"تحول"
بين الذات والموضوع
قراءة فى المجموعة القصصية تحول
محمود جابر
على الرغم من رفض العديد من مدارس النقد الأدبي
للقصة القصيرة، بيد أنى من القطاع الذي يرى القصة القصيرة ولد شرعى وصلبي لثقافتنا
الشفهية والمكتوبة، لحواديت النساء على أبواب البيوت فى القرى، والنساء والفتيات
فى المدارس والنوادي وللصبية فى قارعة الطريق وللشباب حين المرح والسمر، وللرجال
على المقاهي، حواديت ربما ذات رابط وربما لقتل الوقت ودفع الملل.
وحواديت باهر عادل الروائى الشاب صاحب المجموعة
القصصية (( تحول)) مجموعة تجمع بين نقيضين فهى موغلة فى الذات موغلة فى الموضوع
... تعالج الحياة التى طالما بقيت سرا على أصحابها، رغم انها متكررة فى كل حارة
وشارع، مع مطلع كل نهار، ومغيب كل شمس تجد من هذه الحكايات تسمعها فى المقهى أو فى
سيارة نقل عام أو فى القطار بشخوص مختلفة وأسماء متعددة، ولكنها نفس الحكايات
والحواديت ..
والمجموعة القصصة " تحول" الصادرة عن
دار " رسالتنا" والتي بدأها بإهداء إلى الروائى المصري العبقرى الكبير
الراحل أسامة أنور عكاشة ... مع العديد من الاقتباسات من شاعر العامية المبدع سيد
حجاب ... ولكنه قرر منذ البداية أن يدخل فى مباراة عقلية مع القارىء من خلال ما كتبه فى رسالته التى كان نصها "
بعد وفاة صديقى قبل أن يتخطى عامه السابع والعشرين، وجدت هذه النسخة على "
اللاب توب " الخاص به ".... ومن
هنا فإن بداية العلاقة بين باهر وبين القارىء ستكون بداية معركة عقلية فلسفية وهذا
ما سوف نكتشفه فى حواديت باهر ..
حواديت تمس حياة الناس ربما عرفت من شخوصها
الكثير فى حياتك ... فـ الدكتور شوقى الذي أصابه الجنون من كثرت القراءة أو ألحد
بالله من كثرة تدفق العلم حكاية فى كل ريف وكل حارة وكل شارع، لكن الشريط اللغوي
القصير الذى عالج به " باهر" نصه فى مفتتح المجموعة حين كتب (( عقدة
الدكتور شوقى)) اعتقد أن الجميع سمع تلك الحدوتة ولكن بألفاظ أجملها ما كتبه باهر
عادل.
فهذا السرد المحدود حول الحدث البسيط مع تسليط
الضوء بقوة تجده فى حكاية الست سعاد البنت الريفية التى تزوجت فى سن مبكر من رجل أربعيني
ما لبس أن مات وتركها وحيدة تحمل لفظ أرملة وهى لم تكمل الخامسة والعشرين، لتتزوج
بنفس الطريق مرة أخرى، وتنفصل، ثم تتزوج بحثا عن ضل رجل ... وتعيش حياتها معذبة طرح
نص " باهر" سؤالا موغلا فى الذات والموضوع من خلال الست سعاد " هى
الدنيا مالها ومالى تحس ان بنها بينى تار"!!
ومن سرديات اجتماعية لطيفة ومتكررة يدخلنا "
باهر" عالم الخداع الإعلامي بحثا عن إعلان ويفتح باب للسؤال الكبير المثار
بقوة هل الإعلام خادما للإعلان، وهل الإعلام يعمل وفق وظيفته الرسالية المحترمة من
خلال حدوتة احمد الذى قرر أن يقهر الأديان بإلحاده، ولكنه وقع فى فخ الشيطان الذى
جعله يقول يارب ...
وفى قصته " تحول" الذى أخذ عنوان
المجموعة منها تفوق " باهر" على ذاته وقلمه وتقنيته الروائية والتى كانت
واضحة فيما سبق من قصص وهو أن ذات الرواى تنظر بعين ثاقبة وبينها وبين القصة مسافة
بعيدة، وحكاية الشاب الذى تحول لفتاة يلعب باهر بالقارىء ويعبث بعقله المتبع
ويضع الناس أمام حقائق اجتماعية صارخة كيف ننظر جميعا للمرأة فى مجتمعنا وماذا لو أصبح
الرجل منا امرأة فى مجتمع ذكورى ؟!!
