آخر الأخبار

الصراع البغيض بين ( الدين ) و ( الضمير) ..






الصراع البغيض بين ( الدين ) و ( الضمير) ..

د. شريف السركي

الصراع الذى بدأ حين سمح الحكماء للبدو أن بنقل و تفسير تعاليم الديانات من موسى لعيسى لمحمد عليهم أفضل الصلاة و أجل التسليم
فكل الأنبياء كانت رسالتهم الأصلية مبنية على أكمال ما جاء به الحكماء القدماء المؤمنون .. لكن أتباع الديانات جميعهم قرروا قطع الصلة بين الحكمة القديمة و الدين .. فكان الصراع البغيض
نقرأ المقاله :

أين ذهبوا  ؟

هذا المقال يتناول قراءة في كتاب في منتهى الأهمية للكاتب النرويجي فيرش إكراس.

 استعراضي للكتاب لا يعني بالضرورة أنني متفق مع مافيه وربما أنقده في مقال لاحق. لكنني سأعرض نظريته هنا كما هي رغم كآبتها لفتح النقاش حولها.

في كتابه الخطير المعنون "أين ذهبوا ؟" يقول الكاتب إكراس أنه منذ حوالي 3600 سنة كان يعيش في مصر نوعان من البشر : المصريون الذين سكنوا هذه الأرض لآلاف السنين قبلها والذين وضعوا أسس وثوابت معتقدية وقيمية صارمة حكمت كل شئ في حياتهم ، والهكسوس وهم طائفة من الحكام الأجانب الذين وصلوا للسيادة على معظم مصر لأسباب عديدة.

يقول إكراس أنه من المذهل أن الصدام بين الأمتين أدى في النهاية لاختفاء الأمتين.

هذه الرؤية تصيبنا بالذهول. رغم أنها قد تكون صادقة بالنسبة للهكسوس الذين آل مصيرهم للغموض الشديد إلا أن الجميع يعرفون أن المصريين مازالوا يعيشون في مصر لليوم وكل الأبحاث الجينية أثبتت الصلة بيننا وبين أجدادنا الذين عاشوا على نفس الأرض منذ آلاف السنين.

لكن رؤية إكراس لا تخلوا من الوجاهة.

 يقول إكراس إن الحرب العالمية الثانية أدت إلى دمار شبه كامل في ألمانيا واليابان.

 شمل الدمار البنيان المادي والحيوي للأمتين وأيضا أحوالهم النفسية بتدمير اعتدادهم بأنفسهم وزرع الدونية والوضاعة فيهما بالهزيمة. لكن المذهل أن الأمتين في خلال عقود قليلة استعادتا مكانتيهما في العالم من جديد كدول كبرى.

في المقابل ، فمصر بعد عدة قرون من طرد الهكسوس لم تعد أبدا لمكانتها وقيمتها رغم التألق في عصر الدولة الحديثة وكأن شيئا جسيما أصابها من الداخل. يخلص إكراس إلى أن سبب عودة الألمان واليابانيين هو أنهم نفس البشر الذين وصلوا للقمة قبل الحرب وأنهم إستعادوا كل عناصر التفوق من جديد التي ربما وظفوها بطريقة جديدة للوصول للقمة بطريقة أخرى. لكن مصر المنتصرة على الهكسوس وغيرهم في الأسرة 18 فقدت ذاتها وبالتالي تسربت من بين يديها عوامل التفوق فبدأ الإنحدار السريع للهاوية.

الأخطر من كل شئ طبقا لوجهة نظره أن المصريين في مصر لم يعودوا نفس المصريين السابقين إذ أدت ظاهرة "الانتخاب المصطنع" ، المقابل للانتخاب الطبيعي في نظرية التطور، إلى فلترة الأمة المصرية وانتقاء أفشل العناصر تدريجيا للبقاء واستهداف العناصر الجيدة للإفناء والإقصاء وبالتالي أصبح المصريون غير المصريين الأوائل رغم الإرتباط الجيني بهم.

لن أتعرض هنا لما كتبه إكراس عن الهكسوس ومصيرهم من وجهة نظره على خلفية تاريخية واضحة.

وربما أعرض ذلك في مقال لاحق. سأحاول هنا أن أعرض رؤيته لمصير المصريين القدماء.


