الفاطميون ... ودورهم فى جهاد
البيزنطيين والصليبيين
الجزء الأول النشأة
الفاطمية
محمود جابر
مازلنا
ندور في ثنائية غربية تأخذ بخناقنا، وترفض أن تغادر تفكيرنا، أو أن يغادرها
تفكيرنا، وكأننا أصبحنا أسرى لها، فمن ثنائية الكرملين الأحمر، في مقابل البيت
الأبيض، إلى الأسود الشيعي والأبيض السني، وكذلك الاهلى الأحمر في مقابل الزمالك
الأبيض، وصولا إلى " فوزية البرجوازية " والأمر هنا تعدى الثنائيات
والانقسامات إلى الثنائيات الهزلية، التي أصبحت سمة غالبة في كل شيء حتى الثقافة- بمعناها
المبتذل -، فالعيوب الفكرية التي طغت على ساحتنا الثقافية العربية تعانى عوار شديد
في مناهج البحث والتفكير، مما أصابت حياتنا بحالة من التجلط والموات إلى السيولة
وانعدام الوزن، وأصبح من الطبيعي أن يردد الرجل ( المفكر والمثقف والاكاديمى) – زعما
– كلاما متناقضا تناقض رئيسيا دون أن يجد في ذلك عيبا منهجيا في السرد والكتابة أو
التحليل. وكأن شيئا لم يكن.
وما
بين هذه الثنائيات نشأ معسكرات ولدت تناقضات وحولتها من تناقضات ثانوية إلى
تناقضات رئيسية، وكانت نتيجة التعسكر والتخندق والتترس. ولادة خطابات اختزالية
استقطابية ترفض الجدل والحوار، وأنصاف الحقائق والحلول والتعايش السلمي، واختفت كل
الألوان لصالح لونيين فقط، هما الأبيض والأسود، أو الأبيض والأحمر، أو الأبيض
والأسود. وللحقيقة هذه الأسطر ليس تعبيرا عن أزمة يعانى منها كاتب هذه السطور. لكنها
نتيجة وصفية وصلت إ ليها في الجلسة الأخيرة الذي عقدها ( مركز يافا للدراسات ) في
الندوة المتخصصة حول:قيام وانهيار الدولة الفاطمية، في 6/5/2007، والتي شهدت حضورا
أكاديميا متخصص وبحاثة متميزين وجمهورا كنت أظن أنه أكثر وعيا، وأنه استطاع أن يفر
من تحت مقصلة الحوار الاستقطابى والخطابات الاختزالية الممجوجة.
الذي
حدث في ليلة الأحد 6/5/2007، لم يكن من وجهت نظري شيء عاديا، بل ناقوس خطرا يدق
ليدلل على مدى ما وصلنا إليه من حالة أصبحت بكل أبعادها صعبة على الحل، ولكنها غير
مستحيلة وتحتاج إلى مشاريع ومشاريع تستهدف إعادة عقولنا إلى عقولنا، وأن نحرر
العقل من عقاله، وان نتغلب على أزمة الفهم لصالح فهم الأزمة، وان نقلع عن عادة
الاستقطاب والثنائية. وهذا كان دافع لي أن اعدل وأعيد صياغة هذا البحث الذي بين
أيديكم.
وإذا
كانت أزمتنا مع التاريخ فإننا لا ندعى أننا نكتب تاريخا، أو أننا نحاول كتابته
بشكل جديد، ولكننا نحاول تقديم قراءة تأويلية للتاريخ، وأن ننتصر لا لمساحة
الأسطورة التي تمثل نصف التاريخ الحلو، لمساحة الحقيقة المرة والمفجعة التي هي جزء
آخر منه نخشى أن نراها، وإن رأيناها نخشى أن نصدقه.
وهنا،
ونحن نتكلم عن الدولة الفاطمية نحتاج إلى مجموعة رافعات، أو كاشفات ضوء تنير هذه
المساحات وتقتل ظلمتها والجهل بها. هذه الرافعات يمكن أن نقدمها في شكل تساؤلات
كالتالي:
- من
هم الفاطميين، ومن أين جاءوا، وماذا يريدون ؟.
- هل
الفاطميون ينتسبون حقا إلى آل البيت صدقا أم كذبا ومن أين نشأت فكرة العبيديين ومن
أطلقها ؟.
