الأمر الواقع ومعضلة
صفقة القرن
د. احمد درويش
يختلف أسلوب إدارة ترامب تجاه قضية السلام فى الشرق الأوسط عن مقاربة
الإدارات الأمريكية السابقة من حيث أنها تستند إلى حقائق على أرض الواقع ، ويبدو
أن ترامب لم يفهم أن كل الجهود قد تضافرت لإحباط جميع مبادرات السلام السابقة
لأنها لم تكن ترضى عن هذا الواقع ..
فصفقة القرن فرضية مستوحاة من النظرية المعروفة باسم "أطروحة الفائق"
، للبروفيسور جيريمى والدرون بكلية الحقوق جامعة نيويورك، والتى طرحها فى مقالته "التسوية
والعودة ، أطروحة الفوضى" فى يوليو 2004م ، حيث قام والدرون بتقييم تأثير
الظروف المتغيرة على قضايا مثل "حق العودة" الفلسطينى و "المستوطنات"
الإسرائيلية .
يجادل والدرون بأنه لا يمكن تصوُّر أن التفوق قد يضفى الشرعية فى النهاية
على المستوطنات ويقوض حق العودة الفلسطينى ، إلا أن من الظروف ما يجعل الأطروحة
قابلة للتطبيق فى حالات ما بعد الإستعمار مثل أستراليا ونيوزيلندا ، أو هى أقرب
حالاً من بانتوستانات جنوب أفريقيا عام 1970م, التى تم فيها فصل السكان السود
الأصليين عن السكان البيض ، فى مواقع غير متلاصقة محرومين من أى حقوق سياسية ، بل
وتم إجبارهم على إعلان الإستقلال داخل البانتوستانات، فكأن صفقة القرن جاءت لإقرار
ما هو واقع على الأرض أو لإحياء الفصل العنصرى وليست لإقرار السلام .
أثار توقيت الكشف عن الصفقة شكوك الجناح اليسارى الإسرائيلى لتزامن الإعلان
عنها والفترة التى تسبق الإنتخابات العامة الإسرائيلية, والمقرر إجراؤها فى 2 مارس
2020م ، فهذا التوقيت يعنى أنها مجرد صفقة نضال لترامب ونتنياهو من أجل حياتهما
السياسية ، فكلاهما يقفان على خشبة المسرح وتوجه إليهما أصابع الإتهام ، الأول
معرض للعزل من قبل مجلس الشيوخ ، أو على الأقل ستكون فرصة فوزه فى الإنتخابات
الرياسية القادمة ضعيفة جداً ، والثانى توجه له لوائح إتهام جنائية بتهمة الفساد .
فضلاً عن أن خطط الأسبقية الإسرائيلية على الأراضى المقدسة من الأدوات
القوية للدوائر السياسية الرئيسية لكلا الرجلين حيث الناخبون الإنجيليون المسيحيون
لترامب ، والحق القومى الإسرائيلى لنتنياهو .
إلا أن وفداً من قادة المستوطنين الإسرائيلين الذين سافروا مع نتنياهو إلى
واشنطن اشتكوا من أنه لا ينبغى منح الفلسطينيين وطن ، حتى لو تم تفتيته وتوزيعه
إقليمياً وبدون جيش أو مطار ، وكذلك تمت معارضة الصفقة من اليمين اليهودى فهو
يعارض بشدة قيام دولة فلسطينية والتخلى عن شبر واحد من المنطقة " ج " فى
الضفة الغربية .
البنود الرئيسية للصفقة التى تم كشفها بعد طول إنتظار وصدرت فى 181 صفحة :
1- الحدود: تحتوي خطة ترامب على خريطة لما ستكون عليه حدود إسرائيل الجديدة
، إذا ما طبقت الخطة بالكامل، ستحتفظ إسرائيل بـ 30٪ من الضفة الغربية وستفقد
مساحة صغيرة من الأرض فى النقب بالقرب من الحدود بين غزة ومصر، وسيكون للفلسطينيين
طريق مواصلات سريع بين الضفة الغربية وغزة يمر فوق أو تحت الأراضى الخاضعة للسيادة
الإسرائيلية ، بينما تحتفظ إسرائيل بالسيطرة على جميع الحدود .
