تاريخ المأتم الحسيني
عاشوراء فى بغداد:
لقد استولى البويهيون على
مدينة بغداد سنة (334هـ)، وبناءً على المصادر التاريخية، قد شهدت بغداد إقامة
المآتم الحسينية في يوم عاشوراء من سنة (352 هـ)، أي: في عهد معزّ الدولة الديلمي
(الحكم: 334ـ 358). وتخلو المصادر التاريخية من أيّ إشارة إلى إقامة (المآتم في يوم
عاشوراء ببغداد قبل هذه السنة)
وعلى هذا؛ فقد رأى الكثير من
الباحثين أنّ ملوك بني بويه هم أول مَن قام بنشر مراسم عاشوراء في الوسط
الشيعي[3]، بينما يرى السيّد صالح الشهرستاني في كتابه (تاريخ النياحة على الإمام
الحسين عليه السلام )، أنّ الأُمراء البويهيين لم يكونوا أوّل مَن أقام النياحة والعزاء
والمآتم على الإمام الحسين عليه السلام ، ولكنّهم كانوا أوّل مَن وسّعها وأخرجها
من دائرة النواح الضيقة في البيوت والمجالس الخاصة إلى دائرة الأسواق العلنية
والشوارع. ويرى هذا الباحث أن المأتم الذي أُقيم في عهد معزّ الدولة في سنة
(352هـ) لم يكن الأوّل في بغداد، بل كان أوّل مأتم عام في الأسواق والشوارع ببغداد
فهناك نصوص تاريخية تدل على
إقامة العزاء والنياحة على الإمام الحسين عليه السلام من قِبَل الشيعة في بغداد
قبل هذا التاريخ، وإن لم يُحدَّد أنها كانت في أيام عاشوراء. فمن هذه النصوص ما
ذكره ابن حجر العسقلاني (ت 852هـ) في ترجمة شاعر أهل البيت عليهم السلام علي بن
عبد الله بن وصيف الحَلَّاء، المعروف بالناشئ الصغير، من أنّ الشيعة ببغداد في سنة
(246هـ) ناحوا على الإمام الحسين عليه السلام بقصيدة للناشئ إلى الظهر، وقد لَطَم
الشاعر على وجهه لطماً عظيماً
كما أشار التنوخي (ت 384هـ) إلى شاعر آخر اسمه (ابن أصدق)، كان عمله النياحة على الإمام الحسين عليه السلام [6]، وذكر أن البربهاري (ت 329هـ)، الفقيه الحنبلي، أمر بقتل نائحة يُقال لها (خِلْب)، كانت تنوح على الإمام الحسين عليه السلام ، وكان الناس لا يستطيعون النياحة على الحسين عليه السلام إلّا سرّاً أو بعزّ سلطانٍ؛ خوفاً من الحنابلة. وتابع التنوخي أن: النوح لم يكن إلّا مراثي الحسين وأهل البيت عليهم السلام فقط، من غير تعريض بالسلف
أما فيما يتعلّق بإقامة عزاء
عاشوراء ببغداد في العهد البويهي، فقد ذكر المؤرّخ البغدادي ابن الجوزي (ت 597هـ)
في حوادث سنة (352هـ): «أنه في اليوم العاشر من المحرم أُغلقت الأسواق ببغداد،
وعُطِّل البيع، ولم يذبح القصابون [ولا طبخ الهراسون] ولا تُرك الناس أن يستقوا
الماء، ونُصبت القباب في الأسواق، وعُلقت عليها المسوح... وأُقيمت النائحة على
الحسين عليه السلام
ويزوّدنا المؤرّخ ابن الأثير
(ت 630هـ) بتفاصيل أُخرى عن مآتم عاشوراء في بغداد أُقيمت في هذه السنة آنفة
الذكر، حيث يقول في تاريخه: «في هذه السنة عاشر المحرّم أمر معزّ الدولة الناس أن
يُغلقوا دكاكينهم، ويُبطلوا الأسواق والبيع والشراء، وأن يُظهروا النياحة، ويلبسوا
قباباً عملوها بالمسوح، وأن يخرج النساء... مُسوّدات الوجوه، قد شققن ثيابهنّ،
يدرن في البلد بالنوائح، ويلطمن وجوههنّ على الحسين بن علي(رضي الله عنهما). ففعل
الناس ذلك، ولم يكن للسنّية قدرة على المنع منه؛ لكثرة الشيعة، ولأن السلطان معهم
وقد أشار ابن الجوزي إلى ما
اعتاده الشيعة في يوم عاشوراء من تعطيل الأسواق، وإقامة النوح واللّطم، وتعليق
المسوح؛ وذلك في حوادث السنوات من (354هـ)إلى (361 هـ)[10]، ويدل هذا على أن إقامة
ذكرى عاشوراء قد تحوّلت إلى عادة جارية ومستمرة، ظل يعمل بها الشيعة في كل سنة.
