آخر الأخبار

الشَّهيدُ الصَّدر الثَّاني؛ التَّأَسِيس والدَّيمُومَة








الشَّهيدُ الصَّدر الثَّاني؛ التَّأَسِيس والدَّيمُومَة



     نــزار حيدر


   ١/ للشَّهيدِ، الفقيهِ المرجِع، السيِّد محمَّد محمَّد صادق الصَّدر [الصَّدر الثَّاني] [استُشهد في الثَّاني من شهر ذي القِعدة عام ١٤١٩ هـ (١٩٩٩م)] قُدِّس سرُّه ثلاث بصمات في ثلاثِ مراحل من تاريخِ العراقِ المُعاصر؛
   البصمةُ الأُولى؛ مشاركتهُ الفاعلة في صياغةِ الوعي الحَضاري والرِّسالي في الشخصيَّة العراقيَّة من خلالِ مساهماتهِ الفكريَّة والحركيَّة التي تغذَّينا عليها ستينيَّات وسبعينيَّات القرن الماضي، وأَخصُّ بالذِّكر [الموسوعةُ المهدويَّة] التي ساهمت بشَكلٍ كبيرٍ في نقلِ السَّاحة الإِسلاميَّة، الشيعيَّة تحديداً، من مرحلةِ الإِنتظار السَّلبي لعصرِ الظُّهور إِلى مرحلةِ الإِنتظار الإِيجابي الحركي الذي يتفاعل مع الأَحداث والتطوُّرات والواقع المُعاش بدلاً من الإِنزواء والجمود والإِنكفاء على الذَّات.
   البصمةُ الثَّانية؛ إِنطلاقتهُ الثوريَّة في تسعينيَّات القرن الماضي عندما تصدَّى لإِقامةِ صلاة الجُمعة بِدءاً من مسجدِ الكوفة المُعظَّم لتنتشرَ في أَغلب المُحافظات وتحديداً من العاصمةِ بغداد وحتَّى أَقصى الجنوب، البصرةُ الفَيحاء.
   فعلى الرَّغمِ من عِظم التحدِّيات والمخاطر التي كان يواجهها مثل هذا المشروع في ظلِّ سُلطة الطَّاغية الذَّليل صدَّام حسين الديكتاتوريَّة والشموليَّة والبوليسيَّة المُطلقة، إِلَّا أَنَّهُ (قُدِّسَ سِرُّه) قدَّر أَنَّ مثل هذا المشروع هو الوحيد القادر على إِستنهاض الأُمَّة وتسليحها بالشَّجاعة المطلوبة لمُواجهةِ النِّظام القمعي.
   ولقد تميَّز هذا المشروع بما يلي؛
   أ/ هو أَوَّل مشروع حركي وثوري نقلَ السَّاحة الإِسلاميَّة من الحالة النخبويَّة إِلى الحالة الجماهيريَّة، فكلُّ المشاريع الحركيَّة التي تأَسَّست في العراق الحديث كانت نخبويَّة بامتياز و [حزبيَّة] مُنغلِقة لم تنجح في تحريكِ الشَّارع عند الضَّرورة إِلَّا ما ندر، أَمَّا هذا المشروع الذي انفردَ بهِ الشَّهيد الصَّدر الثَّاني فقد انطلقَ من رحمِ الأُمَّة وتمدَّد بالجماهير واستمرَّ بها إِلى الْيَوْم.

   ب/ إِنَّهُ نجحَ في تحريكِ الشَّارع ليتحمَّل مسؤُوليته في مواجهة الطَّاغوت من خلالِ الأُسلوب الفريد الذي وظَّفهُ الشَّهيد بالمشروع عندما كانَ يطلب من المصلِّين، وهم كل طبقات المُجتمع على اختلاف مستوياتها، تِرداد الشِّعارات التي كانَ يُطلقها في الصَّلاة وراءهُ، فنجحَ بذلكَ نجاحاً باهراً في تحشيدِ الشَّارع وتحريكهِ خلفَ المشروع حدِّ التبنِّي العُضوي عندما وجدَ العراقيُّون أَنفُسهُم فِيهِ وفِي القائد الشَّهيد.

   ج/ كما نجحَ المشروع في بثِّ الرُّوح الثوريَّة في نفوس النَّاس التي كادت أَن تستسلم لإِرهاب السُّلطة الغاشمة بعدَ الذي جرى من قمعٍ وحشيٍّ لا يُوصف للإِنتفاضة الشعبانيَّة المُباركة.

