آخر الأخبار

عبد الناصر من الهزيمة إلى التنحي..


عبد الناصر
من الهزيمة إلى التنحي..




سامح جميل 

قال عبد الناصر في خطابه يوم 23 يوليو 1967. كان علينا ألا نبدأ بالهجوم ونتلقى الضربة الأولى التي ستوجه إلى قوتنا الجوية، وعدم المبادأة بالعدوان، استجابة لنداء أمريكا وروسيا وأشار عبد الناصر في اجتماعه بالقادة العسكريين الكبار بمبنى القيادة العامة للقوات المسلحة، يوم 2 حزيران 1967، انه لابد لنا أن نتوقع ضربة من العدو خلال 48 ساعة إلى 72 ساعة لا تتأخر عنها أبدا وحدث ما تم ذكره تماماً.

وهنا نتساءل لم لا تضرب مصر وتجهض العدوان؟ والبعض هنا يتساءل لم لا تتخذ الإجراءات والاستعدادات لتلقي الضربة؟

رغم علم الرئيس بها لتقليل الخسائر التي تخلفها الضربة الإسرائيلية أن لم يتفادها (وتشير المعلومات الروسية بأن الخسائر جراء هذه الضربة ستكون 15 بالمئة بينما ما حدث هو خسائر 100 بالمئة مع سقوط الكثير من الأبنية والخسائر البشرية، وما تركته هذه الهزيمة من تخلل نفسي للجماهير المصرية والعربية) ويقول هيكل في مقاله (بصراحة) في جريدة الأهرام المصرية: ان المواجهة المسلحة مع إسرائيل أصبحت واقعة لا محالة، ولكننا سننتظر الضربة الأولى ونرد عليها بضربة ردع حاسمة.

إن عبد الناصر كان على دراية سابقة، وعلم تام بوقوع العدوان، وامتلاكه الكثير من المعلومات عن قرب الهجوم وتحديداً يوم الاثنين في الخامس من حزيران عام 1967 وذلك عن طريق مندوب المخابرات المصرية (رأفت الهجان) ووصول معلومات أخرى عن طريق الكولونيل الفرنسي في إعطاء تفاصيل الهجوم على مصر وساعته وتاريخه للمفوض المصري بباريس (عز الدين شرف) الذي سافر للقاهرة لإبلاغ شقيقه (سامي شرف) مدير مكتب الرئيس، الذي قام بدوره بإبلاغ عبد الناصر بذلك في نفس اليوم، إضافة إلى ما جاء على لسان الفريق الأول محمد احمد صادق مدير المخابرات الحربية المصرية في احد الاجتماعات العسكرية التي عقدت برئاسة عبد الناصر يوم 23 يونيو 1967، وأعلن فيه أن معلومات حصل عليها شخصياً من مصادر دولية، كالهند، تؤكد هجوم إسرائيلي يوم 4 او 5 يونيو (حزيران). ووقعت الضربة، دون ان يكون هناك أدنى استعداد من جهة مصر، فالأمر في منتهى الغرابة، وفي غاية الدهشة، وهناك ما يلاحظه ممن يشككون بنزاهة عبد الناصر في أمره بتخفيض حمولات الطائرات، والسماح في منح اجازات للطيارين، وعدم التعرض الإسرائيلي المهاجم بالصواريخ، أو المدفعية المضادات للطائرات وهي جاثمة على ارض المطارات، دون ملاجئ، وأحس عبد الناصر بالمرارة، والذهول عندما كان يقرأ كشفاً وصله يتضمن خسائر الجيش المصري، وعندها على حد تعبير هيكل أحس بهول الكارثة، وهو يتساءل مع نفسه مالي والراحة بعد أن تغضنت ملامحه كأرض محروثة بالآسي والألم خلال أيام؟