ولكن بسبب الفتن التي كانت تشهدها بغداد من حين لآخر، قام بعض نوّاب أو وزراء الملوك البويهيين بمنع إقامة المآتم الحسينية في أيام عاشوراء في بعض الأعوام، فقد ذكر ابن الجوزي في حوادث سنة 382هـ: «أن أبا الحسن علي بن محمد الكوكبي المعلم كان قد استولى على أُمور السلطان كلها، ومنع أهل الكرخ وباب الطاق من النوح في عاشوراء وتعليق المسوح كما ورد أيضاً في أخبار سنة (393هـ)، أنّ عميد الجيوش (ت 401هـ) منع في يوم عاشوراء أهل الكرخ وباب الطاق من النوح في المشاهد وتعليق المسوح في الأسواق، فامتنعوا، كما «منع أهل باب البصرة وباب الشعير من مثل ذلك، فيما نسبوه إلى مقتل مصعب بن الزبير بن العوام
وبما أنّ قرار المنع الأوّل ـ فيما يبدو ـ لم يدُم إلا سنة واحدة، أي: (382هـ)، فقد جاء قرار المنع الآخر في سنة (393هـ) لإيقاف الشيعة عن القيام بإحياء مراسم عاشوراء مدّة عقد كامل، إلى أن أذِنَ فخر الملك (ت 407هـ) لأهل الكرخ وباب الطاق في عمل عاشوراء سنة (402هـ)، «فعلّقوا المسوح، وأقاموا النياحة في المشاهد وهكذا ظلّت مراسم عاشوراء تُقام بشكل متقطّع بين الترخيص والمنع من حين لآخر.
ويبدو أنّ دخول السلاجقة بغداد ـ مع أنّهم معروفون بتصلّبهم الطائفي وتعصّبهم على التشيّع ـ لم يمنع الشيعة من إقامة ذكرى عاشوراء بين الحين والآخر. فقد ذكر ابن الجوزي في حوادث سنة (458هـ): «أنّ أهل الكرخ أغلقوا دكاكينهم يوم عاشوراء، وأحضروا نساءً، فنُحنَ على الحسين عليه السلام على ما كانوا قديماً يستعملونه
أما فيما يتعلّق بالعصر
العباسي المتأخر، فقد أشار الذهبي إلى ظهور الرفض ببغداد في أيام عاشوراء سنة
(561هـ) ولا شك في أنّ ما يعنيه الذهبي من (ظهور الرفض) هو إقامة المآتم الحسينية؛
إذ ذكر هو أيضاً في ترجمة رضي الدين أحمد بن إسماعيل الطالقاني (ت 590هـ) أنه عند
ظهور التشيع في زمانه التمس منه (العامة على المنبر يوم عاشوراء ) أن يلعن يزيد
فتدل هذه النصوص على أن إحياء يوم عاشوراء ظلّ مستمراً حتّى العهود العباسية
المتأخّرة.
وثمّة نصوص تفيد أنّه في نهايات العصر العباسي، اتخذ المستعصم بالله (الخلافة: 640ـ 656) ـ وهو آخر الخلفاء العباسيين ـ قراراً بمنع قراءة المقتل في يوم عاشوراء ببغداد، فقد ذكر صاحب الحوادث الجامعة في حوادث سنة (641هـ): أن الخليفة تقدّم «إلى جمال الدين عبد الرحمن بن الجوزي المحتسب، بمنع الناس من قراءة المقتل في يوم عاشوراء، والإنشاد في سائر المحال بجانبي بغداد، سوى مشهد موسى بن جعفر عليهما السلام . وذكر في حوادث سنة (648هـ): أنّ الخليفة في محرم هذه السنة تقدّم أيضاً «بمنع أهل الكرخ والمختارة من النياحة والإنشاد، وقراءة مقتل الحسين.
مراسم العزاء في القاهرة
شهدت مصر انتشاراً مبكّراً
للتشيّع قبل العهد الفاطمي، فقد ذكر المؤرّخ أبو محمد الحسن بن إبراهيم الليثي
المصري المعروف بابن زولاق (ت 387هـ)، أنّ أهل مصر كانوا يكتبون بمسائلهم إلى جعفر
بن محمد الصادق عليه السلام ، ولا يعدلون عن فتياه، كما ذكر أيضاً عدداً من
البيوتات المعروفة بالتشيّع، وأعلام الشيعة بمصر في القرن الثالث الهجري.