- هل
قيام الدولة الفاطمية كان سببا في ضعف الخلافة العباسية ومن ثم انهيارها ؟
- هل
الفاطميون كانوا يضطهدون أهل السنة ولا يولونهم المناصب ونصبوا الأقباط المسيحيين
على حساب أهل السنة المصريين ؟
-
هل كان شاور خائنا واستعان بالفرنجة وكذلك الدولة
الفاطمية كانت تمثل كيانا خائنا استعان هو الآخر بالفرنجة، في مقابل ضرغام الذي
استعان بنور الدين محمود ؟
كل
هذه التساؤلات وأكثر ازعم أنها سوف تمثل تحريرا لخطابنا الثقافي وأزعم أنني أستطيع
أن أقدم قدرا ليس بسيطا حول هذه التساؤلات يمكن لها أن تخفف من حدت الخطاب الطائفي
المتخندق والاستقطابات الفكرية بين هذه الخنادق.
وبعد
الانتهاء من هذه الإجابات، فسوف نعود إلى موضوع البحث الرئيسي وهو دور الدولة
الفاطمية في الجهاد وحفظ حدود ارض الإسلام.
·
من هم الفاطميين، ومن أين جاءوا،
وماذا يريدون ؟
يعود
نسب الفاطميين إلى عبد الله الأكبر بن محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق (عليه وعلى
آبائه السلام)، من اجل تمييزه عن مؤسس السلالة الفاطمية الحاكمة، عبد الله المهدي.
وما نعرفه حول حياة عبد الله الأكبر هذا ومصيره ينبع من مصدرين مختلفين تماما. احدهم
رواية ابن رزام، من الكوفة على نهر الفرات، وهو الذي كتب كراسا ضد الإسماعيليين في
النصف الأول من القرن العاشر؛ وعمله هذا لم تكتب له الحياة، إلا أن مؤلفين لاحقين
عديدين اقتبسوا مقاطع طويلة نسبيا منه وحفظوها. أما المصدر الثاني فهو الرواية
الفاطمية شبه الرسمية التي كتبها الداعي الإسماعيلي احمد النيسابوري إبان عهدي
الخليفتين العزيز ( 975 - 996م ) والحاكم ( 996- 1021م ) ويلخص عنوان كتاب
النيسابوري - « استتار الإمام وتفرق الدعاة لطلبه » المصير المغامر لعبد الله
الأكبر. وانه لأمر مهم ملاحظة انه بغض النظر عن المغالاة والتشويهات الافترائية
حول حياة عبد الله، فان هذه المعلومات تنسجم في خطوطها الأساسية مع التقليد
العائلي الفاطمي. وهذا يساعدنا في غربلة أحداث جوهرية تاريخية من المصدرين
المختلفين اختلافا واسعا .
يتفق
كلا المصدرين على أن مقر إقامة عبد الله الأكبر كان في بلدة عسكر مكرم على نهر
دُجيل ( وهو الكارون حاليا) في مقاطعة خوزستان على الطرف الشمالي للخليج. وكانت
عسكر مكرم في العصور الوسطي _ وهي التي تبعد عن الأهواز باتجاه منبع النهر أربعين
كيلومترا _ مركزا اقتصاديا مزدهرا، فيه صناعات للنسيج وتكوير السكر. كان عبد الله،
التاجر الثري المالك لمنزلين، قد بدا ينشر العقيدة الإسماعيلية من بلدة عسكر مكرم.
وهو أول من راح يرسل الدعاة ويفرقهم في الأقطار المختلفة. وما نكشفه فقط - وهنا من
مصدرينا كليهما أيضا - هو أن عقائده لاقت مقاومة في عسكر مكرم نفسها مما دفع بعبد
الله إلى الهرب من البلدة والاستتار، وأدى إلى تدمير منزليه على أيدي أعدائه. وذهب
عبد الله إلى البصرة أولا حيث وجد مأوى له عند وكلاء عائلته. وهنا أيضا تمكن خصومه
من اكتشاف أمره فاضطر إلى الهرب مرة أخرى. فغادر العراق وتوجه إلى سورية حيث وجد
مأوى له في صومعة مسيحية في مرتفعات جبل السمّاق ( وهو جبل الزاوية اليوم قرب بلدة
معرة النعمان في سورية ) وهنا تمكن دعاته _ سبعة منهم ذكروا بالاسم _ من إعادة
الاتصال به، كما يوحي بذلك عنوان كتاب النيسابوري، وتدبروا أمر تزويد الإمام « هوية
جديدة »، كما نسميها اليوم.