ثمة أمل
وأدرك لوهلة انه لن يكون هناك أمل في تدارك ما حصل، وهو يرى المصيبة تأخذ بتلابيب روحه اللاهبة إلى حيث الهزيمة، التي لم يستطع الإفلات منها سوى إنقاذ ما يمكن إنقاذه.
واتصل بوزير الخارجية (محمود رياض) أبلاغ موافقة مصر على وقف إطلاق النار ولم يبق في قدرته وروحه الرغبة في البقاء وتبنى فكرة الاستقالة او التنحي عن أي مسؤولية بعد أن شعر مبكراً بأنه المسئول عن ما حصل، وتحميل الذات جريرة الهزيمة او النكسة التي أطلق عليها لاحقاً، ونفث مافي أعماقه من حزن كظيم، وهم بروح مسكونة بالخيبة والخسران تداعب عقله الإنصات الى فكرة التنحي عن المسؤولية بإيمان مطلق، تاركاً الى من يتحمل المسؤولية من بعده (زكريا محي الدين) في انتباه الى انه كان ينكأ جرحاً مؤلماً، لازال ينزف دماً فأتصل عبد الناصر بمحمد حسنين هيكل الذي أصبح صديقه وأثيره كل مساء ليقول، بدأ صوته لأول وهلة على التلفون مثقلاً بهموم الدنيا كلها، وقد سألني ما الذي اقترح عليه، فقلت له: لم يبق أمامك غير الاستقالة الذي جاء مطابقاً لما فكر فيه تماماً وطلب ناصر من هيكل ان يكتب له خطاب الاستقالة، كجهد أخير في معاونته، واتفقا على اللقاء الساعة الثامنة من صباح يوم التاسع من حزيران، ظل هيكل يكتب مسودات الخطاب طيلة الليل أرهقتني سطوره أكثر من أي شيء آخر كتبته من قبل هذا ما قاله هيكل.
وكان عبد الناصر بعد ماحدث في حزيران من فاجعة أناخت بثقلها على اعتاقة ينوء تحت كاهلها فأضافت الى عمره سنوات مرهقاً يصعب وصفه وفي عينيه سحابة حزن لم يرها هيكل من قبل، وقال هيكل يوماً تعليقاً على ما أصاب عبد الناصر من محنة موجعة، لم يكن عند عبد الناصر أي (كيف) قبل وبعد الهزيمة اي وسيلة تلهيه وتسليه لاشرب لا نساء لاقمار لقد كان الرجل نظيفاً قلباً ويداً وأخلاقيا.

لقد كان عبد الناصر يجد في التدخين تسليته الوحيدة، شغوفاً برؤية الأفلام المصرية القديمة منها والحديثة ويقول هيكل الذي كان صديقه ونديمه كل مساء، لطالما أجبرني السهر معه لأكون سمير لياليه وخلال الجلوس الطويل معه، كنت احصل على معلومات هامة عن كتلة عدم الانحياز كأحد كبار زعماء العرب، والعالم الثالث وقتئذ الذين كانوا لا ينفكون من الاتصال بالزعيم العربي ليل نهار للاطلاع على أفكاره ومشاريعه إضافة الى كون صحيفة الأهرام مصدر أفكار عبد الناصر.
يقول هيكل: عندما نهضت لتوديعه، نهض ناصر مودعاً اياي، لمحت دمعة في عينيه لأول مرة في حياتي، تنمان عن هذا الذهول، يبذل كل جهد ليخفي الأمة النفسية وهمت روحه بالسعي للخلوة والعزلة بعض الوقت وتسح تلك الدمعة السخية، الموغلة بالقسوة والألم والحزن إنها لحظة ضعف إنساني مؤذية متحاملاً على نفسه التي تمخضت عنها من تيه في القرار الذي كان يبحث عنه في عقله المتدارك لهذا الطوفان من المشاهد المؤلمة، وهو يرى بأم عينيه ما أصاب جيشه من انكسار يتخبط وسط الصحراء هرباً من الطائرات الإسرائيلية التي تتصيده من دون غطاء جوي.
واستطرد هيكل: فاستدرت خارجاً من غرفة مكتبه متجهاً الى مكتب (سامي شرف) مدير مكتب عبد الناصر في بيت مقابل بيت الرئيس فأصابته حالة من الهستيريا عندما قرأ عبارة التنحي تماماً ونهائياً عن اي منصب رسمي وأي دور سياسي نفس الحالة أصابت موظف الآلة الكاتبة، الذي اجهش بالبكاء.