وثمَّة نص تاريخي يفيد أن
سابقة إحياء يوم عاشوراء ترجع ـ على الأقل ـ إلى قُبيل العصر الفاطمي، وبالتحديد
إلى أيام حكم الإخشيد محمد بن طغج
(الحكم: 333ـ334)، ثم خادمه
كافور (الحكم: 355ـ357)، إنّ لم تكن ترجع إلى قبل ذلك؛ فقد نقل المقريزي عن ابن
زولاق ـ ويبدو أن هذا النص مأخوذ من كتابه المفقود (سيرة المعزّ لدين الله) ـ:
«وكانت مصر لا تخلو من الفتن في يوم عاشوراء عند قبر كلثم ونفيسة بنت الحسن بن زيد
بن الحسن بن علي بن أبي طالب في الأيام الإخشيدية والكافورية، وكان سودان كافور
يتعصبون على الشيعة، ويتعلّق السودان في الطرق بالناس، ويقولون للرجل: مَن خالك؟
فإن قال: معاوية، أكرَموه، وإن سكت لقي المكروه، وأُخذت ثيابه وما معه، حتّى كان
كافور يوكل بأبواب الصحراء، ويمنع الناس من الخروج
هذا، وقد أفادنا مؤرّخو مصر بأخبار توضح كيفية إحياء ذكرى عاشوراء بمدينة القاهرة في العصر الفاطمي، حيث عبّروا عنها بـ(حزن عاشوراء)؛ ومن الواضح أنّ لهذه التسمية دلالتها على أهم خصوصية ليوم عاشوراء، وهي (الحزن) على مصائب الإمام الحسين وأهل بيته عليهم السلام . ومع أنّ تأليفات بعض هؤلاء المؤرّخين لم تصل إلينا، بل وصلتنا أخبارهم وأقوالهم بواسطة الآخرين ـ وبخاصة المقريزي ـ تبقى هذه النصوص والأخبار ذات أهمية بالغة؛ لما تتضمّنه من معلومات وتفاصيل هامة حول مراسم عاشوراء خلال العهد الفاطمي.
فقد نقل المقريزي عن ابن زولاق، أنه في يوم عاشوراء من سنة (363هـ) ـ أي: العام الأوّل من دخول الخليفة المعزّ لدين الله (الحكم: 341ـ365) القاهرة ـ قام الشيعة بالنياحة والبكاء على الحسين عليه السلام عند مشهدي السيّدتين كلثوم ونفيسة؛ وكادت تتحوّل إلى فتنة بين الشيعة والسُّنة. وإليك النصّ الحرفي لما نقله المقريزي عن ابن زولاق: «في يوم عاشوراء من سنة ثلاثة وستين وثلاثمائة، انصرف خلق من الشيعة وأشياعهم إلى المشهدين: قبر كلثم، ونفيسة، ومعهم جماعة من فرسان المغاربة ورجالتهم، بالنياحة والبكاء على الحسين عليه السلام ... ونزلوا حتّى بلغوا مسجد الربح، وثارت عليهم جماعة من رعية أسفل، فخرج أبو محمد الحسين بن عمار، وكان يسكن هناك في دار محمّد بن أبي بكر، وأغلق الدرب، ومنع الفريقين، ورجع الجميع، فحسن موقع ذلك عند المعزّ، ولولا ذلك لعظمت الفتنة؛ لأن الناس قد أغلقوا الدكاكين وأبواب الدور، وعطّلوا الأسواق، وإنما قويت أنفس الشيعة بكون المعزّ بمصر
أما النص التاريخي الآخر فهو
للمؤرّخ الإسماعيلي (عِزُّ الملك المُسَبِّحي)
(ت 420هـ)، ويرجّح أنه منقول
من كتابه المفقود (أخبار مصر)، حيث يذكر تفاصيل عن إقامة مآتم يوم عاشوراء في سنة
(396 هـ)، أي: في أيام الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله (الحكم: 386-411هـ)،
ويفيد هذا النص أنّ الأسواق في هذا اليوم كانت تتعطّل، ويخرج المنشدون إلى جامع
القاهرة، ويجتمع الناس بالنوح والنشيد.
وذكر المقريزي في أخبار شهر
محرم سنة (404هـ)، أنّ الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله، «أمر بغلق سائر
الدواوين، وجميع الأماكن التي تُباع فيها الغلال والفواكه وغيرها، ثلاثة أيام من
آخر حزن عاشوراء؛ فلما كان يوم عاشوراء أُغلِقت سائر حوانيت مصر والقاهرة بأسرها
إلا حوانيت الخَبّازين. ونزل الذين عادتُهم النزول في يوم عاشوراء إلى القاهرة من
المنشدين وغيرهم، أفراداً غير مجتمعين ولا متكلّمين، فما اجتمع اثنان في موضع.