في
ذلك الوقت، أي قرابة عام 870م، كان يجري إحضار المستوطنين إلى خرائب مدينة سلمية
القديمة، وهي التي كانت بلدة صغيرة آنئذ. كانت، وهي الواقعة على حافة الصحراء
السورية، وعلم الدعاة إثناء بحثهم عن موطن لعبد الله في مدينة سورية، بهذه
المغامرة، فابتاعوا قطعة من الأرض لإمامهم تقع على الطريق الرئيسة قرب البازار حيث
حولها فيما بعد إلى مقر إقامة له. وواصل حياته بصفة تاجر، ويبدو أن تجارته ازدهرت،
إذ سرعان ما وجد نفسه يمتلك عدة دور هناك. كان « يهدم ويبني »، كما يقول
النيسابوري، وأخيرا ابتنى لنفسه « قصرا شامخا » هو الذي قدر له أن يصبح المركز
السري للدعوة الإسماعيلية للأجيال الأربعة التالية.
نحن
لا نعلم متى استقر عبد الله الأكبر في سلمية، ولا متى توفي هناك. لكن يبدو انه
خلال حياته بدأت الدعوة الإسماعيلية تعمل في العراق في ضواحي خرائب بابل في ما
يسمى اليوم بالحلة. والتاريخ التقليدي لتأسيس تلك الجماعة الإسماعيلية العراقية هو
875 أو 878م. أما بخصوص ولده وخليفته احمد، فإننا نكاد لا نعرف شيئا سوى اسمه. وقد
وصفه مصدر متأخر نسبيا بأنه كان يرتحل بلا كلل وزار جميع مواقع الدعوة في خوزستان
والعراق والديلم ( الهضاب الواقعة إلى الجنوب من بحر قزوين شمال إيران ) متنكرا في
زي تاجر.
كان
لأحمد ولدان، الحسين وأبو علي محمد. وتذكر المصادر إن الأخير حمل لقبا ملغزاً هو
أبو الشلغلغ. وقيل أن الحسين عاش في عسكر مكرم، حيث يبدو أن أسرته قد استعادت موطئ
قدم لها هناك. أما أبو الشلغلغ فقد عاش في سلمية. وعندما توفي شقيقه الحسين سنة 881
أو 872م. أخذ أبو الشلغلغ ابن أخيه سعيد البالغ من العمر ثماني سنوات ( المولود
سنة 873 أو 874م ) وأحضره إلى بيته في سلمية وعمل على تربيته كما لو كان ولده
الخاص، وقام بتزويجه من ابنته فيما بعد.
تزامنت
هذه الفترة مع النجاحات الأولى للدعوة الإسماعيلية ففي عام ا88م انطلق الداعي ابن
حوشب مع مساعد له من العراق باتجاه عدن، وبعد قرابة سنتين من ذلك أبحر داع من هناك
باتجاه السند. ومنذ عام 893 م
وفيما بعد ذلك، عمل الداعي أبو عبد الله الشيعي بين قبائل البربر في ما يعرف اليوم
بالجزائر، وفي عام 899 بدا الداعي أبو سعيد الجنابي نشاطات دعوته أولا على الشاطئ
الشرقي ثم على الشاطئ الغربي من الخليج فيما بعد.
ويبدو
أن محمدا أبا الشلغلغ قد توفي سنة 899، وفي تلك السنة تولى ابن شقيقه وصهره، سيعد
بن الحسين، قيادة الدعوة. وقد عرف بشكل أفضل باسمه الملكي اللاحق، عبد الله (اوعبيد
الله خطأ) المهدي، وكان الأول من الخلفاء الفاطميين. وكان مقدرا لولده عبد الرحمن،
المولود في سلمية سنة 893 من زواجه بابنة عمه، أن يصبح الخليفة الفاطمي الثاني،
القائم.
إن
شجر نسب أجداد الخلفاء الفاطميين وقادة الدعوة في سلمية تؤكدها عدة مصادر. والنقطة
التي أثارت الجدل في المصادر المعادية للإسماعيلية بشكل أساس تمثلت في هوية ونسب
عبد الله الأكبر. وما يمكننا اليوم استبعاده باطمئنان على أنها تلفيقات حاقدة هو
الخرافات التي تداولها ابن رزام الكوفي ومخبروه حول الزعم بان نسب عبد الله يعود
إلى شخص اسمه ميمون القداح، ففي عام 946، قام المستشرق الروسي فلاديمير ايفانوف
بتعرية هذه «الخرافة السوداء » مرة والى الأبد.
