آخر الأخبار

اليعقوبى : الصنمية الفكرية.. وتدجين الحياة






اليعقوبى : الصنمية الفكرية.. وتدجين الحياة

محمود جابر

الصنمية الفكرية هي تلك الهالة القدسية التي يصنعها البعض حول بعض رجالات المجتمع سواء رجال دين،  ورؤساء أحزاب، وزعماء سياسيين أو مؤسسات وربما دول.


تلك الصنمية التي لا يمكنها أن ترتقي بالمجتمع بقدر ما تهوي به إلى مستويات سحيقة من الجمود والتحجر وتقف به عند أفكار معينة، وتولد فيه حالة التقوقع نحو فكر معين و رفض غير مبرر للأفكار الأخرى، دون أن يكون هناك أي إعمال للفكر، بل قد يتعدى هذا الأمر إلى محاربة تلك الأفكار واعتبارها عدو، يستحق من ينادى بها  أن يرمي بالسفاهة وعدم الوعي، وربما القتل.

  
ومرة أخرى نقول أن الصنمية الفكرية هى تلك الفكرة المريضة حين تتحول الفكرة إلى عقيدة، لها  مستكبرين (زعماء) ومستضعفين ( تابعين/ جمهور)، فإنها تصبح عبأ على العقل، مثبطا له، ومشوشا طريقه، هنا تتحول العقيدة والفكرة من حالة حية ومرنة، إلى فكرة محنطة بلا روح .. ترى النقد والتغير والنقاش والسؤال خروجا وانحرافا .... ثم تصبح – من وجهة نظر المستكبيرين ( الزعماء) إلى كفر وعمالة .

هذا مجمل كلمة سماحة المرجع الشيخ محمد اليعقوبى فى برنامجه حديث الروح والتى ألقاها سماحته فى برنامجه (( حديث الروح)) والتى تناولت " حوار بين القادة والأتباع يوم القيامة" وكان الحديث يدور فى فلك قول الله تعالى (وَلَوْ تَرَىٰ إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَىٰ بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَىٰ بَعْدَ إِذْ جَاءَكُم ۖ بَلْ كُنتُم مُّجْرِمِينَ) سبأ.


كلمة سماحته اليعقوبى ألقاها فى حضور وفد من حى الجهاد أحد أحياء مدينة بغداد الثائرة بتاريخ 8 جمادى الأول 1441هـ/ الموافق 4/1/2020.


فقد نبه سماحته على أن "الصنمية" الفكرية تتجلى فى صورة الآراء الفكرية التي يحاول من يتولونها و يتبنونها من الأتباع تقديمها على أنها جماع الفكر و منتهى النظر ، و قد يغالي بعضهم أكثر من ذلك فيحيطونها بهالة من القداسة لا تنبغي إلا لأهل الرسالة تجعلها منزهة عن الخطأ لا يأتيها الباطل من بين يديها و لا من خلفها.

إن الصنمية الفكرية حقيقة واقعة و إن حاول بعض المنكرين التهوين من شأنها ، أو تفسير تعصبهم لبعض الآراء على أنه مجرد إقرار بمقومات التفرد التي تميز هذه الآراء من غيرها ، أو تبرير تعصبهم على أنه ليس إلا شكلا من أشكال التعبير عن الولاء لفكر معين وهو أمر مشروع ليس في الأدبيات الفكرية ما ينفيه أو يجافيه.


إن الصنمية الفكرية هي أعتى صنميات هذا العصر ، فما المعارك الفكرية التي تحدث في ساحة الفكر الإسلامي عن علم و عن غير علم في الغالب الأعم إلا دليل على ذلك بل إن الصنمية الفكرية في الراهن قد تحولت إلى عصبية فكرية مقيتة من حصادها النكد التعصب الأعمى لفكر معين و التحامل على الفكر الآخر و معاملة أهله على أنهم مخالفون بدرجة أهل الذمة أو يكادون.

ليس في نصوص الإسلام - فيما فيه مجال للرأي- ما يضيق بالرأي مما يصنفه العلماء في باب الآراء الاجتهادية، و ليس في نصوص الإسلام ما يعد الرأي خطيئة تقتضي العقوبة، بل إن المؤرخين و المحققين يقولون إن دائرة الرأي في الإسلام أكثر من نظيراتها في غيره من الأديان ، و الدليل على ذلك المدارس الفكرية الكثيرة التي ظهرت في التاريخ الإسلامي، و ليس في نصوص الإسلام ما يوجب التعصب للرأي كائنا ما كان و كائنا من كان صاحبه ، فليت الذين يتعصبون للآراء و الأشخاص ممن يدعون وصلا بآل البيت و ينفونها عن غيرهم من أهل القبلة يدركون بأن أهل البيت ليس لهم متبوع يتعصبون له إلا صاحب الأمر " روحي له الفداء".