وذكر المؤرّخ ابن تغري بردي (ت
874هـ) في سيرة الخليفة المستعلي بالله الفاطمي (الحكم: 487-495هـ) أنه «كان يبالغ
في النّوح والمأتم، ويأمر الناس بلبس المسوح، وغلق الحوانيت، واللّطم والبكاء
زيادة عمّا كان يفعله آباؤه»[29]. وذكر المقريزي في موضع آخر أنّ الفاطميين كانوا
يتخذون يوم عاشوراء، يوم حزن، تتعطل فيه الأسواق، ويُعمل فيه السماط العظيم
المسمّى (سماط الحزن).
أما فيما يتعلّق بإحياء ذكرى
عاشوراء في البلاط الفاطمي في النصف الأوّل من القرن السادس الهجري، فقد ذكر
الأمير جمال الدين موسى بن محمد البطائحي المعروف بابن المأمون (ت 588هـ) في كتابه
(أخبار مصر) تفاصيل حول إقامة (سماط الحزن) في يوم عاشوراء خلال ثلاث سنوات على
التوالي، هي (515 هـ) إلى (517هـ)، وقد نقل المقريزي هذه التفاصيل في خططه.
ففيما يتعلّق بيوم عاشوراء من
سنة (515هـ)، ذكر أنه: «عُبِّئ السماط بمجلس العطايا من دار الملك بمصر، التي كان
يسكنها الأفضل بن أمير الجيوش، وهو السماط المختص بعاشوراء، وهو يُعبئ في غير
المكان الجاري به العادة في الأعياد، ولا يعمل مدورة خشب، بل سفرة كبيرة من أدم،
والسماط يعلوها من غير مرافع نحاس، وجميع الزبادي أجبان وسلائط ومخلّلات، وجميع
الخبز من شعير، وخرج الأفضل من باب فردالكم، وجلس على بساط صوف من غير مشورة،
واستفتح المقرئون، واستدعى الأشراف على طبقاتهم، وحُمل السماط لهم، وقد عُمل في الصحن
الأوّل الذي بين يدي الأفضل إلى آخر السماط عدس أسود، ثمّ بعده عدس مصفّى إلى آخر
السماط، ثمّ رُفع وقدّمت صحون جميعها عسل نحل
وفيما يتعلّق بسنة (516هـ)
تابع بالقول: «ولما كان يوم عاشوراء من سنة ست عشرة وخمسمائة، جلس الخليفة الآمر
بأحكام الله على باب الباذهنج ـ يعني من القصرـ بعد قتل الأفضل وعود الأسمطة إلى
القصر على كرسي جريد بغير مخدّة، متلثماً هو وجميع حاشيته، فسلَّم عليه الوزير
المأمون وجميع الأُمراء الكبار والصغار بالقراميز، وأذن للقاضي والداعي والأشراف
والأُمراء بالسلام عليه، وهم بغير مناديل ملثمون حفاة، وعُبِّئ السماط في غير
موضعه المعتاد، وجميع ما عليه خبز الشعير والحواضر على ما كان في الأيام الأفضلية،
وتقدّم إلى والي مصر والقاهرة بأن لا يمكِّنا أحداً من جمع ولا قراءة مصرع الحسين،
وخرج الرسم المطلق للمتصدّرين والقرّاء الخاص والوعاظ والشعراء وغيرهم على ما جرت
به عاداتهم.
وذكر في حوادث سنة (517هـ):
«وفي ليلة عاشوراء من سنة سبع عشرة وخمسمائة اعتمد الأجل الوزير المأمون على
السنّة الأفضلية من المضي فيها إلى التربة الجيوشية، وحضور جميع المتصدّرين
والوُعّاظ وقُرّاء القرآن إلى آخر الليل، وعوده إلى داره، واعتمد في صبيحة الليلة
المذكورة مثل ذلك، وجلس الخليفة على الأرض متلثماً يُرى به الحزن، وحضر مَن شُرّف
بالسلام علىه، والجلوس على السماط بما جرت به العادة»[33].
