مصر وآل البيت (4)
محمود جابر
الاتفاق بين المسلمين والمقوقس
ان
المصريين طلبوا من ملكهم المقوقس أن يعقد اتفاقية مع المسلمين ، ويعترف بهم حكاماً
، بعد أن هزموا الروم في فلسطين وسوريا ، وانسحب هرقل الى القسطنطينية وسحب قواته
من بلاد الشام ومصر . فدخلها عمرو العاص في ثلاثة آلاف وخمس مئة رجل ، واستقبله
ملكها المقوقس ووقَّع معه عهد الصلح على أن يدفع عن كل مصري دينارين سنوياً .
وقد
تم ذلك بدون ضربة سيف ولاسوط ، وحكم المسلمون مصر بدل الروم ، وأخذوا يديرونها ،
ويأتون اليها للسكنى ، وأسلم قسم من أهلها .
ويدل على ذلك: قول
عمرو بن العاص نفسه لعمر بن الخطاب إن موقف المصريين أن لايقاتلوا المسلمين ،
ليقنعه بغزو مصر .
قال ابن الحكم المصري في كتابه: فتوح مصر/131: «قال: يا أمير المؤمنين – لعمر- إئذن لي أن أسير إلى مصر ، وحرضه عليها وقال:
إنك إن فتحتها كانت قوة للمسلمين وعوناً لهم ، وهي أكثر الأرض أموالاً ، وأعجزها
عن القتال والحرب . فتخوف عمر بن الخطاب وكره ذلك ، فلم يزل عمرو يعظم أمرها عند
عمر بن الخطاب ويخبره بحالها ويهون عليه فتحها ، حتى ركن عمر لذلك ، فعقد له على
أربعة آلاف رجل كلهم من عكّ ، ويقال بل ثلاثة آلاف وخمس مائة ». ونحوه
تاريخ اليعقوبي:2/147، وغيره .
وفي فتوح مصر وأخبارها/136: «وكان بالإسكندرية أسقف للقبط يقال له أبو ميامين ، فلما بلغه قدوم عمرو بن
العاص إلى مصر كتب إلى القبط ، يعلمهم أنه لاتكون للروم دولة وأن ملكهم قد انقطع ،
ويأمرهم بتلقي عمرو ، فيقال أن القبط الذين كانوا بالفرما كانوا يومئذ لعمرو
أعواناً.. ثم توجه عمرو لا يدافع إلا بالأمر الخفيف ، حتى نزل القواصر ..
**
إذا هل
كان هناك عقد فعليا بين المسلمين وبين المصريين وكيف نثبت ذلك تأريخيا ؟
**
نعم
كان هناك صلح معقود وقد روى المؤرخون نص عقد الصلح بين المسلمين والأقباط ، وأن
الروم غضبوا على الأقباط بسببه ، فتحداهم المقوقس وأصرَّ على الصلح .
قال
المؤرخ المصري القرشي المتوفى 257هـ.في كتابه فتوح مصر/152: «وشرط المقوقس للروم
أن يخُيَّروا، فمن أحب منهم أن يقيم على مثل هذا أقام على ذلك ، لازماً له مفترضاً
عليه ، ممن أقام بالإسكندرية وما حولها من أرض مصر كلها ، ومن أراد الخروج منها
إلى أرض الروم خرج ، وعلى أن للمقوقس الخيار في الروم خاصة ، حتى يكتب إلى ملك
الروم يعلمه ما فعل ، فإن قبل ذلك ورضيه جاز عليهم وإلا كانوا جميعاً على ما كانوا
عليه. وكتبوا به كتاباً .
وكتب المقوقس إلى
ملك الروم كتاباً يعلمه على وجه الأمر كله ، فكتب إليه ملك الروم يُقَبِّحُ رأيه
ويُعَجِّزُه ويَرُدُّ عليه ما فعل ، ويقول في كتابه إنما أتاك من العرب اثنا عشر
ألفاً وبمصر من بها من كثرة عدد القبط ما لا يحصى ، فإن كان القبط كرهوا القتال ،
وأحبوا أداء الجزية إلى العرب ، واختاروهم علينا ، فإن عندك من بمصر من الروم ، وبالإسكندرية
ومن معك أكثر من مائة ألف ، معهم السلاح والعدة والقوة ، والعرب وحالهم وضعفهم على
ما قد رأيت ، فعجزت عن قتالهم ورضيت أن تكون أنت ومن معك من الروم في حال القبط
أذلاء، إلا تقاتلهم أنت ومن معك من الروم حتى تموت أو تظهر عليهم ، فإنهم فيكم على
قدر كثرتكم وقوتكم وعلى قدر قلتهم وضعفهم ، كأكْلة ! فناهضهم القتال ولا يكون لك
رأي غير ذلك . وكتب ملك الروم بمثل ذلك كتاباً إلى جماعة الروم !