أليس من الصنمية الفكرية أن يغالي بعضهم في مدح مرجعا أو زعيما من المراجع أو الزعماء  فلا يسأل في مسألة عظمت أم صغرت إلا هرع إلى الاستدلال بأقواله، وإنكار وتسفيه ما يقوله الآخرين، و كأنها تنزيل من التنزيل و يدع ما هو مأمور شرعا بالرجوع إليه في كل صغيرة و كبيرة مما ورد في قوله تعالى : " فلا و ربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت و يسلموا تسليما" ، و في قوله تعالى : " يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله و أطيعوا الرسول و أولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله و الرسول إن كنتم تؤمنون بالله و اليوم الآخر ذلك خير و أحسن تأويلا ".

أليس من الصنمية الفكرية أن يغالي بعض الأتباع في مدح شيخهم فيجعلونه عقلا جامعا لا يشق له غبار و لا يدانيه أحد في علم الرواية و الدراية و أنه أمهر في فقه النصوص و أعلم بأصول التأسيس و أحق بوراثة آل البيت وحده دون سواه وانه فى عقل على وحلم الحسن وجهاد الحسن وتقوى السجاد وعلم الباقر وقد أقام ما قد يقيمه صاحب الزمان  ؟!

أليس من الصنمية الفكرية أن تملأ صفحات بعض الزعمات بسيل من العنتريات التي ترفعه إلى أعلى عليين و تنزل مخالفيه إلى سجين ؟ .

أليس من الصنمية الفكرية أن يبالغ آخرون في إطراء دعاتهم فيبررون زلاتهم و يتجاوزون عن هفواتهم في الوقت الذي يعرون فيه صفحات غيرهم و يشهرون بهم في كل ناد؟.

أليس من الصنمية الفكرية أن ينصب بعض الأتباع متبوعهم مرجعا في كل شاردة وواردة فينقلون عنه ما يقول على علاته و لو كان هراء لا يتفق مع مبادئ العقل؟.

أليس من الصنمية الفكرية أن يتشبث بعضهم بالأضاليل و الأباطيل و يتوارثونها جيلا عن جيل ، فقط لأنها من صنع فلان في حين يحكمون على مثيلاتها من غيرهم على أنها قرين الكفر ؟ .

أليس من الصنمية الفكرية أن يبخس بعض العباقرة و النوابغ في ميادين الفكر المختلفة حقهم و ترتفع في المقابل أسهم من هم دونهم ، فقط لأن معادلة الولاء تقتضي ذلك في الزمن الذي اختلت فيه الموازين و ساد فيه الرويبضة ؟.

ما لذي يجعل الواقع الفكري مترديا ومزريا، كما هو الحال في واقعنا ؟

 الجواب ليس بسيطا ولا سهلا، ومع ذلك أتجرأ وأقول ملخصا : إنه غياب الحرية، الذي يعني بالمقابل سيادة الإرهاب والاستبداد الفكري، ولكن لماذا ؟ يشكل الفكر وحدة عضوية كلية متفاعلة، ونظاما عاما شاملا وموجها لكل سلوك ونشاط إنساني فردي وجماعي، ومن ذلك النشاط السياسي، وهو أهم أنواع النشاط، لأنه المهيمن والمدير والمدبر للصيرورة الاجتماعية العامة . ولكل سياسة فلسفتها، فإذا كانت السياسة فيها تقبل للاخر، كان الفكر حرا، والعكس صحيح، حيث سياسة التابع والمتبوع، تخشى حرية الفكر، فتحاربها، لأن من شأنها إلحاق الضرر بهذا النظام الشمولى القائم على الصنمية وتقديس الأشخاص والكيانات، لذا تضطر لفرض أنموذجها الفكري غير العقلاني نسبيا على المجتمع والفرد، وتجند لأجل تحقيقه كل ما تملك من طاقات ووسائل تدجينية .. تحريضية ..
تعبوية، لصناعة الفكر المدجن، ، وتستثمره لتثبيت وصيانة نظامها الفكري اللاعقلاني .
إن النظم غير العقلانية تتبنى نظاما فكريا مغلقا وشموليا، تصونه وتحرسه وتفرضه على الجميع، وتقمع أي معارضة فكرية، وهذا ما يدخل المجتمع في حالة من العقم والمرض الفكري، الذي يتجسد بالاجترار والاستهلاك المعرفي، وتدهور الإنتاج والإنتاجية الثقافية إلى الحضيض، ونلمس حينئذ نوعا من الأحادية و الركود والتأسن الفكري، ما يؤدي إلى الفشل في التعاطي مع الواقع جملة وتفصيلا . وساعتها نكون أمام هذه الحالة التى نراها والتى نصفها بالصنمية  التى تتجلى فى شكل تابع ومتبوع أو مستكبر ومستضعف، أو أحزاب كبيرة  والباقى لهم تبعا .

وهذا يضعنا أمام المهمة الأكثر أهمية وجوهرية، ألا وهي تحرير العقل، في إطار نشر وتعزيز واحترام الحرية، وحقوق الإنسان، وبالتالي مكافحة كافة أشكال الإرهاب والاستبداد المادى و المعرفي ، ويندرج هذا الأمر ضمن إصلاح النظام الاجتماعي و السياسي ككل والذى خرج كل الناس فى العراق طلبا له فى أربعينية الفرج .






إرسال تعليق

0 تعليقات