أما المؤرّخ عبد السلام بن
الحسن القيسراني، المعروف بابن الطوير (ت 617هـ)، فقد ذكر تفاصيل هامة عن إقامة
ذكرى عاشوراء في نهايات العصر الفاطمي، وهذه التفاصيل نقلها المقريزي في خططه عن
ابن الطوير، كما نقلها أيضاً ابن تغري بردي، ولكن دون أن يُشير إلى أن مصدر هذا
الخبر هو ابن الطوير، وبما أن كلام ابن تغري بردي يتضمّن تفاصيل أكثر مما ذكره
المقريزي، ننقل هذا النص عن ابن تغري بردي، وهو كما يلي:
«إذا كان اليوم العاشر من
المحرّم، احتجب الخليفة عن الناس، فإذا علا النهار ركِب قاضي القضاة والشهود، وقد
غيّروا زِيَّهم ولبسوا قماش الحزن، ثمّ صاروا إلى المشهد الحسيني، وكان قبل ذلك
يُعمل المأتم بالجامع الأزهر. فإذا جلسوا فيه بمن معهم من الأُمراء والأعيان
وقُرّاء الحضرة والمتصدّرين في الجوامع، جاء الوزير فجلس صدراً، والقاضي وداعي
الدُّعاة من جانبيه، والقُرّاء يقرأون نَوْبةً بنَوْبة، ثم يُنْشِد قومٌ من
الشعراء ـ غير شعراء الخليفة ـ أشعاراً يرثون بها الحسن والحسين وأهل البيت عليهم
السلام ، وتَصيح الناس بالضجيج والبكاء والعَويل... ولا يزالون كذلك حتّى تمضي
ثلاث ساعات، فيُسْتَدْعَوْن إلى القصر عند الخليفة بنقباء الرسائل، فيركب الوزير
وهو بمنديل صغير إلى داره، ويدخل قاضي القضاة والداعي ومَن معهما إلى باب الذهب
فيجدون الدهاليز قد فُرِشت مصاطبها بالحُصُر والبُسُط، ويُنْصب في الأماكن الخالية
[من المَصاطِب] دِكَك لتُلحق بالمصاطب وتُفرش. ويجدون صاحب الباب جالساً هناك،
فيجلس القاضي والداعي إلى جانبه، والناس على اختلاف طبقاتهم، فيقرأ القُرّاء
ويُنشِد المنشدون أيضاً، ثمّ يُفرَش وسط القاعة بالحصر المقلوبة، ثمّ يُفْرش عليها
(سِماط الحُزن) مقدار ألف زبدية من العدس والملوحات والمخلَّلات، والأجبان
والألبان الساذجة، وأعسال النحل والفَطير والخُبز المُغَيَّر لونُه بالقصد لأجل
الحزن. فإذا قرب الظهر وقف صاحب الباب وصاحب المائدة، وأُدْخِلَ الناس للأكل من
السماط، فيدخل القاضي والداعي، ويجلس صاحب الباب (نيابةً عن الوزير، والمذكوران
إلى جانبه) ومن الناس مَن لا يدخل من شدّة الحزن، فلا يُلزَم أحدٌ بالدخول، فإذا
فرغ القوم انفصلوا إلى أماكنهم ركباناً بذلك الزيّ الذي ظهروا فيه من قماش الحزن،
وطاف النُوّاح بالقاهرة من ذلك اليوم، وأغلق البَيّاعون حوانيتهم إلى بعد العصر،
والنوح قائم بجميع شوارع القاهرة وأزقّتها. فإذا فات العصر يفتح الناس دكاكينهم،
ويتصرّفون في بيعهم وشرائهم
وذكر المقريزي أن الفاطميين كانوا ينحرون في يوم عاشوراء عند القبر ـ أي: مدفن رأس الإمام الحسين عليه السلام ـ الإبل والبقر والغنم، ويُكثرون النوح والبكاء، ويسبّون مَن قتل الحسين. كما ذكر أنه كان يزور الناس في يوم عاشوراء مشهد رأس زيد بن علي عليه السلام المعروف خطأً بمشهد زين العابدين عليه السلام.
أما فيما يتعلّق بمصير مراسم
ومآتم يوم عاشوراء في مصر بعد زوال الدولة الفاطمية، فقد ذكر المقريزي أنه: «اتخذ
الملوك من بني أيوب يوم عاشوراء يوم سرور، يوسّعون فيه على عيالهم، ويتبسطون في
المطاعم، ويصنعون الحلاوات، ويتخذون الأواني الجديدة، ويكتحلون ويدخلون الحمام،
جرياً على عادة أهل الشام التي سنَّها لهم الحجاج في أيام عبد الملك بن مروان؛
ليرغموا بذلك آناف شيعة علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، الذين يتخذون يوم عاشوراء
يوم عزاء وحزن فيه على الحسين بن علي؛ لأنه قُتل فيه. وقد أدركنا بقايا مما عمله
بنو أيوب من اتخاذ يوم عاشوراء يوم سرور وتبسط.
مراسم العزاء في حلب:
انتشر التشيّع في مدينة حلب
منذ القرن الرابع الهجري، منذ فترة الحكم الحمداني (333-407هـ)، ثم شهد التشيّع
ازدهاراً كبيراً بهذه المدينة خلال القرن الخامس الهجري في ظل حكم بني مرداس
(414-471هـ)، حيث تحوّل الشيعة إلى الفئة الغالبة في هذا العصر. وقد ذكر ابن
بُطلان (ت 458هـ) في كتاب كتبه إلى هلال بن المحسن الصابئ، أن الفقهاء بحلب يفتون
على مذهب الإمامية وقد استمر انتشار التشيّع بحلب طوال القرن السادس، بل في القرن
السابع أيضاً.