   لقد اعتمدَ صاحب المشروع على شجاعةٍ مُنقطعةِ النَّظير وقوَّةِ الإِرادة والتحدِّي والتصدِّي في زمنِ التَّخاذُل والإِستكانة والإِستسلامِ للأَمرِ الواقع، موظِّفاً القاعدة الحُسينيَّة الذهبيَّة {نَفسِي مَعَ أَنفُسِكُم، وأَهلِي مَعَ أَهلِيكُم، فَلَكُم فِيَّ أُسوةٌ} في قيادةِ الأُمَّة، فلم يتراجع إِلى الخطوطِ الخلفيَّة ليُقدِّم أَو يرمي النَّاس في لهواتِ المُواجهةِ، ولَم يلبَد ليستنفرَ المُصلِّين، ولَم يُطلَّ على الجُمهور من بُرجٍ عاجيٍّ بناهُ لنفسهِ ليعزلها عن الشَّارع، ولَم يُقُد الأُمَّة من وراءِ جُدُرٍ، أَبداً، وإِنَّما كان فيهم كأَحدِهِم يرفضُ أَن يصنعُوا مِنْهُ صنماً يُعبَدُ من دونِ الله تعالى ولو بتقبيلِ يدهِ! لا يتميَّز عنهُم بملبسٍ أَو مأكلٍ أَو مركبٍ، تقدَّمهُم في كلِّ خُطوةٍ لابساً الكفن إِستعداداً للشَّهادةِ، التي لم يكن لحظتها لوحدهِ وإِنَّما مع ولدَيهِ الشَّهيدَين السَّعيدَين (قدَّس الله سرَّهُم جميعاً) فكانَ الرَّجلُ الرَّجلُ مِصداقاً حقيقيّاً للقاعدةِ الحُسينيَّة منذُ الإِنطلاقةِ وحتَّى الإِستشهاد.

   أَمَّا البصمةُ الثَّالثةُ؛ فكانت مدوِّيةً ودمويَّةً، فإِذا كانت مشاريع الإِستشهاد للعُلماء والفُقهاء والقادة الحركيِّين وللشَّباب والحرائِر من مُختلفِ طبقاتِ المُجتمع، تجري في السُّجون والمُعتقلات خُفيةً وفِي جُنحِ الظَّلام تتستَّر عليها السُّلطة الظَّالمة فلم يسمع بها العراقيُّون في أَغلب الأَحيان إِلَّا بعدَ مرورِ زمنٍ عليها، كما حصلَ ذَلِكَ للشَّهيد الصَّدر الأَوَّلِ مثلاً، فإِنَّ شهادةِ صاحبِ المشرُوع هَذِهِ المرَّة كانت مدوِّيةً منحت المشرُوع زخماً كبيراً وغذَّتهُ بوقُود الدَّيمُومةِ الذي قليلاً من يخفُت. 

   ولذلكَ فليسَ غريباً أَبداً أَن نلمِس كلَّ هَذِهِ الإِندفاعةِ والحماسةِ في مشروعهِ وتيَّارهِ بالمعنى الأَعمِّ والأَوسعِ والأَشملِ.

   إِنَّ مشروعاً ثَوريّاً تغييريّاً حركياً يغذِّيه دم القائد في وضحِ النَّهار وفِي زحمةِ الطَّريق، وأَمام مرآى ومسمعِ الجميع لا يمكنُ أَن يخفُتَ بريقهُ بهذهِ السُّهولة، ولذلكَ لمِسنا جميعاً صمودهُ وثباتهُ على الرَّغمِ من كلِّ التحدِّيات التي واجهَها والصُّعوبات والمُنعطفاتِ التي مرَّ بها منذُ إِستشهاد القائد ولحدِّ الآن.

   لقد خلَّف الشَّهيد الصَّدر الثَّاني مشروعاً حضاريّاً عميقَ المعنى والأَدوات والأَهداف، فلا ينبغي تحجيمهُ وتقزيمهُ واختزالهُ بالشِّعارات السياسيَّة الآنيَّة والمصالح الفِئويَّة الضيِّقة والأَسماء والعناوين المُختصَرة.

   وتلكَ هي مسؤُوليَّةُ كلِّ العراقيِّين بِلا استثناء.


إرسال تعليق

0 تعليقات