فلاحون في المدينة
خالد الأسود
قصة
(
١ )
في بدايات مراهقتي شق علي فهم
إصرار أبي أن أقضي ثلاثة أيام بعيدا في قرية لا أشعر بأي انتماء تجاهها ..
كلماته عن الأهل والأصول لم تقنعني بشيء، فقط عرفت أنني في طريقي لمغادرة
أصحابي وخطط الصيف، سأفقد رحلاتنا اليومية لشاطئ الإبراهيمية، سأفقد فرصتي مع نهلة
ابنة الجيران التي نتنافس جميعا على جذب انتباهها..
استقبلني ابن عمي الأكبر مني بثلاث سنوات برفقة صديقه صلاح الذي يستعد
للسفر إلى القاهرة ليبدأ دراسته الجامعية..
تعجبت من حماستهم وفرحتهم الصادقة بي رغم أنه اللقاء الأول بيننا..
ركبنا سيارة بيجو دخلت بنا القرية..
أبنية طينية مرصوصة في شكل عشوائي، شوارع ضيقة، رائحة فضلات الحيوانات
تقتحم أنفي السكندري، أزعجتني لسعات الناموس، السيارة المتهالكة وروائح الركاب
كانت مأساة..
تتبعتني نظرات الفضول والاستغراب، استمر ابن عم يجيب متطوعا على التساؤلات
الصامتة:
-خالد ابن عمي عمي أحمد اللي عايش في الإسكندرية.
غروري المراهق جعلني أتخيل نبرة فخر في صوته..
استقبلني عمي وامرأته بالأحضان والقبلات الحارة، تقافز باقي أبناء عمي الصغار حولنا وكأنهم يرون كائنا
عجيبا..
مازال مذاق الأرز الفلاحي في فمي، أرز مخلوط بالشعرية غارق في السمن
البلدي، قطع كبيرة من اللحم مرصوصة على شكل هرم صغير، أطباق البامية والملوخية
يتصاعد منهما البخار، بضع فراخ صغيرة محمرة في السمن ..
اكتشفت الكرم الفلاحي المهول،معدة صبي الثالثة عشرة تجاوبت بسهولة مع
الحفاوة الجميلة..
أكلت كما لم آكل قط، فوجئت باتهامات التقصير، أحسست بالحزن في عيون امرأة
عمي الجميلة:
-ألا يعجبك طبيخي؟؟
هتفت صادقا أقسم أنني تناولت أضعاف كمياتي المعتادة..
جاءنا صلاح ينادي ابن عمي...
خرجنا له فوجدناه في جلباب أبيض نظيف ممتطيا بغلة رمادية، ابتسمت لمنظره
المرح..
أتى ابن عمي بحمارة بيضاء وقربها مني يدعوني لامتطائها في رحلتنا، فاجأني
الموقف، لم أمتط حيوانا من قبل، تقدمت بثقة، استدعيت مشاهد أبطال أفلام الكاوبوي
التي كنت مغرما بها في تلك الفترة من عمري، ارتكزت بكفي على عنق الحيوان، رفعت
جسمي في الهواء طائرا، فردت قدمي اليمني كما رأيت في الأفلام..
سقطت سقوطا مزريا، تكومت على الأرض بجوار الحيوان المفزوع، كتمت تأوهاتي،
أحسست بكرامتي مبعثرة..
كانا نبيلين واحترما مشاعري، لم
يضحك أحدهما، نزل صلاح ملهوفا من فوق ركوبته، أعانني ابن عمي على النهوض، أخذ الاثنان
ينفضان التراب عن ثيابي..
فوجئت باعتذار ابن عمي، يلوم نفسه أنه لم يحسب كونها أول مرة لي في امتطاء
الحمار..
ساعدني الاثنان برفق، رفعاني فوق السرج الجلدي، استقريت فوق ركوبتي أخيرا..
0 تعليقات