محمد حافظ دياب -
خطاب ما بعد الحداثة انحلال الحتمي وإغراء المختلف
قد يبدو استهلال الكلام عن الحداثة مدخلا ملائما لمقاربة خطاب ما بعد
الحداثة، وأن أزمة الحداثة ونقدها في الغرب شكلا أساس مولد هذا الخطاب.
والأمر حول الحداثة يتعلق بمشروع حضاري، ارتدى عبر سيرته أصباغا متنوعة
وأشكالا متعددة : فمع بداية القرن السادس عشر، انتشر في أوروبا كمعارضة للنمط
التقليدي الإقطاعي، ومثل انعطافة تاريخية أثناء القرن الثامن عشر، حين حمل قوى
اجتماعية جديدة بمفاهيمها وقيمها التي ترجمتها عقلانية عصرا لتنوير وفلسفة الحقوق
البورجوازية والعلمانية والتصنيع وتقدم العلوم واستغلال الطبيعة، والإيمان بتقدم
خطي. واستحال في طور آخر نهاية القرن التاسع عشر، الى مفاهيم جمالية وأساليب فنية
عارضت الواقعية والكلاسيكية والرومانسية، وانفتحت على الابتكار والتجريب. وتبلور
عقب الحرب العالمية الثانية في الولايات المتحدة، كي يلائم الظروف الموضوعية التي
حققت نجاح التوسع الرأسمال، ليضحى رديفا لتخفيف احتدام الصراعات الاجتماعية،
وتعجيل التحضر، وتوسيع قاعدة الفئات الوسطى، ليغز وأوروبا بهذه الكيفية بعد ذلك،
ويلهم مشاريع التحديث في عالم الجنوب، مع انهيارا لحكم الاستعماري في معظم بلدانه،
حيث تركز الاهتمام في اكتشاف الطرق والوسائل التي تساعد على تحديثها طبقا للنمط
الغربي،وان تبدى في الفترة المبكرة لحركة مناهضة الاستعمار لدى هذه البلدان، تفاؤل
بعثورهم في الاشتراكية على بديل لهذا النمط. وقام الغرب بتشجيع ورعاية هذا
التحديث، في إطار استراتيجيته لتطويق وعزل الاتحاد السوفييتي وبلدان الكتلة
الاشتراكية.
نقد الحداثة :
بيد أن انجازات مشروع الحداثة، بكل مراحلها وتضاريسها وتبايناتها، بدأت
تفرز تداعياتها في طغيان العقل وتراجع الروح وحيرة الكائن وعجزه ومصادرة إمكاناته،
لتغدو هذه الانجازات موضع تساؤل منذ الخمسينات، مع اندلاع حرب فيتنام، وانتفاضة
الشباب في فرنسا عام 1968، التي تحدت طموحات العالم الممركز "لديجولية "
ما بعد الحرب، لتعقبها أزمة السبعينات الاقتصادية، وتراجع التجارب الديمقراطية
الاجتماعية في أوروبا، والطفرة التكنولوجية، وسقوط النموذج السوفييتي، ومؤخرا
الظهور الطاعن للعولمة، مما أدى الى انهيار أوهام الحداثة في أشكالها السابقة، وإفساح
المجال لظهور تيارات فكرية، أعادت النظر في أفكار عصر التنوير عن العقل والتحرر
والتقدم وانتقدت مشروع الحداثة وسعت الى مراجعته، برفض تصور الابستمولوجيا الغربية
للحقيقة، القائمة على ادعاء قدرة المعرفة والتنبؤ، والتمرد على ما أطقت عليه
"أسطورة الذات » التي تراها كمركز للعالم، ونقد المنطق الكلي في السياسة
والأخلاق، وما ينحل عنه من أنظمة متسلطة، ومعارضة ميتافيزيقية التفكير الفلسفي
التي تتحصن بمعرفة يقينية خالية من احتمالات التناقض واللاتحديد والانقطاع. (1)
كان الفيلسوف الألماني فردريك نيتشة F. Nitzsche (1844- 1900) أول من بدأ
بقطيعة فكرية مع العقلانية المتمثلة بالحداثة ونبذها، حين تحدث عن عتمتها واظلامها
واكفهرارها ومرضها، وهاجم مفهومها حول التقدم، ونزع القيمة عن التاريخ كعملية
صاعدة، ورفع صوتا ضد عبادة الدولة والليبرالية السياسية، وبشر بإنسان خارق، يستطيع
تجاوز حدود عصره والتعجيل ببزوغ فجر جديد للبشرية.
وطبقا ليوجين فنك E. Winnick رأى نيتشة أن المفاهيم الكوزمولوجية، المتمثلة في التصورات التي
تستهدف اعطاء وحدة وكلية ومغزى للتاريخ،هي مخططات للتفسير الميتافيزيقي التي تبغي
ادراك الصيرورة، بافتراض أن لها معنى وان للتاريخ هدفا، بما يقود الى العدميه(2).
وتحدث مارتن هيدجر M. Heidegger عن هيمنة العقلانية على كل مظاهر الحياة، واعتبار الذات، أو بقوله
«ميتافيزيقا الذات »، أساس العالم ومقياسه الوحيد، وهيمنة التكنولوجيا، والتي هي
لديه استكمال للمشروع الحداثي، من حيث احكام الانسان وسيطرته على الطبيعة، ومن ثم
فهي ليست سوى استمرار للميتافيزيقا الغربية وكمالها على الأرض، حيث التنظيم
التكنولوجي للأرض هو الصيغة الناجزة للميتافيزيقا، اضافة الى النظر للكائنات كما
لو كانت أرقاما تدار إدارة بيروقراطية، بما هدف لديه «تحطيم الميتافيزيقا الغربية
"، وعنى بها الافتراضات الانطولوجيه التي تتحكم في التصورات النظريه (3).