ومع أنّ حلب كانت من أهم مدن الشيعة خلال القرن الرابع إلى السادس، فإنّه لم ترد نصوص تاريخية تذكر تفاصيل واضحة حول إحياء مراسم عاشوراء بحلب، ولا سيّما في فترة ازدهار التشيّع بها في القرن الخامس الهجري.
نعم، هناك مؤشرات إجمالية نستفيدها مما أشار إليه المؤرّخ ابن العديم الحلبي (ت660هـ) حول القضية التي وقعت للفقيه السنّي سالم بن علي بن تميم الكفرطابي (ت بعد سنة 465هـ) مع الشيعة بحلب، وذلك في يوم عاشوراء عند خزانة الكتب بجامع حلب...[43]؛ مما يوحي أنه كان للشيعة بحلب في يوم عاشوراء مراسم خاصة، لم تصلنا تفاصيل عنها.
كما ذكر المؤرّخ الحلبي الشيعي
ابن أبي طي (ت630هـ) أنه بعد أن اتخذ السلطان نور الدين محمود بن زنكي قراره بمنع
شعائر الشيعة بحلب في عام 543هـ، اجتمع الشيعة وعملوا (عاشوراء)، وكان هذا سبباً
لقيام نور الدين بنفي عدد من وجوه وأعيان الشيعة وإخراجهم من المدينة.
ونستنتج من هذا النص: أن إحياء ذكرى عاشوراء كانت عادة جارية بحلب، بحيث اضطر السلطان إلى إصدار قرار منع لإقامة مراسم العزاء، ولشهرتها ومعروفيتها فإن قرار منع شعائر الشيعة من قبل نور الدين محمود لم يمنع الشيعة من القيام بها.
أما في القرن السابع الهجري، فمن المؤكد أيضاً أن الشيعة بحلب كانوا يقيمون المآتم الحسينية في يوم عاشوراء؛ وما يدل على ذلك أبيات باللغة الفارسية للشاعر الفارسي الشهير جلال الدين الرومي، أشار فيها بوضوح إلى اجتماع الشيعة بحلب في يوم عاشوراء عند باب أنطاكية ـ من أبواب حلب القديمة ـ حيث كانوا يقومون بالعزاء والنياحة والبكاء.
أما فيما يتعلّق بالفترة
المتأخّرة، وبالتحديد منذ النصف الثاني من القرن الثالث عشر الهجري، فقد كانت تقام
في مشهد الحسين عليه السلام بحلب، في يوم عاشوراء من كلّ سنة، حفلة دينية تُتلى
فيها قصة المولد النبوي، ويُطبخ فيها طعام الحبوب وغيره من الأطعمة، ويجلس على
موائدها المدعوون من رجال الحكومة والعلماء والأعيان والوجهاء.
مراسم العزاء في دمشق
لقد شهدت مدينة دمشق ـ كغيرها
من مدن بلاد الشام ـ خلال فترة الحكم الفاطمي، انتشاراً للتشيع بفروعه وفرقه
المختلفة، وقد أشار إلى هذا الواقع الرحّالة ابن جبير (ت 614هـ) في رحلته، حيث ذكر
عند وصفه لدمشق ـ وقد زارها في سنة (580 هـ) ـ «للشيعة في هذه البلاد أُمور عجيبة،
وهم أكثر من السنّيين بها، وقد عمّروا البلاد بمذاهبهم، وهم فِرَق شتّى: منهم
الرافضة، وهم السبّابون، ومنهم الإمامية والزيدية، وهم يقولون بالتفضيل خاصة،
ومنهم الإسماعيلية والنصيرية ....
ولكن كما تقدّم في حديثنا حول
مدينة حلب فإنّه لم تصلنا أيضاً نصوص تاريخية حول قيام الشيعة بإحياء ذكرى عاشوراء
بدمشق في العصور المتقدمة.
نعم، هناك بعض النصوص التي توحي أنه في القرن السابع الهجري كان ليوم عاشوراء ميزة وخصوصية عندهم، فقد ذكر ابن كثير (ت 774هـ) في ترجمة سبط ابن الجوزي (ت 654هـ)، أنه: «سُئِلَ يومَ عاشوراء زمن الملك الناصر صاحب حلب أن يذكرَ للناس شيئاً من مقتل الحسين، فصعِد المنبر، وجلس طويلاً لا يتكلّم، ثمّ وضع المنديل على وجهه وبكى، ثم أنشأ يقول، وهو يبكي شديداً:
ويلٌ لمن شُفعاؤهُ خُصَماؤُه والصُّورُ في نَشرِ الخلائقِ يُنفَخُ
لا بُدَّ أن تَرِدَ القيامةَ فاطِمٌ وقَميصُها بدمِ الحسينِ مُلَطَّخُ
ثم نزل عن المنبر، وهو يبكي،
وصعد إلى الصالحية، وهو يبكي كذلك
كما وردنا نصّ واحد يتعلّق باجتماع الشيعة لإحياء ذكرى عاشوراء بدمشق في نهاية العصر المملوكي، وبالتحديد في سنة (907هـ)، حيث ذكر المؤرّخ الدمشقي ابن طولون الصالحي (ت 953هـ) في حوادث هذه السنة، أنّ جماعة من الأعجام والقلندرية في يوم عاشوراء اجتمعوا «وأظهروا قاعدة الروافض من إدماء الوجوه وغير ذلك، وقام عليهم بعض الناس وترافعوا إلى نائب الغيبة.