ويقول هيكل: ان الأثر الشعبي الذي سيسببه الخطاب، سيكون اقوي بكثير من هستيريا سامي شرف، وبكاء موظف الآلة الكاتبة وكانت شهادة الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل، الذي كان مشاركاً في صناعة الحدث المؤلم، كما يروي في كتابه الانفجار كان أول من طرح فكرة التنحي على عبد الناصر في تمام الساعة الثامنة والنصف من مساء يوم الخميس 8 يونيو (حزيران) قبل ان يقول عبد الناصر له، انه فكر في ذلك فعلاً وقتها كانت الحقيقة المرة، لم تتضح بعد للمصريين. فأقر عبد الناصر في خطاب التنحي، بأنه تعرض الى ضغوطات من الولايات المتحدة، الأمريكية، بواسطة سفيرها الذي اتصل يه في الساعة السابعة مساء وكذلك السفير السوفيتي في الساعة الثالثة من فجر الاثنين، وطلب منه ضبط النفس وان لا يكون الباديء بالقتال جعلته يأمر قادة القوات المسلحة بتلقي الضربة الأولى وقال عبد الناصر في خطاب التنحي يوم (9) من حزيران كنت على علم مائة بالمائة ان الهجوم يوم الاثنين وأعلن استعداده ان يتحمل مسؤولية الهزيمة التي حاقت بالجيش المصري، ووقف الشعب المصري حيارى أمام أهوال الهزيمة والوجوم يرين على وجوه الجماهير، التي استيقظت بأسرها ممسكة بأنفاسها عن البكاء الأجفان السابلة، تتعرض الى العنت والأذى من نكسة تشظت بين جنبات الضلوع العربية.
فكانت على موعد مع القدر، في مشهد اكثر دراماتيكاً، ومأساوياً وهو مشهد عبد الناصر، وهو يلقي خطابه، الذي جاء فيه برغم اية عوامل اخرى قد أكون بنيت عليها موقفي من الازمة فأنني على استعداد لتحمل المسؤولية كلها.
وصمتت الملايين بعد انتهاء الخطاب وتبدد الصمت شيئاً فشيئاً، ليعلو صوت البكاء، الذي تحول تدريجياً الى نشيج مكتوم ثم تحول الى عويل ثم الى صراخ، يطلق هتافات تقول: ناصر. ناصر. يرافق هذا اختناق صوت أنور السادات أثناء إلقائه رسالة جمال يجاهد نفسه في موقف تاريخي، لم تستطع قدرات الرجال جميعاً ان تكبح جماح عواطفها، المثقلة بهموم الهزيمة والتنحي، وبعضهم (سيد مرعي) لم يستطع تحمل الموقف، فأغمى عليه.
ان الشعب المصري بغريزته وعفويته لم يخذل عبد الناصر في مساء 9 حزيران، رغم خيبة أمل ترسم على وجهه صارخاً لا تنحي. لا تنحي . واندفعت الجموع الهادرة الى الشوارع بمجرد سماع عبد الناصر يعلن استقالته في مظاهرات 9 و 10 حزيران في تلقائية أحجت لهب التنحي، وهي تعاني من وطأة النكسة وعدم الرضا والاستهجان لما أصاب مصر في هذه الفترة من خواء، ابهضت روحها بليل الهزيمة رافضة التنحي عن السلطة.
هذه التظاهرات التي كانت حدثاً فريداً، ومدهشاً في عفويتها دون تدبير مسبق، لا تعني غياب فكرة ما.
فعفويتها كانت تصدر عن وعي متراكم، وفي ضوء الضجيج بالتساؤلات لم أشأ أن أتسول الشواهد الشاخصة والمحدقة على ما يتحكم مصر والعرب من نحيب وحداد في تعزية ماحدث من فجيعة ألمت بمصر وناصر لا يستطيع التحرر من كوابت السلطة وهموم السياسة وحزن السقوط المدوي في حرب خسرتها الأمة العربية في لحظة لم تكن ان تتنبأ ان يحدث لمصر هذا الدوي الذي لم يفقد وعي الجماهير.
فكان رد أمين هويدي وزير الحربية ورئيس المخابرات المصرية في عهد عبد الناصر غاضباً: انا كنت شاهداً على ماحدث وأنا لا يمكن أن اشترك في مهزلة كهذه ويقول الكاتب (محمد عودة) في رد على هذا الكلام.
فأجاب بحماس شديد (مين المخرج العظيم اللي هيطلع الشعب المصري كده.) هل الاتحاد الاشتراكي هو اللي طلع برضه الشعب الجزائري والتونسي والمغربي والعراقي، واللبناني.
ويعن تساؤل وسط هذه التداعيات هل التفكير في المظاهرات التي تطالب ببقاء جمال عبد الناصر تقف وراءه القيادة السياسية المصرية، وهي وراء التحضير لها بعد قرار التنحي والتنسيق قيادات الاتحاد الاشتراكي.؟. ماهي الأسرار التي كانت السبب في خروج التظاهرات التي اجتاحت مصر والعالم العربي من المحيط الى الخليج؟
ام ان التظاهرات خرجت بشكل عفوي دون تدبير مسبق.؟. هل كان بمقدور الاتحاد الاشتراكي المصري في تلك اللحظة العفوية التي شكلت عواطف الناس في توجهاتها في رفض الهزيمة والتنحي والتمسك بالثوابت ان يحشد الجماهير بمثل هذه السرعة؟