2- القدس: سيكون للفلسطينيين عاصمة فى القدس الشرقية على أساس الأحياء
الشمالية والشرقية الواقعة خارج الجدار الأمنى الإسرائيلى كفر عقاب وأبو ديس ونصف
شعفاط ، خلاف ذلك ستبقى القدس غير مقسمة كعاصمة لإسرائيل .
3- المستوطنات: ستحتفظ إسرائيل بوادى الأردن وجميع المستوطنات الإسرائيلية
فى الضفة الغربية بأوسع تعريف ممكن ، وهذا يعنى ليس الحدود البلدية لكل مستوطنة بل
محيطها الأمنى، وهذا يشمل أيضا 15 مستوطنة معزولة ، والتى ستكون محصورة داخل دولة
فلسطينية فى نهاية المطاف، داخل تلك المستوطنات ، ولن تتمكن إسرائيل من بناء
المستوطنات على مدى السنوات الأربع القادمة، وسيكون لجيش الدفاع الإسرائيلى حق
الوصول إلى المستوطنات المعزولة ، ويتعين على إسرائيل اتخاذ إجراءات لتطبيق
السيادة على المستوطنات .
4- الأمن: ستسيطر إسرائيل على الأمن من نهر الأردن إلى البحر الأبيض
المتوسط، ولن تكون هناك حاجة إلى أى تغيير فى نهج إسرائيل تجاه يهودا والسامرة (الضفة
الغربية).
5- الدولة الفلسطينية: لا تتضمن الخطة الإعتراف الفورى بالدولة الفلسطينية
، ولن تنشأ الدولة إلا بعد أربع سنوات إذا قبل الفلسطينيون الخطة ، وإذا توقفت
السلطة الفلسطينية عن دفع الإرهابيين والتحريض على الإرهاب ، وإذا أوقفت حماس
والجهاد الإسلامى أسلحتهما، والأنشطة الخبيثة بين الجماعات الفلسطينية ، بما فى
ذلك القضاء على ثقافة التحريض فى الكتب المدرسية بالإضافة إلى ذلك ، تدعو الخطة
الأمريكية الفلسطينيين إلى التخلى عن الفساد ، واحترام حقوق الإنسان ، وحرية الدين
والصحافة الحرة ، حتى لا تكون دولتهم دولة فاشلة، وإذا تم الوفاء بهذه الشروط ،
فإن الولايات المتحدة ستعترف بالدولة الفلسطينية وتنفذ خطة إقتصادية ضخمة قوامها 50
مليار دولار لمساعدتها .
6- اللاجئون: سيتم السماح بعدد محدود من اللاجئين الفلسطينيين وذويهم
بالدخول إلى الدولة الفلسطينية، ولكن غير مسموح قطعياً دخول إسرائيل .
7- المثلث: تترك الخطة مفتوحة لإمكانية قيام إسرائيل بتبديل المنطقة
المعروفة باسم المثلث الذى يتكون من كفر كارا ، عرارة ، باقة الغربية ، أم الفحم
وغيرها مع الدولة الفلسطينية المستقبلية، حيث إمكانية إعادة رسم حدود إسرائيل ،
وفقًا لاتفاق الطرفين .
8- الوصول إلى الأماكن المقدسة فى القدس مسموح لجميع الديانات، والمسجد
الأقصى سيبقى تحت الوصاية الأردنية .
9- نزع سلاح حركة حماس وجميع الفصائل الفلسطينية وأن تكون غزة وسائر الدولة
الفلسطينية المستقبلية منزوعة السلاح .
10- إعتراف الدولة الفلسطينية بالدولة الإسرائيلية وأنها دولة للشعب
اليهودى , أما إسرائيل فهى التى ستقرر متى ينتهى الإحتلال .