كذلك توقفت مدرسة فرانكفورت في ثلاثينات القرن الحالي أمام سيرورة العالم
المطلقة السراح، ووسمت الحداثة بانطلاق العقل الأداتي instrumen tal mind الذي يترجم
الى تقدم تكنولوجي واقتصادي لآ محدود، ويحفز السيطرة التكنولوجية، بما يجعله يتحول
الى مجرد جهاز للسيطرة على العلاقات الاجتماعية، والتشيؤ reification وتعاظم البيروقراطية.
فالحداثة على ما يرى اثنان من اعلامها : ماكر هو كايمي M,Horkheimer وثيودور
أدورنو Adorno
The. " ليست سوى هيمنة عقلانية ونفعية للطبيعة وللحاجات، لدرجة
أن العقل اندمج مع السلطة وأصبح طاغيا. ذلك أنها طوعت لنفسها عقلا أداتيا، اتخذت
منه أداة في خدمة رأس المال، فتخلت بذلك عن قوته النقدية، اضافة الى أن العلم
الحديث وجد نفسه بهذه الكيفية في خدمة المردود التكنولوجي بصفة كلية، مما أدى الى
تحول أسطورة العقلانية النفعية الى قوة مادية» (4).
وقد مثلت المفاهيم النقدية التي صاغت من خلالها هذه المدرسة تصوراتها لأشكال
السيطرة والسلطة داخل المجتمع الرأسمالي (العمل الانساني، العقل الأداتي صناعة
الثقافة، الاغتراب، ايروس التحرر واللوجوس القمعي، انسان البعد الواحد..). قدرتها
على تفسير مظاهر الهيمنة داخل مجتمعات الحداثة الرأسمالية، وبالذات المنهج الفلسفي
النقدي الذي صاغه أدورنو «الجدل السلبي" negative dialects والذي يعد
أساس كل نزعة نقدية عميقة للحداثه (5).
في هذا السياق، تبلور، وبالأخص منذ العقدين الماضيين، خطاب ما بعد الحداثة،
ليصل في توجهاته الجوهرية، رفضا للكلي، ونفيا للجدلي، وتكريسا للنسبي واليومي
مقابل الحتمي والتاريخي، وتحررا من الزمن الخطي، والغاء التمايزات بين الاجتماعي
والثقافي، ودحضا للحدود الفاصلة بين الحقول المعرفية، ومراودة للحق في الاختلاف
بدل التماثل، كمحاولة لاقصاء السياسات وحيدة الجانب، وتشظيا للخطاب وتصدعه، تعبيرا
عن تفك العلاقات السائدة.
إضاءة تاريخية :
على أن الخلاف يظل قائما حول الآفاق التي غلفت ظهور خطاب، ما بعد الحداثة :
هناك من يرده الى مرجعيته في تاريخ المجتمعات والأفكار الأوروبية، حيث من طغيان
الثورة الصناعية والآلة العملاقة، ظهر فكر يتلمس قلق الحضارة وغربه الانسان وتشيؤ
العلاقات الاجتماعيه(6). أما سكوت لأش S. Lash فيتعرف على مرجعيته في اضمحلال البنيوية،
وضمور التفسيرات الوظيفية السببية، وتطور الفاعلية الرمزية بمضامينها النسبية، وهي
توجهات أكدها على مستوى الواقع، تطور طبقات جديدة، هي الطبقات الوسطى للمجتمعات ما
بعد الصناعية، والتي يمر مجالها الثقافي راهنا بتوسع (7). بخلاف ذلك، يعاين أستاذ
الفلسفه الايطالي جياني فاتيمو G. Vattimo السياق التاريخي لما بعد الحداثة في تحولين أساسيين تستقي منهما
الالتها: نهاية السيطرة الأوروبية على العالم، وتطور وسائل الاعلام التي أفسحت
مجالا للثقافات المحليه والفرعية(8).
وصوغ ما بعد الحداثة في مفهوم محدد، انما صار الى التشكل في سياق عملية
متعددة الاسهامات متنوعة، متفاعلة، تجاذبتها التيارات الفكرية والحقول العلمية
والمجالات الفنية المتواجدة، وأسهم فيها الظرف التاريخي والاطار الاجتماعي واللحظة
الحضارية، وهو ما عبر عنه عالم الاجتماع الفرنسي ألان تورين A.Touraine حين ذكر انه نتيجة حركة فكريه ممتدة.(9)
هناك من يرد المفهوم الى الفنان البريطاني جون تشابمان J.Champman عام 1870أو
الى رودلف بانفيتز . Bannwitz . R عام 1917،أو الى الكاتب الاسباني فيدريكو دي أونيس F. de Onis عام 1934،
أو الى الانثربولوجي دادلي فيتس D. Fitts عام 1942أو الى برنارد سميث B. Smith عام1944،لكن من المؤكد أن ارهاصات مهدت له
في أعمال ديفيد لورنس D.H. Lawrence ودو صاد ,De Sade وشارل بودلير Ch.Baudelaire ورامبو A. Rmbaud ،وألفريد جاري A. Jarry وفرانز كافكا F. Kafka والفنان الدادائي الفرنسي مارسيل دوشامب M. de Champ وموسيقى
البوب، والتيارات الراديكالية، وكلها خرجت على القواعد المقررة ورفضت الخضوع
لأروثوذكسية الفنون ونخبويتها، وأومأت الى زمان ثقافي صائر للاستبدال والتجاوز.
