آخر الأخبار

حتمية التقريب (4)





حتمية التقريب
(4)





محمود جابر


قد يقال كم قيل: إن الحديث عن تلك العزلة وآثارها لم يعد له الآن موضع بعد أن زحفت المدينة الحديثة على بلاد الإسلام، وقدمت إليها المطبعة والصحافة والإذاعة ومحطات التلفزة المتنوعة والسيارات والطائرات والكهرباء والآلات والمصارف والبورصات والتعليم، وتغيرت عادات المسلمين فى مأكلهم ومشربهم ومسكنهم وزينتهم وأشغالهم وفنونهم، وحتى لهوهم، بحيث أن العين لتجد مثلا بين الايرانى والمصرين الآخذين بالعادات الحديثة من وجوه المشابهة والتقارب مالا تجده بين كل منهما وبين جده، لو كان فى المقدور رؤية جده بأكثر من عين الخيال، وأن ما يرجوه التقريب ويسعى له ويستعجل حصوله حاصل فعلا بلا ضجة ودون أن تلتفت إليه الأنظار بقوة التقدم الحضاري الذى يكتسح بلاد الإسلام، وان من وصلت إليهم المدنية الحديثة من المسلمين لم يعودوا يهضمون الخلافات الدينية، أو ينظرون إلى ما يحدث بسببها من شغب وعنف إلا على انه حمق مخجل، وبقايا متخلفة لعناصر غير متطورة، وان الفكرة العالمية عن الإنسان وحقوق الإنسان تشجب التفرقة الدينية أو المذهبية، وهذه الفكرة تجد طريقها مع المدنية الحديثة والتعليم الى عقول المسلمين فى كثير من بلادهم، ولم يعد الكثيرون منهم يقبلون ان يتهموا بالتفرقة الدينية، أو بعداوة أحد من اجل دينه أو مذهبه، مخافة أن يتهموا بالتخلف والتأخر والرجعية .


وهذا الاعتراض مردود أساسا بأن المسلمين لا يستغنون عن الإسلام بالمدينة الحديثة، أو بالمنطقة والصحافة والإذاعة والسيارة والطائرة إلى آخر القائمة، كما أنهم لم يتركوا الإسلام لأنهم غيروا عاداتهم فى المأكل والمشرب، والملبس الى آخر القائمة أيضا، وليس فى حساب الإسلام إلا يغير المسلمون عاداتهم فى المأكل والمشرب والملبس الى آخر القائمة أيضا، وليس فى حساب الإسلام ألا يغير المسلمون عاداتهم، أو لا ينتفع المسلمون بالمخترعات والمكتشفات والعلوم التى توجد فى زمانهم، اذ المسلم ابن زمانه، ولا يمكن لا ان يكون كذلك .


ولكن ليس من شك فى ان تيار المدنية الحديثة قد غير من اهتمامات المسلمين الآن، فلم يعودوا فى كثير من بلاد الإسلام يهتمون بكل ما كان يهتم به آباؤهم فى الجيل الماضى، أو بنفس الدرجة التى كان يهتم بها آباؤهم، وهذا طبيعى لان لكل جيل اهتماماته تبعا لعقليته وظروفه، ومع ذلك لا يستطيع منصف أن يقول : أن المسلمين الآن لا يهتمون بالإسلام بعامة ولا يحبونه، وهم فى الواقع يهتمون بدينهم ويحبونه، وإنما ذلك على طريقتهم وعقليتهم، لا على طريقة آبائهم وعقليتهم، فهم من خلال مواقع التواصل الاجتماعي المتعددة والمختلفة يمارسون إسلامهم ويهتمون به ويحبونه، ولا يعتقدون أن المدنية والتحديث التكنولجى يمكن ان تغنى عن الإسلام أو تلغيه، ولا يصدقون ان هذه المدنية يمكن ان تحل مشاكل العالم الإسلامي، ولا ينتظرون منها أن تساعدهم على حل مشاكلهم، لان هذه التطبيقات كلها تغالى فى المادية، أما الأمور الروحية والشعور بما يعانيه الإنسان من اضطراب فان الإسلام تكفل بعلاجه.