أما فيما يتعلّق بالفترة
المتأخّرة، فقد أفادنا نعمان قساطلي، الذي عاش في القرن الثالث عشر الهجري، أنّ
الشيعة في نهاية العشر الأُول من محرم كل سنة، كانوا يخرجون لزيارة مقام السيّدة
زينب عليهما السلام ، ويندبون أهل بيت النبي عليهما السلام.
مراسم العزاء في المدينة
المنورة
ترجع سابقة العزاء على الإمام
الحسين عليه السلام في المدينة المنورة إلى الفترة الزمنية التي تلت أحداث عاشوراء
مباشرةً، فإنّ سبايا أهل البيت عليهم السلام بعد رجوعهم من الشام هم أوّل مَن
أقاموا المآتم والمراثي على الإمام الحسين عليه السلام ، في المدينة المنورة، وقد
روي عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام أنّه قال: «نيحَ على الحسين بن علي عليه
السلام سنةً كاملةً كلّ يوم وليلة، وثلاث سنين من اليوم الذي أُصيب فيه»[51].
كما نجد شواهد وأمثلة في سيرة
الأئمّة المعصومين عليهم السلام على إنشاد المراثي، وإقامة العزاء على الإمام
الحسين عليه السلام ، فقد روي أنّ الكميت الأسدي دخل على أبي جعفر محمد بن علي
الباقر عليه السلام في الأيام البيض، واستأذن الإمام عليه السلام في إنشاد أبيات
في أهل البيت عليهم السلام ، فأذن له الإمام فأنشأ يقول:
«أضحكني الدهرُ وأبكاني
والدهرُ ذو صرفٍ وألوانِ
لتسعةٍ بالطفِّ قد غودروا
صاروا جميعاً رهنَ أكفانِ
فبكى الإمام عليه السلام وبكى
الآخرون.
وذكر أبو الفرج الإصفهاني (ت
356هـ) أن السيّد الحميري دخل على الإمام الصادق عليه السلام ، فاستنشده، فأنشد
قوله الذي أوله:
«اُمْرُرْ عَلَى جَدَث الحسيـن
فَقُلْ لأعْظُمِهِ الزكيّة
فتحدّرت دموع الإمام عليه
السلام على خدّيه، وارتفع الصراخ والبكاء من داره، حتّى أمره بالإمساك فأمسك
أمّا فيما يتعلّق بالقرون الإسلامية
الوسطى، حيث كانت المدينة المنوّرة من المدن التي انتشر التشيّع فيها، فقد ذكر
المؤرّخ ابن العديم في تاريخه حكاية يظهر منها أن الشيعة الإمامية كانت تجتمع في
يوم عاشوراء من كلّ سنة لقراءة المصرع ـ أي: مقتل الإمام الحسين عليه السلام ـ عند
قبة العباس بن عبد المطلب بمقبرة البقيع، وهي القبة التي تضمّ قبور أربعة من
الأئمّة الاثني عشر، هم: الإمام الحسن بن علي، والإمام زين العابدين، والإمام محمد
الباقر، والإمام جعفر الصادق عليهم السلام [54]. ولم يذكر ابن العديم تاريخاً
لأحداث حكايته، ولكن بما أنه نقلها عن صاحب الحكاية بواسطة واحدة، نظنّ أن توقيتها
يرتبط بالقرن السادس الهجري على الأرجح، وربما بداية القرن السابع.
ولا شكّ في أنّ ظاهرة العزاء
وإقامة المآتم الحسينية استمرّت في المدينة المنورة إلى العهود المتأخّرة، وقد
أعدّ المرحوم عبد الرحيم الحربي كتاباً جمع فيه أسماء وتراجم خطباء المنبر الحسيني
في المدينة المنورة خلال القرنين (14و15هـ)، وذكر في ترجمة الشيخ عبد المنعم بن
محمد الهاجوج (ت 1400هـ) أنه كان ينزل بعد قراءة المقتل الحسيني من على المنبر،
ويقود موكب العزاء حتّى البقيع أمام قبة أهل البيت عليهم السلام ، حيث كانت القبة
مشادة حينذاك قبل الهدم الثاني لها.