وهكذا إذا لم يكن ثمة اسم اصطلاحي لما بعد الحداثة حاضر في أجندة الفكر
الغربي وقتذاك، فإن هذا لا يعني خلو هذه المحاولات من سماه. ذلك أن غياب الدال
الذي يعين الاسم الاصطلاحي تعيينا مريحا، يجب الا يفهم على أنه غياب للمدلول أو
المحمول المعرفي الذي يتصل به، أي المسمى، انها الكلمة أو أن غيابها، حين تفصح عن
القصد.
يمكن على أية حال معاينة نشوء مفهوم «ما بعد الحداثة " كردة فعل لحالة
التشوش التي أعقبت الحرب العالمية الأولى في أوروبا، ومثلت تجلياته الأولى خلال
الثلاثينات،. تحديا لنزعة الحداثة، وان جاز القول أن المفهوم قد وجد تفتحا الفعلي
ايامها في الولايات المتحدة، مع ظهور الوعي الأمريكي في فن العمارة والفنون
الأخرى، ولسبب من عدم ارتباط الوعي الأمريكي بماض يكبحه ويحدد شروطه، وخلال عام
1947، قدمه المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي A. Toynbee ،ليدل على
امارات ثلاث رآها تميز الفكر والمجتمع الغربيين منتصف هذا القرن، وهي اللاعقلانية
والفوضوية واللامعيارية، بسبب من اقول دور البورجوازية في التحكم بتطور الرأسمالية
الغربية منذ نهاية القرن التاسع عشر، وحلول الطبقة العاملة الصناعية محلها، وهو ما
رآه انقلابا بل انحطاطا للقيم البورجوازية التقليدية.
ومع الخمسينات، بدا المفهوم كرديف فني للفلسفة الوجودية التي تؤكد المبادرة
الفردية وتمردها على سجن النسق، ليتطور بعد ذلك مع دخول المجتمعات الغربية مرحلة
جديدة. وما لبث أن أخذ مكانه في التداول الأدبي والفني، احتجاجا على سطحية حركة
النقد الأدبي الحداثية، وهو ما أكده ليسلي فيدلر L. Fiedlerوالنا قد الأمريكي
المصري الأصل إيهاب حسن، الذي يعد أبرز الرواد المعتمدين لحركة ما بعد الحداثة.
ومثل كذلك رفضا للجماليات الكلاسيكية، وبالذات ما يتصل بالسرديات والرقص والمسرح
والتصوير والسينما والموسيقى وهندسة العمارة والرسم. ففي مجال فن العمارة الذي يعتبر
المجال الفريد الذي تظهر فيه ما بعد الحداثة بشكل جلي ومحسوس، مثل رفضا لنموذج
المعمار الحداثي المستلهم لمثال الآلة والمصنع بوصفه النموذج الأمثل، وتم تفسيره
من زاوية تناقضه المباشر مع الأسلوب الصارم والوظيفي للعمارة الحديثة، وقام على
خلط الأساليب الحديثة بالقديمة، والاستعاضة على التقشف بالتنميق،وعن التقليد
بالاثارة، وعن التجريد بالخربشة في التصميم، ونبذ الوحدة البنائية للعمل لحساب
تجاوز مفرداته التي لا تخضع لمنطق ثابت يفرض مجالات توظيفها الفني والجمالي.
بعدها برز مفهوم " ما بعد الحداثة " على شكل مساهمات نظرية
ومنهجية لدى المشتغلين بالفلسفة وعلم اللغة، وعلم النفس الجماعي والاقتصاد السياسي
وتاريخ الحياة اليومية وعلم البلاغة واللاهوت، والأنثروبولوجيا بكيفية أوضح،
باعتبارها أكثر تراودا مع توجهات ما بعد الحداثة الثقافية. وبالذات ما يتصل بالحد
من النزعة العلمية المبالغة Scientism سادت دراسات هذا الحقل المعرفي، وصولا الى صدق نسبي وحقيقة
محدودة،وهو ما بدا في مساهمات أنثربولوجية ما بعد حداثية، تغيت طرقا للعرض
والمقاربة ذات منظورات متعددة بدل المنظور الواحد، واقترحت كتابة حوارية متعددة
النصوص بدل انفراد باحث واحد بنص ناجز محمل بالأحكام القاطعة والنتائج النهائية
اتساقا مع التوجه ما بعد الحداثي، الذي يذهب الى أن أي نص هو عملية تفاعل بين نصوص
متعددة أو ما يطلق عليه «التناص " Inter-texuality ( 10).
ومع بداية السبعينات اتخذ من منهجية التفكيك لدى عالم الاجتماعي الفرسي جاك
ديريدا Derrida سندا نظريا،
وهي منهجية اهتمت بعدم استقرار كافة أشكال الخطاب، ورفض تأويلاتها القاطعة، وشحوب
المسلمات الثقافية التقليدية الكبرى، ليدل وبشكل متزايد، ليس فقط على الأجناس
الجديدة المبتدعة من التعبير الفني والأدبي، بل لما يقف وراءها من أساليب تدعم
لوحتها، كالعفوية، والكولاج، ومناهضة التناسق راهنا، كتعبير عن ظاهرة متعددة
التجليات، تخص الفن كما تخص التحليل النظري، وتسم مجالات التفكير والثقافة
والاجتماع كمزاج فكري يرتبط بنمط من التفكير غير الميتافيزيقي بالعالم، وحساسية
جديدة في التعبير وشرط للوجود الاجتماعي (11).
وخلال الثمانينات، تنامى ظهور مبحث سوسيولوجي له في بريطانيا، تحت مسمى
"علم اجتماع ما بعد الحداثة » , Postmodern Sociology لدى سكوت لاش. وديفيد هارفي , D.Harvey وانتوني
جيدنز ,A.