وطبقا
للمعتقد الفاطمي الرسمي، والشكل الذي يحتفظ به إلاسماعيليون اليوم، فقد كان عبد
الله ابنا لمحمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق، أي سليلا مباشرا من الجيل الثامن
للنبي محمد. وهكذا، وطبقا للتراث الإسماعيلي، فان قادة الدعوة في سلمية كانوا أئمة
علويين فاطميين. غير أن أبا الشلغلغ لا يعتبر إماما، بل ينظر إليه على انه ممثل
زمني ووصي على ابن أخيه المهدي، الذي يعتبر الخليفة المباشر لوالده الإمام الحسين.
كان
القائد الرابع للدعوة المقيم في سلمية، سعيد بن الحسين، هو من سيؤسس، تحت اسمه
الملكي عبد الله المهدي، واحدة من أكثر الدول أهمية في التاريخ الإسلامي. وعلى
الرغم من بعض التناقض في المصادر، فان لدينا معلومات جيدة حول حياة المهدي
المثيرة، وذلك من خلال السيرة الذاتية لحاجبه وتربه جعفر الحاجب، الذي كان رفيقه
المخلص في فراره باتجاه الغرب.
واصل
المهدي - كذا نسميه من الآن فصاعدا - قيادته للدعوة من سلمية. لكن حدث في عام 899
انشقاق في الجماعة الإسماعيلية نتج من رفض الداعيين العراقيين، حمدان قرمط وصهره
عبدان، الاعتراف بزعيمهما في سلمية إماما لهما. وهكذا انفصل الفرع القرمطي من الخط
«الفاطمي» الأساسي وسار منذ تلك الفترة وفيما بعد ذلك في وجهته الخاصة في المسائل
الدينية والسياسية على حد سواء. وعندما وصل الفاطميون في أعقاب ذلك إلى السلطة،
حاولوا إعادة كسب القرامطة المنشقين إلى صفوفهم وجعلهم يعترفون بالإمامة الفاطمية.
ويبدو أن هذه الجهود نجحت مع عدد من المجموعات القرمطية لاسيما في العراق وإيران،
لكن قرامطة البحرين (إلى الشرق من شبه الجزيرة العربية) هم من أصروا على رفض
الأئمة الفاطميين.
ثم
كان على المهدي أن يواجه محنة صعبة أخرى، لم تتأتَ عن المعارضة هذه المرة بل
أثارها مؤيدو إمامته. ففي عام 902م ظهر في الصحراء السورية قرب تدمر عدد من الدعاة
الذين من الواضح أنهم كشفوا، دون تفويض من سلمية، عن مكان إقامة إمامهم ودعوا
القبائل البدوية للذهاب إلى سلمية وأداء فروض الطاعة له. وقد شكل هذا التصرف
الطائش درجة عالية من الخطر على المهدي الذي لم يكن مستعدا بعد لأي صراع عسكري مع
خليفة بغداد العباسي، وهكذا كشفت هويته ومكان إقامته في وقت سابق لأوانه لعيون
الخليفة ورجال شرطته. فغادر المهدي سلمية سرا مصحوبا بولده الصغير وعدد قليل من
المرافقين وفيهم جعفر الحاجب. ووجد مأوى له بداية في الرملة، عاصمة ولاية فلسطين. وقامت
القوات الحكومية في غضون ذلك بمهاجمة البدو وأسرت قائدهم الذي اجبر تحت التعذيب
على الكشف عن سر هوية المهدي. وهذا ما جعل من المستحيل على المهدي البقاء في
فلسطين، ولذلك فقد توجه مع مرافقيه نحو مصر. وما أن أصبح هناك حتى تردد بين التوجه
إلى اليمن أو إلى المغرب، حيث سبق أن وجدت في كلتا المنطقتين جماعة إسماعيلية ذات
أهمية. وقرر المهدي الذهاب إلى المغرب. وتمكن، على كل حال، من الاحتفاظ بهويته
مجهولة واستقر مع ولده في واحة سجلماسة (وهي بلدة ريساني في المغرب اليوم ) وكانت
تلك مدينة مهمة في ذلك الوقت وتشكل نهاية لطريق مهم يعبر الصحراء الأفريقية الكبرى.
فأقام فيها العديد من تجار سورية والعراق، مما مكن المهدي من الإقامة في المدينة
بضع سنين ( 905- 909) متخفيا في زى تاجر.