نتائج البحث
لقد أشرنا في هذا البحث إلى
أنّ الرأي السائد عند عدد من الباحثين هو أن ملوك بني بويه هم أول مَن قاموا بنشر
شعائر عاشوراء في الوسط الشيعي، ولكن يظهر من بعض النصوص لمؤرخي مصر، أنّ إحياء
الشيعة ليوم عاشوراء في زمن الإخشيديين بمصر، قد سبق عهدي بني بويه والفاطميين
أيضاً. كما أنّ هناك نصوصاً تفيد أنّ الشيعة كانوا يقيمون مجالس النياحة على
الإمام الحسين عليه السلام قبل دخول البويهيين إلى بغداد، وإن كانت هذه المجالس
تقام سرّاً وبالخفاء خوفاً من بطش الحنابلة. ولا شك في أنّ أيام عاشوراء أيضاً
كانت تشهد إقامة مثل هذه المجالس.
ويظهر مما ذكره المؤرّخ ابن
الجوزي حول تفاصيل إقامة ذكرى عاشوراء في كل من السنوات (393هـ) و(402هـ)
و(423هـ)، أنّ أهم مراسم عاشوراء في العهد البويهي ببغداد، كانت تتمثل بتعليق
المسوح في الأسواق، وإقامة النياحة في المشاهد[56]، ولا بدّ أن يكون مشهد الإمامين
موسى الكاظم ومحمد التقي عليهما السلام بمقابر قريش ـ الكاظمية اليوم ـ من أهمّ
المشاهد الدينية التي كانت تقام فيها النياحة والمآتم الحسينية في يوم عاشوراء،
كما يظهر من بعض النصوص.
وفيما يتعلّق بذكرى يوم
عاشوراء في القاهرة على عهد الفاطميين، فمن خلال نصوص المؤرّخين المصريين يمكن
القول: إنّ مآتم ومراسم عاشوراء في هذه المدينة كانت تمتاز في بادئ الأمر بالطابع
الشعبي، ولكنها اتخذت فيما بعد طابعاً رسمياً، حيث كانت تُعرف بـ(سماط الحزن) في
أواخر هذا العهد، وتقام بحضور الخليفة والأُمراء والأعيان والقاضي والداعي، كما
يظهر من كلام ابن الطوير.
كما لاحظنا محورية المشاهد
الدينية في أيام عاشوراء، فقد كان يُعمل (حُزن عاشوراء) في البداية عند مشهدي
السيّدتين كلثم بنت القاسم بن محمد بن الإمام جعفر الصادق عليه السلام ، ونفيسة
بنت الحسن بن زيد بن الإمام الحسن عليه السلام ، ثم صار يقام لاحقاً في الجامع
الأزهر، وبعد انتقال ما يُعتقد أنه رأس الإمام الحسين عليه السلام من عسقلان إلى
القاهرة، وبناء المشهد الحسيني عليه، كان الخليفة يحضر الاحتفال الملكي ليوم
عاشوراء في هذا المشهد.
وكان من أهم مظاهر ذكرى
عاشوراء في القاهرة، النياحة والبكاء على الإمام الحسين عليه السلام ، وإغلاق
الدكاكين وأبواب الدور وتعطيل الأسواق، وخروج المنشدين إلى جامع القاهرة أو
المشاهد. أما في العهد الفاطمي المتأخر، حيث اتخذت مراسم عاشوراء طابعاً رسمياً
ملكياً، فبعد الإنشاد وقراءة المقتل، كانت تُعدّ الأطعمة وتُوزّع بشكل واسع، وقد
ذكر تفاصيلها بعض المؤرّخين.
أما فيما يتعلّق بذكرى عاشوراء
في المدن الأُخرى، كالمدينة المنورة وحلب ودمشق، فليس لدينا تصوّر واضح؛ بسبب عدم
وجود نصوص توضّح تفاصيل ما كان يقام من شعائر ومراسم. ولكن يمكن القول بشكل عام:
إنّ ظاهرة إحياء ذكرى عاشوراء في المدينة قد عُرف من حين رجوع سبايا أهل البيت
عليهم السلام إليها، وأما في حلب ودمشق، فقد نشأت وترافقت بشكل كبير مع ظاهرة
انتشار التشيّع. ويُلاحظ أيضاً المحورية المهمة لمشاهد أهل البيت عليهم السلام في
إقامة مآتم عاشوراء، كقبة العبّاس بن عبد المطلب، والأئمّة الأربعة من أهل البيت
عليهم السلام في مقبرة البقيع بالمدينة المنورة، ومشهد رأس الإمام الحسين عليه
السلام بحلب، ومشهد السيّدة زينب في دمشق.
0 تعليقات