Giddens ومايك فيذر ستون ,M.Featherston وكولان كامبل C. Cambell وغيرهم،ممن
حاولوا التخلي عن مفاهيم ونظريات علم اجتماع الحداثة، وقاموا بتأويل أعمال ماركس،
وتكريس الكوني، والافادة من ثورة المعلوماتية، وبشروا بمجتمع خال من الطبقات
والثقافات المهيمنة، وبنهاية الايديولوجيات الكبرى، وهو ما دعا نيل سملسر N. Smelser الى اعتبار هذا
المبحث بداية النهاية لعلم الاجتماع الفسيفسائي المعبر عن خصوصية الدولة الوطنيه
.(12)
وقراءة أعمال هؤلاء السوسيولوجيين ما بعد الحداثيين، تؤكد ارتباطها بأفكار
كل من ألفنت وفلر A. ToffIer. ودانييل بيل D.Bell. ،حيث طرح توفلي منذ السبعينات أول محاولة جامعة في استكشاف معالم
ثورة المعلوماتية قبل أن تنطلق، والتي تعد أحدى الآليات الأساسية للعولمة، وبشر
بتحول المعرفة الى «وقود سريع الاشتعال "، وكرس لما أطلق عليه «مجتمع الموجة
الثالثة ". Third wave society أما بيل، فرأى أن العالم يدخل عصرا تاريخيا جديدا، عاينه فيما
أطلق عليه "المجتمع ما بعد الحداثي "Postmodern society " أو
«المجتمع ما بعد الصناعي» Postindustrial society " الذي ينتقل من مرحلة انتاج السلع الى
مجتمع الخدمات، ويشمل كلا من البلدان الرأسمالية والاشتراكية، حين تضحى المعرفة هي
القوة الرئيسية الدافعة للتطور الاقتصادي، بفضل احتلال «الرجال الجدد» من علماء
وخبراء الاجتماع والرياضيات والاقتصاد لمواقعهم في حيازة لوح المعرفة، وتطبيق
"التكنولوجيا الذهنية الجديدة » التي جاءت مع استخدام العقول الالكترونية،
وحيث سيزول الاختلاف بين الأنظمة وينتهي التعارض بينها، ويتآكل العالم الاشتراكي،
وتحل بتعبيره «نهاية الايديولوجيا»(13).
على أن المفهوم لا يبتعد في كافة تفاصيل سيرته، وبخاصة في الراهن، عن
تجسيده لسيرورة تآكل ثم انهيار المشروعات الكبرى (مشروع دولة الرفاه في الغرب،
والمشروع السوفييتي، ومشروع التنمية في بلدان الجنوب.، وتعاظم قوة الانتاج
التكنولوجي، وتزايد نذر العولمة. والمفارقة هنا في صيغة التلاقي والتنافي بين ما
بعد الحداثة كمحاولة لخلخلة التأويل الكوني، وبين العولمة كمحاولة لهيكلة ناجزة
للعالم.
في أزمة المفهوم :
ورغم أن مقولة التحديد لا ترد في معجم ما بعد الحداثة الرافض لأي تحديد،
يشار هنا الى اختلاف دارسي ما بعد الحداثة وتباينهم حول تحديد ما يتصل بعلاقتها
بالحداثة :
فريق يعاينها كامتداد لما توصلت اليه الحداثة، بمثل ما يذهب اليه الناقد
والمؤرخ المعماري تشارلز جنكس Ch. Jencks الذي راها مزاوجة مع الحداثة(14)، والباحث الجزائري محمد اركون،
الذي وجد في افتراض ما بعد الحداثه لتجاوز الحداثه، مجرد ادعاء (15).
وعبر هذا التوجه، يقترح جيدنز مفهوم " الحداثة الراديكالية " Redicalized modernity بدل
الحداثة، اعتبارا من أن ما تم اعلانه بوصفه ما بعد حداثة لا يشكل بالضرورة قطيعة
مع الحداثة، بل هو نسخة راديكالية او متنامية منها، تساعد على ظهور مجتمع تعددي
حقيقي، يقوم على الديموقراطية متعددة المستويات، وعلى إلغاء العسكرة وانسنة
التكنولوجيا (16) على أن ذلك لا يعني رؤية جيدنز لما بعد الحداثه، وكانها تحمل نفس
سمات الحداثة، ويضرب مثالا على ذلك بأن الذات، وهي مقولا أساسية في فكر الحداثا،
يمكن رؤيتها من المنظور ما بعد الحداثي بوصفها :«متحللة أو منعزلة بفعل تفتيت
التجربة »، بينما تعتبر في اطار الحداثة : "أكثر من موقع للقوى المتقاطعة»،
نظرا لأن الحداثة قد اتاحت عمليات نشطة لانعكاس الهوية الذاتية(17).
وثم فريق ثان، ينظر الى ما بعد الحداثة كردة فعل لما آلت اليه الحداثة وهو
ما ذكره عالم الاجتماع الأمريكي رايت مليرC. Wright Mills نهاية الستينات، حين أكد على تحول العالم
الى ما بعد الحداثة، أو ما أطلق عليه «الفترة الرابعة » بعد «الفترة الحديثة »،
بما لا يعني لديه فشل مشروع الحداثة، بل فشل نوعها الذي أنتج ظاهرة الجمهرة
والتلاعب بالديمقراطية في الغرب، والدوجماتية الستالينية في الشرق، وخلص الى أن
هذه الفترة الرابعة ستشهد: «انهيار تفسير العالم، القائم على الليبرالية
والاشتراكية، النابعتين من أفكار عصر التنوير، وستضحى فكرة الحرية والعقل مشكوكا
فيها. إذ لعل زيادة العقلانيه لن تضمن ارتفاع مكانه العقل » (18).
