آخر الأخبار

السلفية الأصولية وبنية المفاهيم (2)






السلفية الأصولية وبنية المفاهيم (2)












محمود جابر

كان الرأي، أو الاجتهاد قبل الشافعي يعيش فى ساحة مفتوحة ، لكل من الرأي والاختلاف ، بيد أن تأسيس الشافعى " لعلم الأصول" دشن مرحلة القطع مع الاختلاف .

ويتضمن علم أصول الفقه حيثيات أربع: الأحكام، والأدلة ، وطرق الاستنباط ( الدلالات) والمستنبط ( المجتهد)، ثم الاختلاف فى كيفية  تناولها، حيث راوحت بين طرق ثلاث: الأولى ، طريقة الشافعية التي اخذ بها المعتزلة والاشاعرة والماتريدية، وتعتمد على تحقيق القواعد الأصولية من الخلاف، والانتهاء بتقرير أقوالها من غير اعتبار مذهبي، واهم أعمالها كتب ( المحصول) للفخر الرازي، وكتاب ( الأحكام فى أصول الأحكام) للامدى .

والثانية طريقة الحنفية ، وتعتمد تحقيق الفروع الفقهية المنقولة عن أئمتهم، انتهاء بالقواعد التي أثمرت الأحكام التى وصفوها، واهم أعمالها كتب ( الأصول) لأبى بكر الرازي ، وكتاب ( المنار) للنسفى.

أما طريقة المتأخرين ، فتقوم على الجمع بين طريقتي الحنفية والشافعية، وتعنى بتحقيق القواعد الأصولية وتطبيقها على الفروع الفقهية المنقولة عن أئمتهم، انتهاء بالقواعد التى أثمرت الأحكام وربطها بها، واهم أعمالا كتب ( إرشاد الفحول الى تحقيق الحق من علم الأصول) لمحمد بن على الشوكانى .

ويحيل نشوء علم أصول الفقه إلى اتساع دار الإسلام ، وما استتبعه من تواتر أراء وتيارات كرست لمشروع الاجتهاد ووقوعه، فيما استلزمت ممارسة هذا الاجتهاد أتباع قواعد الاستنباط من استحضار أسباب النزول، وورود الأحاديث ، وفهم مقاصد الشارع ، فضلا عن معرفة مكامن اللغة العربية.

ويذهب اغلب المؤرخين الإسلاميين إلى ان الشافعى كان أول من قام بالتدوين الكلى لعلم أصول الفقه، وذلك فى أول مصنف له، وهو كتابه( الرسالة)، وبعد الشافعى طور أبو الحسن الاشعرى هذا العلم، حين دشن ( علم أصول الدين) فى مسائل التوحيد والصفات واثبات المعاد، وان جاز القول بتوصيل مجال أصول الفقه فى المذاهب الفقهية بمجال أصول الدين عند المتكلمة من الاشاعرة والمعتزلة، مع تراسل كلا هذين الفرعين من علم الأصول، بمعنى ان علم أصول الفقه كانت توجه علم أصول الدين .

وبذلك فإن علم الأصول الذى وضعه الشافعى مثل إستراتيجية مشتركة بين الفقهاء والسلطة  لأغراض الانسجام العقيدى والتشريعى، ولم يبقى اى هامش للرأى أو للإجماع، وبذلك فقد همش المقاصد والمصالح، وهو ما مثل لحظة متوترة للحصول الانغلاق .


وما لبث أن وقع هذا الصدام ما بين فريق السلفية النصية متمثلا فى أبى جعفر الطحاوى وابن تيمية وابن قيم الجوزية من جهة، وما بين علماء الكلام من جهة اخرى ممن مثلوا منهجية الشافعى الشمولية مثل الجوينى والقرافى والعز بن عبد السلام والنووى، وهؤلاء ساهموا فى تطوير الأدلة كالاستحسان وسد الذرائع ، وصولا إلى الشاطبى فى مؤلفه ( الموافقات فى أصول الفقه) الذى وصل الى مقاصد الشريعة ، التى تعنى حفظ الدين والنفس والعقل والمال والنسل وجلب مصلحة او درء المفسدة، منتهيا الى انه يمكن اعتبار الشريعة مصلحة والمصلحة شريعة، والعمل بها فى شان الاجتهاد الفقهى كمنهج فى فهم النص، وتعاطيه مع الواقع.


واتصف المنهج الأصولي السلفى بربطه التبادلى المتلازم بين الاجتهاد وأصول الفقه.

وشهد الفكر الاصولى فى القرن الرابع توسعا وتنوعا فى موارده مع تنوع مدارك المشتغلين به، ممن بحثوا فى الأصول بعد الشافعى، فكان منهم نحاة وبلاغيون وفقهاء، ومحدثون منشغلين بعلم الحديث، ومتمكنون من علم الكلام ، وهذا بدوره أسهم فى تطوير مباحث هذا الفكر، ومثل دافعا للفقهاء للنظر فى الاستقراء والاستنباط، خاصة فى مباحث العلة او المناط، وغدت مباحثه على جل علم الحديث ، رواية ودراية، ومباحث علم الكلام قياسا ونظرا، واهم مباحث اللفة والبلاغة ، وهو ما يتضح فى قول الجوينى ان أصول الفقه مستمدة من الكلام واللغة والفقه.

ولم يلبث الفكر الأصولي منذ ما قبل القرن الثامن ان بدا يتجرد من ملامحه الفكرية التى صاحبت نشوءه، وتطوره، فقد ازدحمت الشروح، والهوامش، وازداد الأمر تراجعا وانفلاتا وخاصة فيما بعد الشاطبى ، وبدا ينسحب من ميدان التوجيه ، وتوزعت الجهود بين الشرح ، والتهميش وتجمد البحث الأصولي، وتحول الى صنف من المختصرات  المعقدة، وحينما وصل السلاجقة الى السلطة كانت السلفية أمسكت بزمام الأمور وتحولت من منهج فى البحث الى موقفا إيديولوجيا، ومشروعا سياسيا، مفرغا من قيمة الأصلية.

ومع تنامى المحاولات الحالية لتجديد الفكر الأصولي ، مع التأكيد على المقاصد الكلية للتشريع، فاعتباره ضرورة ومقدمة لهذا التجديد، ولان العقل السلفى نمى فى باطن التيار الأصولي من خلال الانشغال بالجزئيات على حساب الكليات والمقاصد العامة ، ومع هذا فكلا التيارين متداخلين بشكل يصعب فصلهما بسهولة .

ويمكن أن نرسم ملامح الخلاف بينهما عبر أربع أمور هى:

الأول، ترى السلفية أن التشريع والحكم يعتمد على الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة، فيما يرى الأصوليون أن الحكم يعتمد على الكتاب والسنة فحسب، مع الاكتفاء بهدى السلف والإفادة من اجتهاداتهم .


الثاني : تؤكد السلفية على تقديم النقل على العقل، وان علم الكلام علما فاقد للمشروعية، ولا مبرر لقيامه، فيما الأصولية تضيف الاجتهاد ، وتركز على التفكير والاستنتاج والاستدلال والاستقراء والنقد والموازنة والاستشراف المستقبلي .

الثالث : تركز السلفية على فقه الشريعة ، فيما الأصولية تركز على المقاصد للوصول للحكم الشرعى.


الرابع : تأخذ السلفية بفهم القرون الثلاثة الأولى  فيما الأصولية تأخذ بتواتر ما حصل ، مع النبي للوصول الى قيمة إستراتيجية مقصديه لان فعل آحاد الصحابة لا يعتبر حجة لأنه رأى من صاحبه ..




إرسال تعليق

0 تعليقات