بموجب هذه الخطة التى كشف عنها الرئيس ترامب مؤخراً ، سيتم منح الفلسطينيين
حكماً ذاتياً محدوداً داخل وطن فلسطينى يتكون من عدة جيوب غير متلاصقة منتشرة فى
جميع أنحاء الضفة الغربية وغزة، وستحتفظ إسرائيل بالسيطرة الأمنية على الجيوب
والحدود الفلسطينية والمجال الجوى ومستودعات المياه الجوفية والمياه البحرية
والطيف الكهرومغناطيسى، وفى المقابل سيُسمح للفلسطينيين بإختيار قادة وطنهم الجديد
ولكن لن يكون لهم أى حقوق سياسية فى إسرائيل ، الدولة التى طبقاً للخطة تحكمهم
بالفعل .
بعد ثلاث سنوات يصرح ترامب أن السلام فى الشرق الأوسط لم يكن صعباً كما ظن
الناس وأن الصفقة هى الفرصة الأخيرة لإقامة دولة فلسطين ، على إعتبار أن تلك
الدولة البروتونية المفتتة جسديًا قابلة للحياة كدولة حديثة .
تفتقر خطة ترامب إلى الطاقة الدبلوماسية ، مع عدم وجود آلية رسمية للجمع
بين الجانبين (الفلسطينى والإسرائيلى)، لأنها توفر نافذة غامضة لمدة أربع سنوات
للفلسطينيين لاستكمال قائمة طويلة من الشروط المسبقة لمجرد التحدث مع إسرائيل ،
ولم يحضر الإعلان من العرب سوى ثلاث دول فقط من أصل إثنين وعشرين عضوا فى جامعة
الدول العربية .
يدعو اقتراح ترامب أيضًا إلى تجريد المناطق الفلسطينية من السلاح ، بما فى
ذلك نزع سلاح حماس بالكامل ، الذى يسيطر حاليًا على قطاع غزة ، وجميع الفصائل
الأخرى, وبالنظر إلى تاريخ النزاع فى المنطقة ، فإن حمل جميع الفصائل الفلسطينية
على تسليم الأسلحة على الرغم من أن إسرائيل تحتفظ بكل أسلحتها سيكون أمراً
مستحيلاً .
إن قرار الولايات المتحدة بالاعتراف بجميع المستوطنات فى الضفة الغربية
كجزء فعال من إسرائيل ينتهك القانون الدولى وقرار مجلس الأمن رقم 242 الذى يؤكد
عدم جواز الإستيلاء على الأراضى عن طريق الحرب .
كما تمهد الخطة الأمريكية الجديدة الطريق لنتنياهو أو خليفته لضم جميع
المستوطنات ، والتى تأتى بعد اعتراف الولايات المتحدة بالإحتلال الإسرائيلى
لمرتفعات الجولان وانتقال السفارة الأمريكية إلى القدس .
وصف دانييل كورتزر ، السفير الأمريكى السابق لدى إسرائيل ومصر، الخطة بأنها
أحدث مثال لدبلوماسية " ثعبان النفط " فى هذه الإدارة ، حيث عبأت
الأفكار عديمة الفائدة وحاولت تسويقها على أنها مبتكرة ، فكشفت عن خطة يرفضها
الفلسطينيون بشكل مبرر ، ومن ثم تمنح الإدارة فرصة لدعم الإجراءات الضمنية التى
تقوم بها إسرائيل .
إن خطة ترامب مليئة بالتدابير التى تشكل جرائم حرب فى القانون الدولى ،
ويتم تصنيف نمط منهجى لجرائم الحرب على أنه جريمة ضد الإنسانية فقد أغرقت إسرائيل 400000
من مواطنيها فى الضفة الغربية الفلسطينية المحتلة ، حيث سرقوا الأراضى الفلسطينية
وبنوا مستوطنات عشوائية فقط ، حيث لا يُسمح للفلسطينيين بالعيش فيها، وغالبًا ما
يكون هؤلاء المستوطنون الإسرائيليون مسلحين ، ويقوم بعضهم بشكل روتيني بشن هجمات
على القرى الفلسطينية أو يرتكبون أعمال تخريبية ضد البساتين الفلسطينية والزراعة ،
كما تسمح خطة ترامب لإسرائيل بضم حوالى ثلث الضفة الغربية المحتلة مما يتعارض هذا
كله مع اتفاق جنيف الرابع لعام 1949م بشأن الأراضى المحتلة .