والفريق الثالث يرفض اعلان فشل الحداثة، وهو ما نستبينه لدى سمير أمين،
الذي رأى فيها مشروعا تحرريا، نشأ عندما تخلى الفكر الفلسفي عن طابعه
الميتافيزيقي، الذي كان يؤكد على أن هناك نظاما يحكم الكون ويفرض نفسه على الطبيعة
والتاريخ، كما كان الأمر سائدا في العصور القديمة، لتجيء الحداثة فتعمل على بلورة
الوعي بالتقدم، وتحقق أعظم انجازات الانسانية إن على المستوى المادي أو
الديموقراطي أو الأخلاقي، برغم حدودها وانتكاساتها، وبما يترتب عليه من النظر
اليها لا كمعطى نهائي، بل كصيرورة متواصلة، وان ارتدت أشكالا لا متباينة، طبقا
لاجاباتها على التحديات التي يواجهها المجتمع، أو بما كشفت عنه تطبيقاتها منذ
السبعينات من ضعف شديد، وعجز عن تقديم بديل تنموي لبلدان الجنوب.
ويرى سمير أمين أن ما يلازم سيادة ما بعد الحداثة في المجال النظري، انما
هي حركات ردة تدعو الى العودة لما قبل الحداثة، وهو ما يعني تنازلها في مجال صنع
التاريخ، والهروب أمام التحديات الحقيقية، ومن ثم فهي لا تعدو أن تكون تجليا
طوباويا سلبيا، خاصة حين تقبل في النهاية الخضوع لمقتضيات الاقتصاد السياسي
للرأسمالية في المرحلة الواهنة، مكتفية بوهم،امكان إدارة هذا النظام بأسلوب انساني
(19). ذلك اذن ما بعد الحداثه لديه، يرتبط بسياق أزمة انهيار مشروع بناء
الاشتراكية ومشروع الدولة الوطنية، وما تؤدي اليه من تشتت في الفكر الاجتماعي، ويقترن
بايديولوجيا الليبرالية المعولمة، ويعد بالوصول الى مجتمع قائم على الوفاق العام
والتحرر من الصراع الايديولوجي، وهو ما يبدو لدى البعض من روادها، ممن تحدثوا عن
«نهاية الايديولوجيا»، وحاولوا فصل مفهوم "العقلانية "عن مفهوم
«التحرر».
أما الفريق الرابع، فيراوح في كشف العلاقة بين الحداثة وما بعد الحداثة،
بمثل ما ذهب اليه ايهاب حسن، الذي يرى ضرورة ادراك هذه العلاقة على مستويي التواصل
واللاتواصل، فهو من ناحية، يرى عدم وجود حد ناجز يفصل بينهما. ومن ناحية أخرى, فثم
امكانية لديه لتمييزهما، انطلاقا من أن الحداثه أقرب الى الرؤية الابولونية التي
لا تدرك سوى التزامنات التاريخية، فيما بعد الحداثة الى الاحساس الديونيزي الحسي
الذي لا يلمس سوى البرهة المفارقة.
ويقدم ايهاب حسن تفصيلا لهذا التمايز، انطلاقا من أنه إذا كانت الحداثة
تقسم بالسرد، وامكانية التحديد والتعالي، والشكل والتراتبية، والتمركز، والنمط،
فإن ما بعد الحداثة تتلبسها مقولإت نقيضة من مثل رفض البنية السردية، والافراط في
التعدد، والمحايثة، والتفكك، والفوضى، والتبعثر، والتحول، وان لم يستبعد تعايش هذه
النقائض في نزعة واحدة (20).
وربما لهذا، عسر صوغ تعبير موحد لما بعد الحداثة : فايهاب حسن يعاينها
كدورة , Postmodern
turn وليوتار وديفيدهارفي كوضع ما بعد الحداثي Postmodern condition (21) وتالكوت
بارسونز T.Parsons كاحتمال ما
بعد حداثي Postmodern
possibility (22) وهال فوستر H.Foster كثافة Postmodern culture(23) فيما يتحدث آخرون عن "حساسية ما بعد الحداثة " , Postmodern
sensitireness أو «فكرة ما بعدالحداثة" idea of Postmodernity.(24) بما يوحي
بقلق مثل هذا النموذج الفكري من المابعديات،تلك التي راجت منذ منتصف القرن الحالي،
وهو ما يشير اليه مفهوم "ما بعد التاريخي» لدى رودريك سيدنبرج R. Seidenberg عام 1950،
و"ما بعد الحضارة لدى كينيث بولدنج K. Boulding عام 1964، و" ما بعد الثقافة » لدى
ليونيل تريلينج L. Trilling. عام 1965،
و«ما بعد الصناعي" لدى دانييل بيل عام 1971، و«ما بعد الاقتصادي» لدى
هيرمان كاهن H. Kahn 1971،و«ما بعد العهد الحديث " لدى اميتاي اتزيوني A.Etzioni عام1978
و«ما بعد الرأسمالية " لدى سمير أمين عام 1988، و"ما بعد المادية » لدى
رونالد انجلهارت R. lnglehart عام 1989، اضافة الى "ما بعد الوظيفية " و«ما بعد
البنيوية » و «ما بعد الامبريالية "، و" ما بعد الكولونيالية ». وكل هذه
المابعديات على تراوحها، تمثل نتاجا لوضع تاريخ مشترك، على ما يورد الناقد العربي
الأصل جلال قادر، ورغبة في حيازة القوة عند اختيار التسميات على ما يذكر ايهاب
حسن.
