية تقوم في جوهرها على
شخصين مسافرين فقط، الأول لاعب الشطرنج العالمي “ميركو كزنتوفيك” الذي توفي والده
البحار غرقا فعانى طويلا من الأوصاف المسبقة حول عدم أهليته، وعدم قدرته على
الكتابة والقراءة، حتى تم اكتشاف قدراته الهائلة في الشطرنج وهو في عامه الخامس
عشر حين قادته الأقدار إلى اللعب أمام ضابط متقاعد في غرفة قس تم استدعاؤه ليحضر
احتضار امرأة مسنة، غرفة القس كانت بوابة الطفل الذي هزم الضابط في لعبة الشطرنج
نحو الحياة، فانتقل إلى المدينة المجاورة ومنها إلى النمسا حيث تدرب لعام كامل على
يد أحد أمهر العارفين بهذه اللعبة، وليتفوق بعد ذلك عالميا هازما الجميع منفردين
ومجتمعين.
أما الثاني فهو الدكتور “ب” أو
السيد “ب”، نمساوي ينتمي إلى أفراد عائلة كانت مقربة من القصر الإمبراطوري في
فيينا، كاتمو أسرار الأمراء وواجهاتهم المالية ناصعة البياض، هذه العلاقات
المتشابكة كانت وبالا على الدكتور “ب” الذي تم اعتقاله على يد جهاز الأمن الألماني
عقب احتلال النمسا ومطاردة كل رموز العهد المنتهي، فتم اعتقاله في سجن حيث وجد
ذاته في مواجهة حادة مع الفراغ القاتل ودورات التحقيق التي لا تنتهي، ضمن لعبة
الروائية يحصل بطريقة ما السجين على كتاب يكون ملاذه وعالمه في السجن، ذلك الكتاب
تضمن فنون لعبة الشطرنج فضلا عن مئة وخمسين شوطا من أشهر المباريات العالمية في
هذا المضمار، كان هذا هو الثقب الأسود الذي غرق به العمود الثاني في الرواية، فذاب
في معادلات الاحتمالات وتوقُّع حركات الخصوم رغم عدم جلوسه يوما أمام رقعة شطرنج،
فهو يمارس هذا النشاط ذهنيا فقط من خلال ما اطلع عليه من كتب حول الشطرنج.
لخلق مساحة مشتركة بين
العالمين لجأ زفايغ إلى شخصيات إضافية، كالراوي الذي ينقل للقارئ ما حدث دون فعل
واضح في مجريات الحكاية، والسيد ماك كونور هاوي الشطرنج الذي يتكفل بإقناع بطل
العالم بحضور نزال لمرة واحدة أمام الدكتور “ب”.
منذ العتبة الأولى للنص تبدأ
الرواية بالابتعاد عن الذاتية التي تغيب ليسيطر ضمير “الغائب” في الحديث الحاضر في
الرؤيا أمام الراوي، لتحقيق هذه المعادلة كان لا بد من استجلاب صديق آخر أيضا بلا
هوية واضحة ليخبر الراوي والقارئ معا عن أسرار لاعب الشطرنج الشهير، بينما تكفل
الراوي بتفكيك أسرار الدكتور “ب”.
الدكتور “ب” المصاب بهوس الشطرنج، يواجه بطل العالم فيربح النزال الأول وسط دهشة الجميع بمن فيهم البطل، لكن سرعان ما يكتشف الأخير نقطة ضعف الأول مع بدء النزال الثاني، فالانتظار كان مقتل الدكتور “ب”، وبهذا راح ميركو كزنتوفيك باستنزاف عشر دقائق كاملة بين كل نقلة ونقلة، وهذا ما وضع الدكتور “ب” في مواجهة صادمة مع حالة السجن، فعادت أحوال الاضطراب الذهني لمداهمته حتى يتدخل الراوي لإنهاء المشهدية بإقرار “ب” الهزيمة كي لا ينفجر تحت الضغط الهائل.
هكذا تغدو رواية زفايغ شهادة
قاسية عن اللاعبين في هذا العالم وعن المتفرجين الذين لا يعرفون أسرار اللعبة أو
مكامن النجاح والخسارة فيها، فزفايغ كما جاء على الغلاف الخلفي للرواية، قد كتب
لصديقه من منفاه البرازيلي قبل خمسة أسابيع من انتحاره: “هناك شيء مهم أقوله عن
نفسي، كتبت قصة قصيرة حسب نموذجي المفضل البائس، وهي أطول من أن تنشر في صحيفة أو
مجلة، وأقصر من أن يضمّها كتاب، وأشد غموضا من أن يفهمها جمهور القراء العريض،
وأشد غرابة من موضوعها في حد ذاته”.
عميد طب المنيا السابق
0 تعليقات