ثم إن امتداد المدنية الحديثة الى بلاد الإسلام لا يستتبع عادة أى تنقية فى الأفكار والاعتقادات الدينية لدى المتأثرين بالمدنية، بل تقل لديهم فرصة تنقية هذه الأفكار والعقائد بتلقى العلوم الحديثة والوضعية، وممارسة أساليب الحياة العصرية فى العمل او المعيشة، لا تجعل الإنسان اقدر على تصحيح أفكاره الدينية، بل يجعله أميل الى التقليد وأتباع من يظن فيهم التخصص، إذ المغالاة فى الإيمان بالتخصص من سمات المدنية الحديثة، ومثل هذا الإنسان قد تلقى أفكاره المتعلقة بطائفته وموقفها من غيرها من الطوائف الإسلامية بلا بحث نقلا عمن يظن أنهم أكثر علما بها منه، وتلقى معها شحنة الكراهية والعداوة المصاحبة لهذه الأفكار وكل ما يميزه عن سواه انه يتحاشى ما أمكنه الجهر بهذه العداوة، بينما يمارسها فى الخفاء كل يوم على صور شتى، ومثله فى حاجة الى جرعة من التقريب قد لا تقل عن الجرعة التى يحتاج اليها من لم يتأثر بالمدنية.

على انه مما يستوقف النظر فى المدنية الحديثة قدرتها الغريبة على إضعاف نفوذ الآباء والأمهات فى جميع البلاد، وهذا قد لا يكون شرا محضا لو أتاح فرصة للأجيال الحديثة من أبناء المسلمين أن تتخلص من تعصب آبائها الطائفى وعداوتهم غير المعقولة .

وإذن ثمة عزلة روحية لا تزال موجودة بين طوائف المسلمين على الأقل مشحونة بالكراهية والعداوة برغم انتشار المدنية الحديثة وطرق النقل والتواصل والإعلام، وليس لنا أن نعول فى إصلاح م بين المسلمين على تطور المدنية الحديثة بين طوائفهم. لان تطورها لا يسير فى اتجاه الإسلام، وإنما يسير فى اتجاه المذاهب والحركات المادية، ولو ترك المسلمون للمدنية الحديثة مهمة إزالة التعصب والعداوة بين طائفهم فانها ستزيلهما مع إزالة الإسلام نفسه لتحل محلها تعصبا اشد ضراوة ، وهو تعصب المذاهب والحركات المادية .
وقد قيل فى نعى التقريب على تلك العزلة الروحية ما يصاحبها من اجترار العداوات والأحقاد : أن التقريب يطلب العسير حين يطلب ان يتناسى أهل هذا المذهب أو ذاك أجزاء من ماضيهم الطائفى وتاريخهم المذهبى العزيز على النفس، بما فيها من مواقف وحوادث وتضحيات وبطولات وولائهم المذهبى الذى يتعلق به كل أتباع مذهب ما، والتقريب لا يكلف أحدا الا السير الميسور، ولا يتطلب الا ما يتطلبه السلام والعقل والإسلام نفسه، وإذا كانت الحروب والفتن والاضطهادات والمذابح والعداوات أحيانا يضىء فى ظلمتها وسوادها وحمقها وقسوتها وفسادها وشرها، تضحيات ومواقف وبطولات ونماذج من للإيثار والثبات على العهد، فذلك أمر عرضى لا يهون من تلك الكوارث، ولا يجعلها شيئا يرغب فى بقائه وبقاء أسبابه، فالذى يبيع السلام بالحرب، والوفاق بالفتنة، والإخوة بالعداوة، والعمار بالخراب من اجل فرص للبطولة، ونماذج للثبات والإيثار، أحمق قد بلغ غاية الحمق، وتعويل المذهب فى استبقاء ولاء أنصاره وتعلقهم به على عداوتهم للمذاهب الأخرى أمر لا يشرفه ولا يشرفهم، وهو – بعد – أمارة ضعف وقصر نظر وقرب إدبار.

والنسيان الذى يتطلبه التقريب من أهل المذاهب أمر لا بد منه لاى سلام حقيقى، فما يمكن ان يقوم سلام او يبقى أمن أذا ظل الجانبان صباح ومساء يرددان أناشيد الحرب، ويقلب كل منهما كل يوم صحف الماضى كى لا ينشى ما فيها من المثيرات والأحقاد والعداوات .

أما من يريد التقريب من أهل المذاهب ان يعطوا أنفسهم عمدا أو قصدا فرصة لنسيان الماضى بعض النسيان، تتجه خلالها عيونهم وقلوبهم صب المستقبل المشرق الذى ينتظر المسلمين اذا تآخوا واتحدوا وتحابوا .


وللحديث بقية ...


الحلقة السابقة : حتمية التقريب 3/3






إرسال تعليق

0 تعليقات