وهذه النماذج المابعديات تشكل حقبا من مسربة التحديد والانفلات عن التصورات
القارة، بحكم ارتباطها بحالة القلق والتوتر التي تنتاب العالم، ورغبتها في
الابتعاد عن ماض بعينه، مع العجز في الوقت نفسه عن تسمية الحاضر، أو فتح كوى
للعثور على حلول المشاكل المستقبل (25)، وان لاحظ ليوتار أن المدلول الزمني لبادئة
الما بعد في مفهوم «ما بعد الحداثة "، لا يتطابق بالضرورة مع مدلولها النظري،
فلئن أوحت، ظاهريا، بما يتعقب عصر الحداثة تاريخيا، فإنها لديه ليست كذلك من
الناحية النظرية، حيث يمكن ارجاعها الى كل ما سبق الحداثة، أو تزامن معها الى
دائرة الظل بفعل سيادتها (26).
تيارات ما بعد الحداثة :
وقد ترجع مراوغة ما بعد الحداثة كنموذج فكري الا أنه يعكس بنية احساس أكثر
منها بنية واقع، بالنظر الى قيامه على افتراضات عبر محسومة لا على أسس موضوعية
محددة، والى خضوعا لمنظورات المقاربات النظرية : «من بينها ما بعد البنيوية
والتفكيكية والفلسفية ما بعد التحليلية والتداولية وهي مقاربات تسعي الى تجاوز
التصورات العقلية ومفهوم الذات العاقلة، باعتبارها تعمل أساس التقليد الفلسفي
الحداثي، الذي خط ديكارت وكانط معالمه الأولى ». (27)
ورغم تعدد هذه المنظورات، والتي تشكل بهذا القدر أو ذاك تيارات ما بعد
حداثية، فإنها توحدت حول نقد الأساس العقلاني والذاتي للحداثة، وهو ما يتضح لدى
ميشيل فوكو , M. Foucault وجاك ديريد J. Derrida وجيل دوليز J. Deluze ، والفيلسوف البرجماتي الأمريكي ريتشارد وورتي R. Rorty تحديدا، وان
نبهنا ايهاب حسن الى أحدى أهم المشكلات في دراسة ما بعد الحداثة، وهي: من من
الباحثين يختار من من الكتاب بوصفه من كتاب ما بعد الحداثة؟ وما هي دوافع هذا
الاختيار(28).
لقد وقف فوكو ضد صوغ النظريات العامة، واستند الى مقاربة جينالوجية تبدأ
بالامساك بخيط ملموس في الحاضر ليتلمس ما قبله بعد ذلك، واهتم بكشف الوجه الآخر
للعقلانية الحديثة، المتجسد في مؤسسات العزل والعقاب، وركز على تحليل السلطة،
وتبيان خطأ ومحدودية فهمها بحصرها في كيان محدد، هو جهاز الدولة المركزي،ووضح
شموليتها لكافة آليات اخضاع الجسد باسم نظام أو معرفة، بهدف تحقيق نوع من التشريح
السياسي للجسد I, anatamie politique du corps.،يسمح بالحصول على بأجساد طيعة منقادة، وقابلة للاستخدام والتحويل
والانتاج، كما يسمح في نفس الوقت لاخضاعه للأنظمة القائمة والفئات الحاكمة، بطرق
مستترة، و«أكثر ديموقراطية »، تقوم على ترويض الجسد وترويض الفرد بواسطة مؤسسات
متنوعة، كالمدارس ومصحات العلاج النفسي والعقلي والمسجون والورش والمعامل وثكنات
الجيش والمستشفيات، وهي مؤسسات لا تعمل بمجرد اصدار أوامر مدعومة بالتهديد
واستخدام القسر العنيف، بل بتنظيم ومقسيم المكان، وعزل وتوزيع الأفراد، وتنسيق
تحركاتهم، ومراقبتهم في صمت وباستمرار، والاحتفاظ بملفات وسجلات دقيقة للتحري
عنهم، والغاية القسوى من هذا الجهاز، والذي أطق عليه فوكو، ميكر وفيزياء السلطة »microphysique du
pouvoir هي حصر الجسد في بعد واحد، هو بعد التدجين (29).
وانطلاقا من نبذه لفكرة السلطة كممارسة قائمة على الهيمنة، ارتأى فوكو أن
الحداثة أفرزت نظم الاستبداد واستبعاد الشعوب وازدواجية المعايير، كما أفرزت
النازية التي دمرت الشعوب، ودعا الى تطوير أنماط جديدة من السلوك والتفكير
والرغبة، تنبني على التكاثر prol feration بدل الاختزال والتوحيد ,unification وعلى
التقابل juxtaposition بدل التماثل
,similitude والانفصال disjonction بدل الاتصال
conjonfction أي أنماط
نميز بموجبها ما هو متعدد متنوع عما هو موحد متشابه متطابق، وما هو متحول متناثر
عما هو ثابت متضافر، وما هو جوال متحرر عما هو راسخ قار، وما هو عبارة عن سيولات
دائمة عما هو ضرب من الوحدات الجافة الجامدة، وهو ما يبدو واضحا في تحليله
لميكانيزمات السلطة التي اعتبرها لانهائية (30)، وان لم يذكر ماهية المصالح التي
تمثلها.
