عندما كان الرجل يرتدي الحجاب
خالد الأسود
في العصر الأموي والعصر العباسي كانت العمامة هي غطاء
الرأس الذي يرتديه الجميع، وميَّز الأمراء ورجال الدين أنفسهم بلفات وألوان
مختلفة..
ظهر الطربوش في الدولة العثمانية في عهد الخليفة محمود
الثاني ١٨٢٥م، وانتقل في نفس التوقيت إلى إلاية مصر في عهد محمد علي باشا كغطاء
رأس يميز رجال السلطة والدولة بعيدا عن عمائم الشيوخ، ويختلفون في أصل الطربوش التاريخي،
بعضهم يرى أن أصله بلاد النمسا في حين يرى آخرون أنه جاء من بلاد المغرب، وربما
يكون منشأه في بلاد الأتراك أنفسهم.
انتشر الطربوش الأحمر فوق رؤوس المصريين وأصبح غطاء للرأس
يميز طبقة الأفندية وموظفي الحكومة عن رجال الدين وعمائمهم..
ثورة الدراعمة:
أُنشئت مدرسة دار العلوم عام ١٨٧٢م لتكون معهدا يمزج
العلوم الدينية التقليدية بالعلوم الحديثة كآداب اللغة والتاريخ والكيمياء.
التزم طلابها بالزي الأزهري التقليدي من جبة وقفطان وعمامة
طيلة نصف قرن.
ركب طه حسين الباخرة من ميناء الإسكندرية متجها إلى فرنسا،
خلع العمامة الأزهرية من فوق رأسه وألقى بها في مياه البحر كان يشعر أنه قد انعتق
من قيود الأزهر التي حرمته العلم والتفكير ووصفها بالسجن الثقيل، عمل رمزي قام به
الفتى النابه ولكنه ألهم الكثيرين ليتمردوا على العمامة وما تمثله من صورة نمطية.
عام ١٩٢٥م تبدأ مجموعة صغيرة من طلبة مدرسة دار العلوم
تخلع العمامة من على رأسها وترتدي الأزياء العصرية وتستبدل بالعمامة التقليدية
طربوش الأفندية..
يزداد عدد الطلاب الثائرين على العمامة حتى يصل عددهم ٤٠٠
طالب من أصل ٥٠٠ طالب كانوا يدرسون في دار العلوم، يصطدمون برفض صارم من مدير
المدرسة، يرفض وزير المعارف علي زيور آنذاك هذا التمرد، يصدر شيخ الأزهر بيانا
شديد اللهجة يحذر فيه من هذه البدعة الدرعمية..
تضع الحكومة رجال الأمن أمام أبواب المدرسة ليمنعوا دخول
أي طالب بغير الزي الأزهري التقليدي والعمامة المقدسة.
يلجأ الطلاب الدراعمة لحيلة طريفة، فيرتدون الزي التقليدي
فوق الملابس العصرية ويخفون الطرابيش بين طيات ثيابهم، وبمجرد دخولهم المدرسة
يخلعون القفاطين ويضعون الطرابيش فوق الرؤوس بدلا من العمائم، يعلنون دخولهم في
اعتصام مفتوح حتى تسمح لهم الحكومة بارتداء الزي الذي يرتأونه.
تلجأ الحكومة إلى قطع المياه والكهرباء عن الطلبة
المعتصمين داخل مدرستهم لتجبرهم على إنهاء اعتصامهم، كانت كل القوى تدرك رمزية هذا
التمرد، الحرية تبدأ بخطوة، تكاتف الجميع ضد الطلاب، القصر، الحكومة، الأزهر..
تنتهي المعركة بانتصار الطربوش على العمامة، وتعترف
الحكومة بحق طلاب مدرسة دار العلوم في ارتداء الطربوش بدلا عن العمامة، ويصمت
الأزهر مغصوبا.
ثورة القبعات
في عام ١٩٢٦ يستلهم عدد من طلبة المدارس العليا مثال طه
حسين ثانية ويدعون لخلع الطرابيش وارتداء القبعات الأوروبية الأنسب لأجواء مصر
وشمسها المحرقة، لم يكن أتاتورك في تركيا واتجاهه لتحديث بلاده غائبا عن المشهد.
كانت نزعة الحرية أوسع مجالا هذه المرة، ترتبط بأهداف
تنموية وثقافية تهدد كامل المنظومة الحاكمة والمنتفعين منها جميعا، يتحرك نواب
البرلمان رافضين هذه البدعة، يصدر شيوخ الأزهر بيانا قالوا فيه:
إن ارتداء القبعة حرام باتفاق المذاهب الأربعة، وجمهور أهل
السنة، وإنه يحرم على المسلمين ارتداء أزياء الكفار.
ينبري الكاتب مصطفى صادق الرافعي يهاجم القبعة الغربية
ويعتبرها بدعة أهل الانحلال الاجتماعي للتحرر من قيود الدين والأخلاق.
حتى حزب الوفد يحرك نوابه في البرلمان دفاعا عن قدسية
الطربوش فوق رأس المسلم الملتزم.