يقول إكراس إن التدني الكبير في العقلية والنفسية المصرية الحالية ليس مسألة عابرة سهلة المعالجة في جيل واحد لأنها نتيجة قرون كثيرة من المرض التدريجي والإنتقاء للأسوأ أدت إلى شعب مغيب تماما فاقد للعزيمة و الجدية والإندفاع للعمل الجاد الدقيق والمبدع.


يقول إكراس أن البعض قد يعتقد أن السبب فيما آلت إليه حالة المصريين هو الفكر الوافد الذي ساد عليهم قسرا مع المحتلين الأجانب.

لكن الحقيقة كما يراها هي أن مصر كانت ينبوع الوجدان الفاسد الذي أضاعها وتسبب في ضياع أمم أخرى لقرون طويلة بعدها إلى أن تخلصت بعضها منه أخيرا.


ويقول إكراس إن الأمر يثير الدهشة كيف أن مصر هدت العالم بالتنوير إلى كل عناصر الحضارة الإنسانية وأيضا أخرجت للعالم السبب الأساسي للظلامية التي إجتاحته إلى اليوم. ويستمر في الذهول فيقول يبدو وكأن مصر هي الفنان الأول على خشبة مسرح الحياة العالمية .. هو المضحك و المبكي والطيب والشرير .. هو الذي يبدأ وبقية العالم تتبعه حتى لو كان الطريق يؤدي للهلاك. ويبدي تعجبه من إستمرار دور مصر الفريد في قيادة الوجدان الإنساني في خيره وشره.
يتعرض الكتاب إلى الأحوال التاريخية المعروفة في مسيرة مصر القديمة فيقول أن مصر تطلق الشرارة فتحولها الأمم إلى النار وتضع الأساسات فتبني الأمم عليها الصروح.


فالإيمان بالله الواحد نشأ في مصر قطعا ، وكان السبب في رؤية المصريين للكون بمعايير مجردة ومتجردة تسود على كل الكائنات وبالتالي صنعوا حضارتهم الطبيعية على هذا الأساس. لكن ، في المقابل ، فالتغييب الكامل لمبررات الفضيلة والقيم الإنسانية نشأ في مصر أيضا لاحقا مع التصاعد الأميني وخلق النزوع الإنساني لعدم البحث في أسباب الأشياء أو السنن الكونية المشتركة الحاكمة لكل شئ.
يقول أيضا أن تلاحم الدين والدنيا نشأ في مصر وكان السبب في حضارتها لآلاف السنين عندما كان الدين قائما على المنطق ، ففي مصر كان رجل الدين هو المعلم والباحث في كل العلوم الطبيعية كالكيمياء والهندسة والطب. لكن إنفصال الدين عن صناعة الحضارة حدث في مصر أيضا عندما أصبح الدين غيبيا لايحتاج للتفسيرات والتبريرات. هنا أصبح من المستحيل التوافق بين الدين والحضارة.


يخلص إكراس إلى أن ثورة أخناتون كانت الكارثة المصرية التي أصابت كل البشرية بالدمار. السبب هوفتحها الباب للغيبية على مصراعيه نتيجة فشلها أمام المنظومة الدينية الأمينية. بهزيمة أخناتون ، أفلتت الإمينية كالمارد من عقالها وإستولت على التفرد وكانت بداية لمحاولات التفرد في كل العالم كما حدث مع مردوخ في الرافدين و يهو من بعده.

 ويعتقد إكراس أن ذلك كان السبب في إنتشار الإقصائية في العالم كله وتضييق الرؤية الإنسانية إلى tunnel vision قسريا. السبب هو أن إفتقاد المنطق في تبرير القواعد الحاكمة للسلوك والعمل يوجب حماية الطرح غير المبرر بكل الطرق من أي فكر مخالف.


وبذلك ، كما يقول إكراس ، تغير المصريون تماما وأصبحوا شعبا آخر. يقول أن المسألة تعدت عند هذه النقطة الإختلاف في التوجهات. أصبح البقاء ذاته حكرا على الأمينيين وبالتالي نشأ كل الفكر الغيبي وأصبح إمين يتردد إسمه في ديانات العالم وأصبح المصري المطابق للمواصفات هو المصري الإميني لا غيره.