أما ديريدا، ففي معرض انتقاده للحداثة، شك في امكانات البنيوية، ورأى أن
النظام الميتافيزيقي موكل نظام فكري لا يمكن مهاجمته وتقويضه، لهذا يجب اجتثاثه من
جذوره، وأن محاولة تصور مجتمع معقلن محاولة فاشلة، لأن إدارة عقلانية للأشياء هي
فكرة خاطئة الى حد مأساوي، وأن الحياة الاجتماعية التي تخيلها فلاسفة الحداثة
شفافة، تحكمها اختيارات عقلانية، انكشفت عن أنها مملوءة بالسلطات والنزعات، بينما
كان التحديث نفسه يبدو تدريجيا أقل نموا في الداخل، وأكثر استجابة لتحريض الإرادة
القومية، أو الثورات الاجتماعية.. وأن المسافة التي تعمقت بين الحداثة والتحديث،
بين الرأسمالية والقومية، قادت الى تلاشي الحلم بمجتمع حديث يحدده انتصار العقل
»(31).
وبهذا التوجه، طرح ديريدا مفهوم "التفكيك ", La deconstruction لا بقصد
تفكيك المركزية الأوروبية فحسب، بل لنقد أشكال الهيمنة داخل الحداثة نفسها، وتحقيق
أشكال جديدة من الحريات الفردية داخل الحداثة.
ويقوم التفكيك لديه على مقولات أساسية، تنظيم استراتيجية في القراءة
والتأويل، وتصديع بنية الخطاب واستيضاح المطمور من شبكته الدلالية، من أهمها مقولة
"الاختلاف » La differance وتعني لديه الازاحة التي تضحى اللغة بواسطتها أشبه ببنية من
متغيرات الحضور والغياب، ومقولة "التمركز حول العقل Le logocentrism لذي صاغه في
محاولة منه لهدم اليقين المطلق في الفكر، لتأسيس بنية قوة في خارطته(32).
وطمح رورتي في الافادة من تصورات نيتشة وهيدجر وديريدا، في بناء تصور فلسفي
ما بعد حداثي، يجمع بين الفلسفة البرجماتية ويقظة التقليد الأوروبي، وهو ما حدا به
أن يرفض نمط الخطاب الفلسفي الذي يقيم مزاعمه على منطق كوني ثابت، مستنكرا
دوجماتيته وعمقه، وحيلولته دون مستقبل انساني واعد.
وارتأى دوليز أن النشاط الحقيقي للفلسفة لا يعتمد على المعنى الذي ينفي
اللبس، وإنما الذي يكرس للمفارق والمختلف، منعا لتثبيت مبدأ الهوية، ورفضا للخطاب
الكلي الذي راه يختزل الفلسفة الكلاسيكية. وفي هذا الاطار، عمد مع زميله فيلكس
جاتاري F.
Guattari الى تبيان قصور ونقد تصور التحليل النفسي الفرويدي ونظرية الثورة
الماركسية والنظام الرأسمالي، فانتقد الأول بهدف توسيعه خارج نطاق الأسرة،
والثانية لوقوفها ضد الرغبة، والثالث لأنه يولد الاغتراب، حين يضع الرغبة في
المجال الخصوص والانتاج في المجال العمومي، في ظروف مجتمع يحكمه منطق الربح
والانتاج والمردودية (33).
ولعل تعدد هذه المرجعيات، كان وراء تعدد توجهات ما بعد الحداثة، التي يرصد
منها ألان تورين أربعة تيارات فكرية، (ما فوق الحداثي، الحداثي المضاد، ما بعد
التاريخي والمضاد للحداثة.، يعمل كل منها شكلا من أشكال الانقطاع مع الحداثة (34)،
اضافة الى انقسام هذه التوجهات في الولايات المتحدة، ما بين اتجاه ما بعد حداثي
معتدل، تمثله كتابات جيمس كليفورد J. Clefford. وجورج مار كوس G. Marcus ومايكل فيشر M. Fischer وآخر متطرف، يظهر واضحا في كتابات ستيفن تايلر S. Tyle، وبين تيار
محافظ وآخر راديكالي.
نحن إذن إزاء ما بعد حداثات، يروج آخر أشكالها راهنا في الولايات المتحدة
تحت مسمى "الحداثة الجديدة Neo - Modernism سكوت D. Scott هوأونج , A. Ong وان بدا الجذر الفلسفي لهذه المابعد حداثات
كمحاولة لاستثمار منجزات الفكر الغربي، في تململه من الحتمي المطلق القائم على
الاعتقاد بالحقيقة الناجزة والتعميمات المجردة والتوحيد المتعسف للتنوع وعدم الثقة
في الفكر النقدي الى النسبي والاحتمالي والمقدد، وما واكب ذلك من نظرات ورؤى
للعالم مختلفة ففي عالم يحمل امكانات عديدة لا وجود لصراع ذي شكل واحد أو اتجاه
واحد أو هدف واحد، بما يحيل المجتمع الى أفراد متنافسين يخطفون ويتفقون، فتنتفي
قدرة الأفكار على التأثير، وقدرة النظريات الكلية على تقديم البدائل، وهو ما
ارتكزت عليه ما بعد الحداثة، حيث المابعديات تشكل فترات من صعوبة التحديد
والانفلات عن الأطر والمناهج والتصورات القارة (35).
يمكن على كل حال اعتبار ما بعد الحداثة امتدادا لنقد مشروع الحداثة حول
العقل والتقدم والذات ومعنى التاريخ، كما ورد لدى هؤلاء الكتاب، ممن قدموا نقاط
ارتكاز مهمة لفكر ما بعد الحداثة، الذي سيمضي شوطا أبعد في تجذير انتقاداتهم، فلا
يقتصر على نقد الحداثة، بل يتول نفيها، والزعم بسقوطها النهائي، بعد أن راها وصلت
الى نهايتها، وأخفقت في تحقيق وعودها، بما يجعل من هذا الفكر أشبه بتحول جذري في
شروط الوجود الحالة، أي شروط مجتمع تنبثق فيه قوى سياسية جديدة، وتنشط قوى ثقافية
طليعية، وتستنفد فيه بعض الأيديولوجيات الكلاسيكية، وشروط طرح سؤال المشروعية
بوصفه مشروعية ذاتية للسلطة، وفقدانا لمشروعية الانساق الفكرية المغلقة التي عادة
ما تأخذ شكل المذاهب والأيديولوجيات، وشروط مجتمع ما بعد صناعي معلوماتي، وشروط
المؤسسات الجديدة للرأسمالية العابرة للقوميات.