يصبح الطربوش رمزا للقيم المصرية والدين والأخلاق الفاضلة،
ويستمر المجتمع يستنزف طاقاته وعقول مفكريه في صراع حول العمة والطربوش والقبعة..
يلتزم الموظفون وطلبة المدارس بوضع الطربوش على رؤوسهم كزي
رسمي لا يجرؤ أحد محترم على نبذه..
بعد معاهدة ٣٦ وزيادة عدد جنود الجيش المصري، يبدأ سلاح
الطيران استحداث نوعين من الكابات بمظلة أمامية تحمي الطيارين من أشعة الشمس..
أسموا النوع الأول الصيفي الفؤادية، وأسموا النوع الثاني
الشتوي الفاروقية، انتقلت الكابات من سلاح الطيران وعُممت في سائر الأسلحة، ربما
لاسمها المرتبط بملك البلاد الأمر الذي قيد المقاومة المعتادة.
ويظهر غطاء رأس جديد يشير إلى طبقة مصرية جديدةمن
العسكريين المصريين.
تأتي ثورة ١٩٥٢ ليخلع الرجال جميعا أغطية الرأس متخلصين من
الطقس الوثني المتوارث، في إشارة لعهد جديد نال فيه المصريون حرياتهم وحقوقهم
ورفعت عن كواهلهم خرافات الرجعية.
في الحقيقة أن غطاء الرأس هو طقس وثني امتد عبر العصور،
قديما نظر الإنسان البدائي إلى شعر الرأس كرمز للقوة والخيلاء، فرضت الطقوس
الوثنية إخفاء الشعر بغطاء دلالة على الخضوع والتبجيل..
كهنة المعابد الوثنية حلقوا شعر رؤوسهم تماما في إشارة
للعبودية التامة أمام سلطان الآلهة..
فرض الطقس الوثني نفسه على جميع شعوب الأرض في مظاهر
مختلفة، فأحيانا يظهر في صورة قبعة، وأحيانا نراه باروكة يضعها رجال العصور الوسطى
في أوروبا، نراه في الغترة والعقال والطربوش والعمامة..
مهما اختلفت صوره يكون له رمزية وقداسة قد يبالغ فيها بعض
ذوي النزعة المحافظة فيجعلونه جزءا رئيسا في الدين.
لم تنته معركة الأزياء في مصر بعد ثورة ٥٢.
يطلب مأمون الهضيبي مرشد جماعة الإخوان من الرئيس عبد
الناصر أن يصدر قانونا للنساء المصريات يلزمهن بغطاء رأس يضعنه جميعا، يحكي عبد
الناصر في إحدى خطبه الشهيرة مطالب المرشد فينخرط الجمهور في ضحك ساخر ويطالب
أحدهم المرشد متهكما أن يرتدي هو نفسه الطرحة..
لا تتوقف المحاولات الإخوانية في الستينيات، يحاول الشيخ
الإخواني محمد الغزالي المطالبة بالتخلص من كل القوانين المدنية القادمة من الغرب
وفرض أزياء دينية موحدة على الشعب..
يعطي الصحفي القوي محمد حسنين هيكل رئيس تحرير جريدة
الأهرام إشارة البدء بالرد للفنان العبقري صلاح جاهين..
يرسم الفنان كاريكاتيرا ساخرا من الغزالي وهو يخطب في
الجماهير:
يجب أن نلغي كل القوانين القادمة من الخارج كالقانون
المدني وقانون الجاذبية الأرضية..
ورغم محاولات الغزالي استنفار الأزهر تارة والشكوى لرئاسة
الجمهورية تارة أخرى إلا أن جاهين يستمر(بدعم هيكل) في مقاومة خزعبلات الغزالي
ويكتب زجلا ساخرا بالغزالي وضيق أفقه كاشفا نزعته الاستبدادية وتجارته بالدين:
وهنا يقول أبو زيد الغزالي سلامة
وعينيه ونضارته يطقوا شرار
أنا هازم الستات وملبسهم الطرح
أنا هادم السينمات على الزوار
أنا الشمس لو تطلع أقول إنها قمر
ولو حد عارض يبقى من الكفار
ويا داهية دقي لما أقول فلان دا كفر
جزاؤه الوحيد الرجم بالأحجار
فأحسن لكم قولوا: آمين بعد كلمتي
ولو قلت: الجمبري دا من الخضار
رحم الله جاهين رحم الله هيكل رحم الله ناصر..
ذهبوا جميعا وجاء الرئيس المؤمن كبير القبيلة، ألبسنا
رجالا ونساء الطرح، أصبح الإخواني محمد الغزالي هو شيخ الإسلام الوسطي حتى وهو
يشارك في قتل المفكر الشهيد فرج فودة..
خرج علينا الكلاب يعوون كالذئاب في ثياب الواعظين؛ لنرجع
مئة عام ونظل نتساءل ماذا نضع على رؤوسنا..
تستهلكنا الهموم الوثنية، تستنزف طاقاتنا وأفكارنا، نظل
نجاهد كهنة المعابد بلا جاهين وبلا طه حسين وبلا دراعمة، بنخبة مدعية موبوءة مكللة
بالعمالة غالبا والبلاهة أحيانا..
0 تعليقات