وروعة منهجية الموضوع عند " باهر"
تتجاوز ذاته الكتابية فهو يروى حكايته باللسان سعاد تارة، وباللسان زوجة بشوى
القروى الذى يعمل فى السياحة بشرم الشيخ أخرى، وأعتقد أن ذات الراوية التى تعيش
حكايات أهل الريف وتسمعها استحضرت له موضوعات شتى صاغ منها شخوص روايته وأبطالها
فى وصف دقيق، ورغم أنه يعالج نصا قصيرا إلا أنه اهتم بكل التفاصيل الدقيقة التى
يستخدماه شخوص الروايات ووصف ملابسهم وأجسامهم النافرة منها والمنبسطة مما يوحى ان
" باهر" ممتلك لأدواته الروائية بشكل يقول أننا امام موهبة حقيقية
وروائى جاد .
بين القدر والحذاء يشاغلنا " باهر"
بقصتيه الكومبارس والتى لم يطرح فيها لا أسئلة وجودية يفعلها اغلب كتاب القصة
القصيرة ولا خاتمة مبهرة وكائن "باهر " قرر أن يكون مبهرا بتقنيته لا
بتقنية الآخرين .
عبارة نرمين التى قالتها "ليه بوستنى فى
الدير"، ذكرتنى بعنوان رواية روبير الفارس الصديق والأديب الرائع " عيب أحنا
فى كنيسة"، و"باهر" هنا يفتح لنا حكايات الشباب المسيحى كيف يتعامل
مع الحياة مع الحب والمواعدة فى الدير أو الكنيسة معاناة الأشخاص والأسر، ضغوط
الحياة التى تجعل الأسرة تزوج بنتها لمن يكون ميسور الحال لا من يحبها .. وهى حالة
مصرية لا يختلف فيها مسلم عن مسيحى .
روعة باهر فى نحته للاسماء نموذج المحامى " صبرى
مرتضى كشك الوحش" وهى تجميعة من الاسماء المتعددة التى أراد من خلالها "
باهر" أن يقول شىء، واذا وضعنا حكاية أحمد فى " فخ المذيعة" خريجة
الجامعة الامريكية مع " صبرى مرتضى كشك الوحش" تجد ان باهر الروائى يكشف
النقاب عن حالة الفصام الذى يعيشها المجتمع رجالا ونساء سواء من تعلم فى الجامعة
الامريكية أو من تخرج من مؤسسة دينية أو من تعلم تعليم مدنيا قانونيا حديثا فالكل
وقع فى اسر الفصام الذى جعله يتصرف عكس ما يفكر لان هنا تقاليد جديدة غزت المجتمع
وفرضت عليه نمط من التصرف يخالف قناعاته، واصبح الجميع ينساق فى هذا الدرب كأنه
فاقد البصر ..
ولكن لا أدرى لما فصل باهر بين " فخ
المذيعة" و " نبى تحت الحصار" رغم ما بينهم من ارتباط لا اعتقد انه
يخفى عن الكاتب أو الناقد .... واعتقد انه كان موفقا جدا، حينما وضع " مذكرات
السيد ابراهيم بكرى" بعد نور باهر ... والسيد بكرى صحفى شهير ولامع ينتهز كل
فرصة ليبقى فوق سطح الأحداث وفى بؤرة الضوء حتى حينما يفقد الفرصة التى كان
ينتظرها يكرر أبيات السيدة أمل دنقل – هكذا ظن هذا الجاهل – فى رائعته كلمات
سبارتكوس الأخيرة ... تقنية الترتيب وضعت " نور" فى مواجهة "
بكرى" وهو تداخل الذات مع الموضوع، وخبرت الكتابة مع خيال الكاتب وملامسة
الكاتب ثقافة الناس والمثقفين وما بين هذا الكلام من أحداث ذات صلة .... وكأن
" باهر" يكتب لنا حواديت " كليلة ودمنة" بشكل مصرى جديد ...
واعتقد انه سار بنفس التقنية الكتابية والترتيبية
فى مجموعته فكتب عن " سيد بكرى أخر" ولكنه فى رحاب الاتلية"، ويختم
بأمل دنقل آخر ولكنه لم يكن فى كعكته الحجرية ولكنه كان فى غرفته منعزلا .
فى النهاية فإن حواديت " باهر" من
الدكتور شوقى، والست سعاد، حتى العصفور الذى لا يعجبه شىء كاشفة عن وجدان الكاتب
وثقافته وزاوية التقاطه للحواديت وللحياة، تميز فيها باهر بمفردات عربية رصينة،
وقلم فصيح، وروح خلابة وانتقال سريع لا يفقد القارىء الموضوع ... غاب فيه الراوي
وكنا أمام الحدوتة من خلال شخوصها فقط دون واسطة ...
فى النهاية أتمنى لكل قارىء للمجموعة القصصية
" تحول" ان يقضى مباراة ممتعة مع باهر عادل ...
0 تعليقات