خروج شعب
وحين تمت الإطاحة بقياداته في مايو عام 1971 لم يستطيعوا إخراج تلميذ واحد في مدرسة لمساندتها ضد السادات.
ولم يعرف التاريخ الحديث عن خروج شعب لا في القديم ولا في المعاصر تأييداً لرئيسه.
وفي رد بسيط نكتفي ببراءة الاتحاد الاشتراكي من هذه التخرصات المغرضة والمعادية لمجمل التساؤلات حول ما حصل بعد خطاب التنحي ما قاله اكبر معلق سياسي في الغرب (دويتشر) لأول مرة يخرج شعب مباشرة يصنع التاريخ بنفسه، وليعيد زعيماً مهزوماً ومن خلال هذه الجهد الجماهيري العفوي تظهر براءة التظاهر التي لا تشوبها شآبة التفكير مسبقاً بتنظيمها، وخروجها الى العلن في الشوارع العامة وندرج هنا أهم الشهادات التي تثبت براءتها.
شهادة الدكتور حسن كامل بهاء الدين قائد منظمة الشباب في عهد عبد الناصر التي انشأها لتكون ذراعه السياسي حيث يقول: فور إعلان خطاب التنحي، ذهبت الى مكتب المعلومات المواجه لبيت عبد الناصر، وكنت في حالة عصبية شديدة وان (30 الف شاب) من أعضاء منظمة الشباب مستعدون للزحف على بيت عبد الناصر لأثنائه عن قرار التنحي، وهذا ما يكشف تهديده عدم وجود تواصل قيادي الاتحاد الاشتراكي معه، والا لكان قد فصل فوراً قبل التلوح بالتهديد.
وهذا الدكتور عبد العظيم رمضان المعروف بعدائه لناصر والناصرية يرد بقوة على اتهام مظاهرات التنحي، بأنها كانت مدبرة ويقول في كتابه (تحطيم الالهه) ان ذلك الاتهام مهين جداً للشعب المصري، نافياً ان يكون الاتحاد الاشتراكي قادراً على التدبير مظاهرات ضخمة كهذه لانه لم يكن يتمتع بشعبية بين الجماهير.
وهناك من يشكك بظهور رجال الاتحاد الاشتراكي وسط الجماهير، كان ذلك بحكم وجودهم الطبيعي بين السكان، بعد ما أصيب بحالة من الشلل من اثر المفاجأة في تنحي الرئيس.
ويريد ان يقول الباحث المصري (شريف يونس) في كتابه n الزحف المقدس- بأن المظاهرات كانت تلقائية ولم تكن قيادات الاتحاد الاشتراكي وراء تهيئة التجمعات للخروج بمسيرة ترفض التنحي..
وهنا وجدت نفسي تحس بالتعب والضجر في تناول كل الشهادات التي قد تآخذ حيزاً واسعاً من مجال حيوي لا اجد فيه حقاً لي في سرد تاريخي.
قد يطول فيه المقام، فلابد من الاقتضاب فيها، والتنحي جانباً في تناول بقية التأثيرات النفسية التي القت بظلالها على الشعب المصري في مسيرة الشهادات، التي تدحض اختراء المتشككين بالناصرية قرار التنحي.
التي تضمنت براءة القيادة الناصرية من هذه الادعاءات والتي تقف بالضد من خوارج، تروم خلط الأوراق والاتجاه بها نحو تخريب الوضع القومي، وتأزيمه بمناوشات سياسية لأجل إسقاط الناصرية، وقائدها الخالد جمال عبد الناصر، ويمكن ان نسلك مسلكاً أخر هو العجالة من أمرنا في إنهاء رواية التاريخ في رحلتها التي أوجعتنا تفاصيلها وما تركته من غضاضة الماضي وحاضر موجع مستكن بمحنة الهزيمة وتأثيراتها التي تركت لنا مظان الرفاق المغبرة.
محاولاً الخروج من مداميك السياسة، والأزمة التاريخية ومن الصراع السياسي الذي كنا جزءاً منه مع كتل او أحزاب أخرى، تضمر العداء للحركة القومية، وتيارها العربي القومي بكل عناوينها.
وما فتئنا نكتشف يوماً بعد أخر، حال الضعف التي آلت إليه الحركة القومية من بعد وفاة قائدها الرمز، وما تعرضت له من تضحيات فقدت شهد الروح، فظللنا نحن أبناء الجيل الذي شهد الهزيمة، نعيد قراءة الواقعة التاريخية بمضض، لتصدمنا أقوال البعض ممن تهجم على عبد الناصر ويحمله تبعات وآثار النكسة، وما ال إليه البعض ممن ذهب أكثر من ذلك بمسافات قد تقل أو تقصر في تشويه صورة الرجل بما تحمله شخصية في طينتها المجبولة بالمبادئ، ولقد نال من الرجم مالم ينله احد قط في العالم..!!




إرسال تعليق

0 تعليقات