يضيف إكراس أن الأمر تعدى ذلك إلى أن إحتاج الإسكندر الأكبر للأمننة حتى يصبح مقبولا من الشعب المصري الجديد المعدل. من هنا نشأت قاعدة الإنتخاب المصطنع ، الإميني يبقى والرعوي يفنى ، حتى لو إستمر الملك في إطلاق لقب سا رع على نفسه. المدهش هو أن رع هذا هو نفسه الذي كان السبب في طرد المصريين للهكسوس عندما فكروا في إحلال النتر سو مكانه.

هذا هو ملخص نظرية إكراس في إختفاء المصريين الحقيقيين وإستبدالهم بخلف غير صالح. وبذلك نشأ شعب آخر يختلف تماما عن السلف و تنعدم لديه الفرصة في إعادة صنع الحضارة بالمقارنة بالألماني والياباني.

ورغم تحرر العالم من سطوة الغيبية على الأمور الحضارية إلا أن مصر استمرت في توجهها وصارت الحصن الأهم لها في العالم لانها كانت المنبع لها في البداية. يقول إكراس أنه على الرغم من أن سائر البشر قد تتغير مواقفهم في هذا الشأن بدون مشقة إلا أن المصريين يختلفون لانه متأصل فيهم بداية من النقطة التي إنفردت بها الأمينية وسادت عقل الأمة وتغير المصريون.

ويقول إكراس أن الفارق بين المصريين وغيرهم هو أن الله حاضر في نفوسهم طول الوقت. هو حاضر في كلامهم وفي عقولهم. يكفي أن تتحدث مع بعض المصريين في أي شئ ثم تراجع الكلام وتعد المرات التي ذكروا فيها الله .. شاهد المرأة المصرية عندما يسقط طفلها فتقول : "إسم الله عليك" أو التاجر الذي يعد المال فيقول : "واحد .. مالوش تاني". شاهدهم وهم يقولون إن شاء الله طول الوقت .. وأحيانا بشكل كوميدي عندما تسأل واحدا : "ما إسمك ؟" .. فيقول : محمد إن شاء الله. 

يضيف إكراس : ربما بدأ الامر يهتز في السنوات الأخيرة بسبب العولمة وزرع الوجدان اللاديني في العالم كله إلا أن المصريين هم آخر من يتخلون عن الله.

ويقول أن الله مزروع في الوجدان المصري وكان يحكم توجهات المصريين عقلانيا ويدفعهم للعمل الجاد والنافع منطقيا زمن حضارتهم. لكن رؤية المصريين عن الله منذ إنفراد الأمينية أصبحت سلبية ومؤدية للتخاذل و التراخي والقدرية والإستسلام للقسمة والنصيب وتبرير الفشل على أنه مقدر ومكتوب لا على أنه دعوة للبحث من جديد عن الصواب. وبذلك نشأت أمة من المصريين الجدد غير القادرين على صنع الحضارة.


في النهاية يقول إكراس أن الامور التي تنشأ ببطء تستمر فترة أطول وبالتالي فالمصريين تحولوا إلى الأمة الجديدة على مدى قرون طويلة وسبقوا العالم كله في التحول حتى أنه أدى لتغييرهم من الداخل. هنا يتساءل : هل من الممكن أن يعاد إنتاج الأمة المصرية القديمة من الجيل الحالي ؟؟


يقول إكراس أن هذا السؤال هو أهم سؤال يطرحه في كتابه. السبب كما يقول ليس لانه من عشاق الحضارة المصرية والمصريين ، لكنه متعلق بمصير البشرية كلها.

تعانق الدين والعلم في مصر القديمة كانا السبب لطفرة علمية وحضارية لا مثيل لها في التاريخ الإنساني كله.

 أما العلم الحالي فهو متخبط ومحروم من الدعم الديني لانه لفظ الدين كبداية في مسيرته خلال القرون الأخيرة. من هنا فالعالم محتاج للنمط المصري الحقيقي لا التكنولوجيات الحالية خادمة السوق والأغراض الاقتصادية والسياسية. لكن هل المصريون قادرين على الخروج من الهوة التي سقطوا فيها ؟


لايجيب إكراس على هذا السؤال ويقول بمكر أن كل شئ ممكن في هذا الكون ولاشئ مستحيل أو مستبعد.

إرسال تعليق

0 تعليقات