حافظ
المهدي إبان تلك الفترة على اتصال وثيق مع الداعي أبي عبد الله الشيعي الذي تولى
قيادة الدعوة بين بربر كُتامة في ما يُعرف اليوم بالجزائر. وبدا أبو عبد الله
الشيعي في تلك الفترة، مدعوما من قبائل كُتامة المحاربة، غزو افريقية، المنطقة
التي تشمل اليوم تونس وشرق الجزائر. وكانت القيروان عاصمة افريقية ومنها حكم أمراء
سلالة الاغالبة باسم خلفاء بغداد.
وبعد
سنوات من حرب طاحنة، نجح أبو عبد الله الشيعي في الاستيلاء على مدن افريقية
الواحدة تلو الأخرى حتى تمكن في النهاية من عزل أمير الاغالبة وطرده من عاصمته. وفي
مارس /آذار من عام 909م، قاد الداعي مقاتلي كتامة إلى داخل قصور أمراء الاغالبة في
رقادة قرب القيروان. وتبع ذلك ودون تأخير التحضير لحكم المهدي، فضربت نقود جديدة،
وتم الإعلان عن الوصول الوشيك للحاكم الجديد. وسار جيش من محاربي كتامة إلى
سلجماسة لاصطحاب الإمام المهدي إلى رقادة. وعند سماع أمير سلجماسة خبر تقدم هذا
الجيش، سارع إلى حبس التاجر الغريب وولده، بعد أن صدقت شكوكه بأنه كان سبب تلك
الإضرابات، وذلك في قصرين منفصلين. غير أن موقف التهديد من الداعي ومحاربيه الكتاميين
اجبره على إطلاق سراح أسيريه. وقام الداعي أبو عبد الله الشيعي والدموع تنهمر من
عينيه بتقديم التحية إلى إمامه، الذي ربما لم يره إلا منذ سنين عندما كان لا يزال
طفلاً في سلمية. وفي اليوم التالي ( 17/أغسطس/ آب 909م ) قام الداعي باستعراض
قواته أمام الخيمة التي كان يجلس فيها المهدي وولده، بالإضافة إلى جعفر الحاجب - شاهد
العيان ومصدر معلوماتنا. وراحت كتائب الجيش تؤدي فروض الولاء للإمام - الخليفة
الواحدة تلو الأخرى. وفي الرابع من ديسمبر/ كانون الثاني سنة 910م دخل المهدي قصر
رقادة بعد أن زار أراضي كتامة وتلقى فيها فروض الولاء من القبائل المحلية. وفي يوم
الجمعة الخامس من ديسمبر/ كانون الثاني قرئ سجل من على منبر المسجد الكبير في
القيروان أعلن عبد الله أبا محمد، أمير المؤمنين المهدي بالله خليفة جديدا. كان
المهدي في الخامسة والثلاثين من عمره، وطبقا لرواية شاهد العيان، « كان شبابه قد
اكتمل ولم يكن هناك اثر لشيب في شعره »، وولده ذو الستة عشر ربيعا أبو القاسم،
خليفته مستقبلا على العرش بلقب القائم، كان للتو قد طرَّ شاربه.
أما
الدولة التي حكمها أول الخلفاء الفاطميين، عبد الله المهدي ( 909 –934)، فقد امتدت
من الساحل الأطلسي لمراكش مشتملة على كامل ما يعرف اليوم بالجزائر وتونس، وحتى
الساحل الليبي لطرابلس وبرقة في الشرق. كما اشتملت على صقلية، وهي التي افتتحها
المسلمون إبان السنوات 827- 902. وكانت عاصمتها باليرمو ( بالرم بالعربية ) تدعى
ببساطة المدينة من قبل العرب. وهكذا فقد كانت الدولة الفاطمية قوة بحرية منذ
بداياتها الأولى، وراحت تتنافس مع الإمبراطورية البيزنطية على السيطرة والتفوق في
البحر الأبيض المتوسط. وشكلت تونس وسوسة، الواقعة إلى الجنوب منها، مركزين رئيسيين
لصناعة السفن وقاعدتين بحريتين مهمتين. أما القيروان والمدينة الملكية، رقادة، فقد
كانتا داخل البر، بعيدتين قليلا عن الساحل. ولابد أن ذلك كان وراء خطة المهدي في
إنشاء عاصمة جديدة تقع على الساحل مباشرة. فقام شخصيا بالتفتيش في تونس وقرطاج،
لكن الموقعين لم يحققا رغبته، ووقع اختياره في النهاية على شبه جزيرة مهجورة تقع
حوالي خمسين كيلومترا إلى الجنوب الشرقي من سوسة. وكانت شبه الجزيرة الصخرية تلك
ترتبط بالبر الرئيس ببرزخ ضيق لا يتجاوز عرضه 175مترا، وقد سكنتها في الأزمنة
الغابرة جماعة مستعمرة من البحارة الفينيقيين. وكان الفينيقيون قد خلفوا وراءهم،
إلى جانب قبورهم، حوض ميناء صناعيا قُدَّ من الصخر المسطح على الشاطئ.
