القوة الناعمة
د. محمد إبراهيم بسيونى
عميد طب المنيا السابق
مفهوم إجتماعي نشأ من حاجة المجتمع للتأثير الإيجابي على السلوك العام، لكن
الساسة بدأوا في تبني هذه الفكرة وتوظيفها بما يخدم مصالحهم والنتيجة أن القوى
الناعمة السياسية أقامت الثورات فهدمت بيوت وذبحت أبرياء وأضرت بالناس فأي نعومة
هذه والشواهد قنوات ووسائل تواصل. القوة الناعمة Soft Power هو مفهوم صاغه جوزيف ناي من
جامعة هارفارد لوصف القدرة على الجذب والضم دون الإكراه أو استخدام القوة كوسيلة
للاقناع. تعني القوة الناعمة أن يكون للدولة قوة روحية ومعنوية من خلال ما تجسده
من أفكار ومبادئ وأخلاق ومن خلال الدعم في مجالات حقوق الإنسان والبنية التحتية
والثقافة والفن، مما يؤدي بالآخرين إلى احترام هذا الأسلوب والإعجاب به ثم اتباع مصادره.
لا يقتصر إستثمار القوة الناعمة على الدول الكبرى كالولايات المتحدة إذ أن
العديد من الدول، ومنها بالطبع مصر، تمتلك أيضاً مصادر عديدة للقوة الناعمة تتمثل
في الإرث التاريخي والثقافة والفنون والمعارف التي كان لها أكبر الأثر على أجزاء
أخرى من العالم لفترة طويلة.
لعبت القوة الناعمة المصرية دوراً كبيرا في تشكيل المذاق الثقافي العربي
والهوية الثقافية للمنطقة معتمدة على إرث كبير يضرب بجذوره في أعماق التاريخ من
خلال عدة دوائر متداخلة، عربية وأفريقية وأفرو آسيوية ومتوسطية وإسلامية. هذا
بالإضافة إلى الثقافة المصرية من خلال أكثر من ثلاثة آلاف فيلم سينمائي خلال أكثر
من مائة عام هي عمر السينما المصرية وكذلك الإنتاج الموسيقي والغنائي والأدبي التي
ساهمت في نشر اللهجة المصرية. هذا بالإضافة لدور الأزهر كمنارة للإسلام السني في
شتى بقاع العالم الإسلام وكذلك مشاهير قراء القرآن الكريم. ساهم البعثات التعليمية
التي كانت ترسلها مصر للبلدان العربية في ترسيخ قيم الثقافة المصرية في كافة بلدان
العالم العربي.
لم يقتصر إستخدام مصر لقوتها الناعمة على فترة حكم محمد على والحقبة
الناصرية وماتلاها، لكنها فطنت لتلك القوة منذ فجر التاريخ. إذ أثبتت الحفريات
الأثرية أن حكام مصر القدماء كانوا يروجون لحكمهم في مناطق نفوذهم خارج وادي النيل
بنشر رموز سيادية كالجعارين الذهبية المكتشفة في مناطق فلسطين وسورية.
يتزايد الحديث هذه الأيام عن تأكل
القوة المصرية الناعمة، هل تآكلت القوة المصرية الناعمة بالفعل؟ قرآت منذ سنوات
كتاب الكاتب الأمريكي من أصل هندي فريد زكريا، عالم ما بعد أمريكا The Post
American Worldالذي إنتهى فيه إلى أن الولايات المتحدة الامريكية لم تتراجع، لكن ظهرت قوى
أخرى منافسة مثل الصين، وهكذا الحال بالنسبة لقوة مصر الناعمة، فالقوة المصرية لم
تتراجع، أو ببعض الإنصاف، لم تتراجع كثيراً، ولكن ظهرت قوى ناعمة أخرى سواءً من
خلال البناء على المنتج الثقافي المحلي مثل المسلسلات التليفزيونية كما في الحالة
السورية مثل مسلسل باب الحارة وغيره من المنتجات الفنية، وكذلك حالة تركيا التي
إجتاحت العالم العربي ثقافيا بمسلسلات تليفزيونية تعتمد على الإبهار البصري
والإنتاج كبير الحجم قبل أن تفكر في التحول عن تلك القوة الناعمة الى القوة الصلبة
من خلال التدخل السياسي في مجريات الأحدث بعد ما عرف بثورات الربيع العربي بدءً من
عام ٢٠١١.
لا ننسى أيضا القوة الناعمة لأموال النفط في بعض إمارات الخليج التي إعتمدت
على إستقدام أنماط الحضارة الغربية مثل بناء ناطحات السحاب والتباهي بأطول
البنايات ومحاكاة أحياء المال والاعمال في الولايات المتحدة وأوروبا وشراء القوة
الناعمة من خلال المتاحف مثل متحف الفن الإسلامي في الدوحة المشتراة معظم أعماله،
إن لم تكن كلها، من الخارج وكذلك التفكير في إقامة مكتبة عملاقة تنافس مكتبة
الإسكندرية العريقة وإستضافة الأحداث الرياضية الكبيرة مثل كأس العالم ومتحف لوفر
أبو ظبي الذي يمثل إسمه المطلق قمة التناقض.
تخطى تأثير النفط المحلية وإتجهت
بعض تلك الممالك الى شراء القوة الناعمة خارج نطاقاتها الإقليمية مثل سعي المملكة
العربية لنشر المذهب الوهابي المتشدد في كافة أرجاء العالم وإنشاء جامعات دينية
لنشر ذلك المذهب ومنافسة الازهر في دوره التقليدي.
إتجهت بعض الممالك أيضا لشراء
القوة الناعمة في الغرب من خلال التأثير على عمل مؤسسات دولية شهيرة مثل بعض الصحف
والمؤسسات الإعلامية الغربية وشراء النوادي الرياضية واللاعبين وبعض رموز الدول
الغربية مثل متجر هارودز الشهير في لندن بمبالغ باهظة، وكذلك تسيير شركات طيران
دولية بمواصفات غربية فائقة الرفاهة بعضها لا يمثل الجانب الوطني فيه أكثر من رئيس
مجلس إدارة المؤسسة. لكن تظل غالبية تلك المظاهر الخاصة بالقوة الناعمة منحولة، أو
إن شئت الدقة، قشرية، ليس لها جذور.
الخلاصة أن القوة المصرية الناعمة باقية ومستمرة من خلال التراكم المعرفي
الذي يضرب بجذوره في أعماق تلك الأرض الطيبة، والأهم أن تلك القوة الناعمة هي نتاج
سواعد المصريين وبما يتاح لهم من إمكانيات، أهمها على الإطلاق الامكانيات البشرية،
فالسير مجدي يعقوب قوة ناعمة، ولاعب الكرة المصري العالمي محمد صلاح قوة ناعمة
والدكتور إسماعيل سراج الدين قوة مصرية ناعمة والدكتور زاهي حواس قوة مصرية ناعمة.
هذا بالإضافة إلى إستمرار المناحي التقليدية للقوة الناعمة المصرية متمثلة في
الإنتاج الأدبي والثقافي والفني والمعرفي.
0 تعليقات