مرجعية
اليعقوبي
مرجعية صنعها
الله
عباس الزيدي
كلما تقدم الإنسان بالسن كلما ازداد وعياً وحكمة؛ هذا ما يفترض به
أن يكون الحال. لأن المشاهدات والتجارب تتراكم فينتج عنها مقدمات مطوية تدفع
الإنسان تلقائياً لاتخاذ موقف أو إجراء ما متناسب معها. هذا أمرٌ. الأمر الآخر : كلما
تأملت في سيرة ومنهج وكلمات الشهيد السيد محمد الصدر (قدست نفسه) كلما وجدتني أمام
قيمة يتعذر وصفها؛ على الأقل بالنسبة لي؛ هذا العملاق الذي جمع بين منهجي الظاهر
والباطن مستوعباً لهما، تجده ينفذ في العمق، دقيق الكلمات، تظن أحياناً أنه يبالغ
ولكنك ستذعن لاحقاً بعد أن يتضح لك بُعد نظره. كنت يومياً أتشرف برؤيته أكثر من
مرة، عند صلاتي الظهرين والعشائين في الحرم العلوي الشريف (على ساكنه الصلوات
الطيبات) وفي مكتبه، ولم يحل بيني وبين ذلك إلا ما هو خارج عن إرادتي. وعادة ما
يقل عنفوان الشخص مع التعود اليومي على رؤيته والاستماع إليه، إلا أن ذلك لم يرد
بشأنه، ففي كل يوم أجدني أكثر تعلقاً وانجذاباً وانبهاراً به، ليس لالتفاتاته
العلمية والاجتماعية فحسب؛ بل لنفاذه في عمق نفسك كأنه مطلع على حديثك لنفسك. لا
يتحمل المورد الإطالة فلهذا حديث آخر يأتي يوماً ما بإذن الله.
استشهد الصدر مع ولديه، وأُلقي به مسجى معهما في المشفى بانتظار أن
يقوم أحد الشخصيات المعروفة في النجف باستلام الجثامين ومن ثم تجهيزها والصلاة
عليها، ومضى أُولئك الفتية المجروحون بفداحة المصاب يطرقون الأبواب، لم يغمض لهم
جفن منذ الليلة السابقة، ولكن جثمان سيدهم المسجى يؤرق أنفسهم قبل أجسادهم، فلم
يتركوا أحداً من المعروفين إلا وقصدوه تقريباً، بعضهم نائم الآن ولا يمكن إيقاظه،
وبعضهم يخشى أن يترك أبنائه لوحدهم في الليل، وبعضهم يرتعش خوفاً ولم يجب طارق
الباب حتى. وجلُّهم فرح بهذه الأنباء، لقد تخلصوا ممن كان يؤرقهم ليلاً ويزعجهم
نهاراً. وهكذا : خلا لك الجو فبيضي وصفِّري.
وبعد أن وجدوا أن جولتهم لم تجد نفعاً ولا إجابة عادوا إلى من كان
يجب أن يكون أول من يُدعى لهذه المهمة، إلى تلميذه وناصره يوم شدَّته، إلى
اليعقوبي، فتمت كلمة ربك. ولكن ما قيمة هذا الأمر؟, ولماذا هذا التهويل للمسألة؟.
إنما هي مجرد صلاة يمكن أن يقوم بها أي شخص.
من المرتكزات عند المتشرعة المبنية على نصوص متعددة، أن الإمام لا
يصلي عليه إلا إمام، وهذه كانت من علامات معرفة الإمام الحي وتشخيصه. ولكنها علامة
قد تخفى، فقد يصلي على الإمام أحد موظفي السلطة، وهذا صحيح ولكنه لا يعني أن صلاة
أخرى لم تقم قبل صلاة السلطان أو بعدها من قبل وليه خفية. حتى أصبحت هذه المسألة
من مرتكزات الشيعة لمعرفة المرجع بعد المرجع.