أسفل
الهضبة كان قصر خليفته على العرش الفاطمي، أبي القاسم (القائم ) واستعمل الشريط
الرملي من الشاطئ الواقع قبل جدار السور كمصلى في الأعياد الدينية الإسلامية
الرئيسة. وكان الإمام _ الخليفة يظهر صباح عيد الفطر وعيد الأضحى شخصيا مع كامل
رجال بلاطه ليؤم الناس في الصلاة وإلقاء خطبة العيد. والى الداخل في البر، أي في
الضواحي، عاش الجنود مع أسرهم: بربر كتامة والعرب والأفارقة والقوات الأوروبية ومن
بينها السلاف فالأفارقة سموا ببساطة « زويله »، بينما عرف السلاف باسم « الصقالبة ».
وتعتبر
مدينة المهدية على الساحل التونسي، مثل القاهرة، واحدة من أهم مآثر التاريخ
الفاطمي الإسماعيلي. وتعيش البلدة الصغيرة اليوم على الصيد والسياحة. ولا يزال
بالإمكان التمتع بمعالم عظمة الفاطميين في كل مكان: البوابة التي لا يمكن
اختراقها، بقايا السور البحري، حوض الميناء، والمسجد المرفوع على مصطبة صناعية
ناتئة إلى داخل البحر ببوابته الفخمة المشابهة لقوس النصر الروماني. وبقي المسجد
الذي ابتناه المهدي لنفسه ولحاشيته خرابا حتى تم ترميمه بالكامل في الستينيات (1960)
ووضع في الخدمة مرة أخرى. توفي المهدي في الرابع من مارس/ آذار سنة 934م بعد أن
ناهز التاسعة والخمسين من عمره. وتلقب ولده أبو القاسم بالقائم بأمر الله. وشهدت
العاصمة المهدية إبان فترة حكمه ( 934_946) أسوأ منحة لها. فقد ثارت عدة قبائل
بربرية من المغرب بقيادة داعية خارجي يدعى « أبو يزيد » امتلأ قلبه ضغينة على العقائد
الشيعية. ونجح المتمردون في اجتياح كامل افريقية في عام 944، واحتلوا مدينة
القيروان أيضا. ونهبت مدينة رقادة الملكية المهجورة ودمرت تدميرا كاملا. وفي كانون
الثاني من عام 945، حاصر المتمردون المهدية من جهة البر، لكنهم لم يتمكنوا من قطع
الإمدادات القادمة إليها بحرا من طرابلس وصقلية. ونظرا لافتقارهم إلى أدوات الحصار
المناسبة فقد فشلوا في احتلال عاصمة الإمام - الخليفة الفاطمي. مرة واحدة فقط وصل
المتمرد أبو يزيد شخصيا إلى أمام البوابة الوحيدة للمهدية، لكنه اجبر على التراجع
على عجل. وطبقا لخرافة فاطمية، فقد كانت تلك اللحظة الشديدة سببا لقيام المهدي
بتخطيط تحصينات المدينة القوية.
ولفترة
قصيرة، بدت الدولة الفاطمية وكأنها تراجعت حتى أسوار المهدية نفسها، لكن لم يلبث
الفاطميون أن نجحوا في كسر طوق الحصار استعدادا لهجوم معاكس ضد المتمردين الخوارج.
غير أن هذا الخرق لم يكن من عمل الخليفة القائم الذي كان قد توفي في مايو/ أيار 946.
فقد قام ولده وخليفته، إسماعيل، الذي أبقى وفاة والده سرا في البداية وتظاهر وكأنه
لا يزال وليا للعهد، ومن اجل المحافظة على المظاهر، قام حتى بمتابعة مراسلاته مع
والد المتوفى. ولم يعلن نفسه إماما / خليفة متلقبا بلقب ملكي مناسب هو « المنصور»،
إلا بعد تفوقه الساحق على المتمرد أبي يزيد وقتله اثنا حملة شاقة.