تتوخى الخطة حرمان العديد من مواطنى عرب إسرائيل من جنسيتهم الإسرائيلية ،
وسيحصلون بدلاً من ذلك على المواطنة فى الدولة التى لن يعترف بها أحد ، الأمر الذى
يرقى بحكم الواقع إلى إجبار هؤلاء المواطنين الإسرائيليين على إنعدام الجنسية ،
مما يتعارض مع اتفاقية الأمم المتحدة للحد من حالات انعدام الجنسية .
تؤكد الخطة على نزع السلاح الفلسطينى ، مما يعنى حرمان الفلسطينيين من حق الدفاع
عن النفس، وحق الدفاع عن النفس معترف به في الفصل السبع من ميثاق الأمم المتحدة
المادة 51 , فلا يوجد فى هذا الميثاق ما يضعف الحق الأصيل فى الدفاع الفردى أو
الجماعى عن النفس إذا وقع هجوم مسلح ضد عضو فى الأمم المتحدة ، حتى يتخذ مجلس
الأمن التدابير اللازمة للحفاظ على السلام والأمن الدوليين .
إن الجيوب التى سيتم تسليم الفلسطينيين إليها لا تمنحهم أى سيطرة على
حياتهم بدون تواصل جغرافى ، فلن يتمكن الفلسطينيون من ممارسة حقهم فى تقرير المصير
وسيظلون يعتمدون إعتمادًا تامًا على حسن نية إسرائيل فى حياتهم اليومية ، بدون
حقوق سياسية ولا وسيلة للتأثير على مستقبلهم, وسيظلون تحت رحمة النظام الإسرائيلى
ويحتاجون إلى موافقته على أى بناء أو تطوير .
وبعد هذا العرض الموجز علينا أن نتسائل ما الهدف من الإعلان، فهل هناك رغبة
أمريكية إسرائيلية حقيقية فى التوصل إلى حل ، خاصة وأن هذا الإعلان قد يتسبب فى
خطر اندلاع أعمال عنف فى الضفة الغربية ، أو إشعال موجة من الإحتجاجات مما يشجع
على نطاق واسع الأعمال الإرهابية , فكيف سيتم الإعتراف بفلسطين كدولة وأهم
الإعتبارات فى مفهوم الدولة هى السيادة، ومن منظور الصفقة الأمريكية فإن إسرائيل
ستظل تتحكم فى مداخل ومخارج الدولة الفلسطينية، وعلى جميع حدودها ، فضلا عن فرض
السيادة الأمنية عليها، والإحتفاظ بحق التدخل إذا رأت ذلك .
فمن المحتمل أن تتيح خطة ترامب إستمرار الصراع الفلسطينى الإسرائيلى ، مع
تداعيات مشؤومة لجميع البلدان فى الشرق الأوسط المضطرب , فلا ينبغى تنفيذ خطة
ترامب للسلام لأنها تنتهك بشكل خطير حقوق وكرامة الشعب الفلسطينى, كما تعطى
الإسرائيليين وهم الأمن بينما تحاصرهم المخاطر فى ظل نظام غير مستقر يقوم على
القمع العنصرى, وبمجرد أن ننظر إلى الماضى سنرى أن صفقة القرن ليست إلا
بانتوستانات جنوب أفريقيا .
والأفضل هو التحرك السياسى الفلسطينى ، بلمّ الشمل بين الضفة والقطاع
وتشكيل حكومة موحدة، والتفاوض على أساس خطة السلام العربية لعام 2002م، والمطالبة
بتنفيذ قرار مجلس الأمن رقم 242 لسنة 1967م ، والعمل بجميع الأدوات والوسائل
القانونية والسياسية التى تضمن الحق الفلسطينى .
0 تعليقات