تحدث العميدي وهو الدفان الذي تولي نقل جثمان الشهيد السيد محمد
باقر الصدر من موقعه الأول في منطقة أبو صخير إلى وادي السلام، أنه تقدم قبل خطوته
هذه بسؤال الصدر الثاني عنها، فأجابه : إن الله لا يضيع أوليائه. وهذا جواب صدري
بامتياز. وكأنه (قدست نفسه) لا يتحدث عن نقل جثمان أستاذه بل يتحدث عما ستؤول إليه
الأمور بعد مقتله, وحيرة فتيته, وهم ينشدون أحداً يتولى أمره، ولكن : إن الله لا
يضيع أوليائه, لا هم أحياء ولا هم أموات. فآلت الأمور إلى أهلها، وتولى أمره
وصيَّهُ، كما خطط الله تعالى. وللموعظة والاستزادة فقد تأملت ملياً بما جرى مع
الصدر الأول بعد مقتله، حيث أبى الله أن يتولى أمره أحد ممن كانوا من خواصه
وطلبته، الذين لاذوا فراراً وتركوه يواجه المصير المحتوم وحيداً. ولكن هذا أيضاً
مما خطط الله تعالى, لأن الله لا يضيع أوليائه، فتسلمه وتولى أمره أحد أتقياء
عصره، ابن عمه السيد محمد صادق الصدر (قدست نفسه)، الذي جهز جثمانه وصلى عليه
ودفنه.
ألا أننا مقبلون على أمور عظيمة وفتن لا ينجو منها إلا من أخذ
بحجزة آل محمد (صلوات الله عليهم) ومن ناب عنهم، وكما جاء في الكتاب الذي ورد
للشيخ المفيد من الإمام (عجل الله فرجه) حسب رواية الطبرسي في كتابه : الاحتجاج :
((نحن وإن كنا ناوين بمكاننا النائي عن مساكن الظالمين، حسب الذي
أراناه الله تعالى لنا من الصلاح ولشيعتنا المؤمنين في ذلك ما دامت دولة الدنيا
للفاسقين، فإنا نحيط علما بأنبائكم، ولا يعزب عنا شيء من أخباركم، ومعرفتنا بالذل
الذي أصابكم مذ جنح كثير منكم إلى ما كان السلف الصالح عنه شاسعاً، ونبذوا العهد
المأخوذ وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون. أنَّا غير مهملين لمراعاتكم، ولا ناسين
لذكركم، ولولا ذلك لنزل بكم اللأواء و اصطلمكم الأعداء. فاتقوا الله جل جلاله
وظاهرونا على انتياشكم من فتنة قد أنافت عليكم, يهلك فيها من حَمَّ أجله, ويُحمى
عنها من أدرك أمله..... اعتصموا بالتقية من شب نار الجاهلية، يحششها عصب أموية،
يهول بها فرقة مهدية، أنا زعيم بنجاة من لم يرم فيها المواطن، وسلك في الطعن منها
السبل المرضية... ويحدث في أرض المشرق ما يحزن ويقلق ، ويغلب من بعد على العراق
طوائف عن الإسلام مراق، تضيق بسوء فعالهم على أهله الأرزاق ، ثم تنفرج الغمة من
بعد ببوار طاغوت من الأشرار، ثم يستر بهلاكه المتقون الأخيار، ويتفق لمريدي الحج
من الآفاق ما يؤملونه منه على توفير عليه منهم واتفاق، ولنا في تيسير حجهم على
الاختيار منهم والوفاق شأن يظهر على نظام واتساق . فليعمل كل امرء منكم بما يقرب
به من بمحبتنا، ويتجنب ما يدنيه من كراهتنا وسخطنا، فإن أمرنا بغتة فجاءة حين لا
تنفعه توبة ولا ينجيه من عقابنا ندم على حوبة)).
ومحل الحاجة منها هو التمسك بالأمر الأول كما عبَّرت بعض الروايات،
ألا وأن أمرنا الأول الذي نعرفه حق المعرفة ولا نحيد عنه، أن نأخذ بحجزة سماحة
الشيخ اليعقوبي فهو لن يدخلنا في ضلالة ولن يخرجنا من هدى.
وأُشهد الله ورسوله أن لو كنت أعرف أن هناك على وجه الأرض من
المتصدين من هو أتقى لله منه وأعلم بأمر الله لما حدت عنه.
عليها أحيى وعليه أموت. و :
إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب.
4 رجب 1441
0 تعليقات