كانت
إمامة المنصور قصيرة جدا (946- 953)، إذ توفي مبكرا بعد معاناته مرضا طويلا أصيب
به خلال حملته. لكنه خلف وراءه بعض المآثر الخالدة أيضا إضافة إلى شهرته العسكرية.
فبعد طرده للمتمردين الخوارج من القيروان في أكتوبر/ تشرين الأول 946 وانطلاقه من
ثم لمطاردة أبي يزيد، أمر ببناء مدينة ملكية جديدة إلى الجنوب من القيروان مباشرة
قريبا من قرية صبرا وفي منتصف المسافة إلى رقاده. لكنه لم يستطع دخول هذه المدينة
ظافرا وقد سماها «المنصورية » نسبة إلى نفسه وبعد انتصاره على أبي يزيد.
وبعد
انتقال الفاطميين إلى مصر سنة 973، أمضى الإمام / الخليفة الفاطمي الرابع، المعز (953_
975)، القسم الأعظم من فترة حكمه في المنصورية. ففي عهده نمت الدولة الفاطمية
متحولة إلى قوة عظمى! المغرب تم إخضاعه عبر عدة حملات، والبدو من بربر زناتة،
الذين جعلوا الهضاب المرتفعة من الجزائر منطقة غير أمنة، هدءوا وسكنوا. ووصل رجل
المعز المُعتق، جوهر، المملوك الصقلبي، متقدما على رأس جيش فاطمي حتى سواحل
الأطلسي.
ولإثبات
انه وصل إلى المحيط بالفعل بعث إلى الإمام في المنصورية بسمك حي محفوظ في ماء بحري
مالح. أما في صقلية وجنوبي ايطاليا فقد اصطدمت المصالح الفاطمية بمصالح
البيزنطيين، لكن الإمبراطوريتين نجحتا في تحقيق تسوية سلمية عن طريق هدنة كان يجري
تجديدها بانتظام. وطبقا لهذه المعاهدة، دفع الإمبراطور البيزنطي غرامة سنوية إلى
الإمام مقابل موافقة الفاطميين على عدم غزو البر الرئيس لايطاليا وسواحل الريفيرا.
ومن
المنصورية أيضا قاد المعز شبكة عمل الدعوة الإسماعيلية الشاملة. وكان الدعاة
العاملون في أقاليم الدولة العباسية - في العراق وإيران واليمن والسند - يبعثون
برسلهم سنويا لتسليم المستحقات الدينية من مختلف أنحاء الأرض، إلى جانب الرسائل
المتضمنة للتقارير والتساؤلات المختلفة. ومن اجل ضمان سلامة أولئك الرسل، فقد
كانوا يرتحلون عادة عبر مكة متنكرين في زى حجاج، مستغلين الغفلة المعتادة في
القوافل الكبيرة المرتحلة من والى المدينة، والمكونة في الأغلب من آلاف الحجاج. وفي
كتاب « المجالس والمسايرات »، احد مصادر معلوماتنا الرئيسة، نجد قاضي القضاة وداعي
الدعاة، النعمان (ت 974) يصف الحياة في بلاط المعز بطريقة مفعمة بالحيوية. ومن هذا
المصدر علمنا أن الإمام / الخليفة أدار بتوجيهاته شؤون مناطق نائية وصلت إلى ملتان
( في باكستان اليوم ). كان المعز فعلا هو من أمر الداعي بتحطيم صنم ملتان الضخم
الذي كان يظن انه سوف يغري المسلمين بالشرك والعودة إلى الوثنية.أما أعظم النجاحات
السياسية للمعز فقد كانت، على كل حال، توليه للسلطة في مصر سلميا في عام 969.
وجد
الفاطميون الذين كانت أعينهم دائمًا على مصر الفرصة سانحة للهجوم عليها، خاصة
ومركز الخلافة في بغداد مشغول بغارات البيزنطيين. وفي السنة التالية لموت كافور (358هـ،
969م) غزا جوهر الصقلي مصر على رأس جيش فاطمي واستولى على الإسكندرية وسلمت له
الفسطاط دون مقاومة.
·
وإذا كان حقا الفاطميون ينتسبون حقا إلى آل البيت
صدقا فمن أين نشأت فكرة العبيديين ومن أطلقها ؟.