فقال المقوقس لما
أتاه كتاب ملك الروم: والله إنهم على قلتهم وضعفهم أقوى وأشد منا على كثرتنا
وقوتنا ، وإن الرجل الواحد منهم ليعدل مائة رجل منا ، وذلك أنهم قوم الموت أحب إلى
أحدهم من الحياة ، يقاتل الرجل منهم وهو مستقتل ، يتمنى أن لا يرجع إلى أهله ولا
بلده ولا ولده ، ويرون أن لهم أجراً عظيماً فيمن قتلوه منا ، ويقولون إنهم إن
قتلوا دخلوا الجنة وليس لهم رغبة في الدنيا ولا لذة إلا على قدر بلغة العيش من
الطعام واللباس ، ونحن قوم نكره الموت ونحب الحياة ولذتها ، فكيف نستقيم نحن
وهؤلاء وكيف صبرنا معهم ! واعلموا معشر الروم والله إني لا أخرج مما دخلت فيه ولا
مما صالحت العرب عليه ، وإني لأعلم أنكم سترجعون غداً إلى رأيي وقولي ، وتتمنون أن
لو كنتم أطعتموني ! وذلك أني قد عاينت ورأيت وعرفت ما لم يعاين الملك ولم يره ولم
يعرفه !
ويْحكم! أما يرضى
أحدكم أن يكون آمناً في دهره على نفسه وماله وولده بدينارين في السنة !
ثم أقبل المقوقس
إلى عمرو بن العاص فقال له: إن الملك قد كره ما فعلتُ وعجَّزني ، وكتب إليَّ وإلى
جماعة الروم أن لا نرضى بمصالحتكم ، وأمرهم بقتالكم حتى يظفروا بك أو تظفر بهم !
ولم أكن لأخرج مما
دخلت فيه وعاقدتك عليه، وإنما سلطاني على نفسي ومن أطاعني، وقد تم صلح القبط فيما
بينك وبينهم ، ولم يأت من قبلهم نقض ، وأنا متم لك على نفسي ، والقبط متمون لك على
الصلح الذي صالحتهم عليه وعاقدتهم .
وأما الروم فإني
منهم برئ ، وأنا أطلب إليك أن تعطيني ثلاث خصال . فقال له عمرو: ما هن؟ قال: لا
تنقض بالقبط ، وأدخلني معهم وألزمني ما ألزمتهم ، وقد اجتمعت كلمتي وكلمتهم على ما
عاهدتك عليه ، فهم متمون لك على ما تحب .
وأما الثانية ، فإن
سألك الروم بعد اليوم أن تصالحهم فلاتصالحهم حتى تجعلهم فيئاً وعبيداً ، فإنهم أهل
ذلك ، فإني نصحتهم فاستغشوني ، ونظرت لهم فاتهموني .
وأما الثالثة ،
أطلب إليك إن أنا متُّ ، أن تأمرهم أن يدفنوني في كنيسة أبي يحنس بالإسكندرية .
فأنعم له عمرو بن
العاص بذلك ، وأجابه إلى ما طلب ، على أن يضمنوا له الجسرين جميعاً ، ويقيموا له
الأنزال والضيافة والأسواق والجسور ، ما بين الفسطاط إلى الإسكندرية ، ففعلوا ،
وصارت القبط أعواناً للمسلمين على الروم » . ونهاية الإرب:19/301.
إن أي عاقل يقرأ
هذه الحقائق ، لايمكنه أن يقبل ما ادعاه عمرو العاص ورواة السلطة بعد ذلك ، من
معارك مخترعة في فتح مصر !
وإني لأعجب لبعض
الباحثين ،كيف يخالف عقله ، فيسرد المعارك والبطولات المزعومة ، مصدقاً بأنها وقعت
في فتح مصر مع القبط أو الروم ، مع أنه يروي ما يناقضها وينفيها !
0 تعليقات