يقول
عبد المنعم ماجد: ومن ناحية يجب الحذر من تلقى المصادر السنية أو غير الشيعية. فقد
كان اغلب هؤلاء لعداوتهم المذهبية للدولة الشيعية، حاولوا إظهار الفاطميين بمظهر
مزيف، ولم يطلقوا عليها اسم الفاطميين، وإنما يسمونهم العبيديين، نسبة إلى جدهم
عبيد الله المهدي، رغبة في نفى انتسابهم إلى الإمام على بن أبى طالب والسيدة
الزهراء (سلام الله عليهم أجمعين)، ولا نجد في كتب التاريخ دولة شوهت بمثل ما شوهت
به الدولة الفاطمية، فهم في رأى السنيين من الروافض ، الذين خرجوا على الدين ، أو
من المجوس أو من اليهود ، والثابت أن هذه العداوة منشأها نجاح الفاطميين في تكوين
خلافة مستقلة ، تنافس العباسيين.
وكتب
المؤرخون السنة تطفح بالعداوة الطائفية ومن أمثالها:
كتاب
"كشف أسرار الباطنية والقرامطة "، للحمادى اليماني ( حوالي القرن الخامس)،
وهو فقيه سني أدعى تشيعه، حتى يتيسر له التشنيع والتشهير بهم.
وكتاب
الفرق بين الفرق، للبغدادي ( ت 429هـ / 1037م)، وهو معاصر للدولة الفاطمية في مصر،
ويعتبر كتابه واحد من اشد كتب التعصب الاسلامى والتكفيري.
كذلك
كتاب فضائح الباطنية، لأبى حامد الغزالي( 505هـ/ 1112م)، والذي ينتقد فيها عقائد
الشيعة بأقوال ساخرة، إذ دعاه خليفة العراق السني المستظهر، ليرد على الدعوة
الفاطمية، ولذا الكتاب يسمى أيضا: كتب المستظهر " أو: فضائح الباطنية وفضائل
المستظهرة " .
وكذلك
كتاب يحيى بن حمزة العلوي الإفحام لأفئدة الباطنية الطغام، ويظهر من عنوانه مقاصد
المؤلف، وفيه من الافتراءات ما فيه على الشيعة إجمالا والفاطميين تفصيلا.ومن هذه
الكتب وكذلك كتب المحدثين السنة ظهر التشهير والاستقطاب المذهبي مع خيانة الأمانة
العلمية لصالح المذهب والطائفة .
·
هل قيام الدولة الفاطمية كان سببا في ضعف الخلافة
العباسية ومن ثم انهيارها ؟
منذ
بداية القرن الثالث الهجري، أخذت الخلافة العباسية في طريقها إلى التمزق داخليا
وخارجيا. فقد انقسمت أملاكها الواسعة بين حكام مستقلين. فقامت الأموية في الأندلس،
والادارسة والاغالبة في شمال أفريقيا، والطولونية في مصر وجنوب الشام، والحمدانية
في شمال الشام وبلاد الجزيرة، والزيادية في اليمن، والقرامطة في البحرين،
والطاهرية والصفارية في خراسان والسامانية في بلاد ما وراء النهر.
وحتى
في بغداد والعراق، التي بقيت لها، أصبح الخليفة نفسه أشبه بشبح لا سلطان له، تحت
وصاية المتغلب عليه من قواده الترك الأقوياء، الذين أصبحوا يسيطرون عليه منذ عهد
المعتصم، فظهرت لهم وظيفة إمرة الأمراء ، التي أبطلت الوزارة والدواوين ، وأصبح
لمتوليها كل السلطة من دون الخليفة ، ولهذا الضعف أطلق المؤرخون عليهم : الخلفاء
المستضعفين ، فقال الشاعر يصف ضعف الخليفة العباسي :
خليفة
في قفص ** بين وصيف وبغا.
يقول
ما قالا له ** كما يقول الببغا.
هذه
الحالة هي التي وصلت إليها الخلافة والخلفاء الذين قالوا عنه أنها حامية الإسلام
والمسلمين، والذي شهد الحال أنها كانت أضحوكة في ايدى غلمانها وعبيدها ومواليها
فضلا عن أعداء الدولة من الروم والبيزنطيين.
هل
الفاطميون كانوا يضطهدون أهل السنة ولا يولونهم المناصب ونصبو الأقباط المسحيين
على حساب أهل السنة المصريين ؟
وللحديث
بقية
0 تعليقات