وعلى ما يورد ديك هيبدايج D. Hebdige فإن : «رواج مفهوم ما بعد الحداثة، أثار مشاكل خاصة به، إذ مع
انتهاء عقد الثمانينات تزايدت صعوبة التحديد الدقيق لدلالاته بسبب من تشعب الآراء
حولها، وتجاوز الحدود بين مختلف فروع المعرفة في التعامل معه، وسعى أطراف عديدة
للاستشهاد به، واستخدامه للتعبير عن اهتمامات وتوجهات متباينه "(36).
المضاد للحكايات الكبرى:
والاتفاق قائم على اعتبار ليوتار (1924- 1998. هو فيلسوف ما بعد الحداثة البارز،
منذ قدم عام 1979 كتابه الذي حدد فيه معالم ما بعد الحداثة، وأصل بعدها الثقافي
كملمح أساسي، أطقه على وضعية المجتمعات الغربية المعاصرة التي أحبطتها وعود
الحداثة.
وتتبدى أفكار ليوتار بهذا الصدد، في إعلان سقوط الحتمي سواء في العلوم
الطبيعية أو في التاريخ المعاصر، واستتباعا رفض مفهوم التقدم الخطي بالنظر الى
انفتاح التاريخ الانساني على احتمالات متعددة، وتجاوز مسلمات الحداثة عن الانسان
والعقل والتاريخ، ومشروعها الذي راه يتسم بالميتافيزيقية والمثالية، وينضوي في
الايديولوجيات التي حاولت في رأيه بنينة الزمن واعطاءه معنى ناجزا.
ذلك أن غياب الأفق الكوني والتحرر العام لديه، يسمح للانسان ما بعد الحداثة
بالتأكد من نهاية فكرة القدم والعقلانية والحرية، في ظروف تواجه فيها نصف البشرية
التعقيد، والمجاعة للنصف الآخر، اضافة الى أن الحروب والأنظمة الشمولية التي
عرفتها البشرية مؤخرا تركت الانسان يعيش بلا أوهام أو أساطير، أو بتعبيره من دون
حكايات كبرى grands recits أو حكايات ميتافيزيقية metarecits ومن ثم فمن المستحيل التفكير في المستقبل،
بعد هذه الحروب والأنظمة. لذلك لا يستطيع انسان ما بعد الحداثة أن يثق في
العقلانية والمقدم والثورة ولا من العلوم الحديثة والمقامرة التي لا تستند إلإ على
معيار النجاح وحده، مستبعدة الحقيقة والعدالة(37).
وهو يميز بين الحداثة وما بعدها، متراودا مع تصنيف جيرار جينية G. Genette لأنماط
الحكاية وتقنياتها، فينطق من اعتبار التاريخ حقائق كونية أشبه بحكايات متتالية
عاشت البشرية تحت سطوتها فهو يستخدم مفهوم الحداثة : «لوصف أي علم يمنح لنفسه
المشروعية بالرجوع الى ميتا - خطاب من هذا النوع، حين يلجأ مراحة الى هذه الحكاية
الكبرى أو تلك من قبيل جدل الروح أو تأويل المعنى أو تحوير الذات العاقلة أو
العاملة أو خلق الثروة" (38)،على حين يعرف ما بعد الحداثي بأنه : «التشكك
ازاء الميتا - حكايات » (39) ويعني بها الحكايات الكبرى التي توظف لتكريس شرعية
مختلف المشروعات السياسية أو العلمية. ويقصد هنا تعرية ما يصفه بحكايات التبرير،
التي قامت على الوعد بانعتاق الانسانية، ونشرا نوار المعرفة وتحقيق الحرية، مثل
المسيحية وأفكار التنوير و«الحكاية الماركسية الكبرى"، باعتبارها لديه أنماطا
ميتافيزيقية كلية، قامت على الغائية والذات العظمي للتاريخ والنظرية الناجزة،
معلنا فشل هذه الحكايات التي راها تقوم على وهم التحرر (الثورة الفرنسية.، أو التأمل
(الجامعة الألمانية.، او هما معا (الماركسية.. «ذلك أن معسكر التعذيب في أوشفيتز
ينتقص القول العقلاني وتجبر وعناد ستالين يفندان الأطروحة الانسانية، واندلاع ثورة
مايو 1968 ايذانا بانزلاق مزاعم الليبرالية في هوة سحيقة»(40).
عوض ذلك، يدعو ليوتار الى حكايات صغري petites histoires محلية،
تتناول قضايا المهمشين، و«البدائيين » وسكان المستعمرات السابقة وثقافات الأطراف،
وترتكز في شرعيتها على الطاقة الأدائية لا المعيارية، كشكل جوهري للابداع وبخاصة
في العلم. وهو بهذا، يؤكد على التخلي عن الأطر المستقرة، وعلى عدم جدوى أية محاولة
للتحويل الجذري للمجتمع الراهن، وهو ما يتضح في نفيه للتجاوز والذات والتاريخ
والتقدم، فهو ينفي التجاوز، باعتباره تماهيا مع الجديد يفتقر الى القيمة بالنسبة
لما بعد الحداثة. وينفي التاريخ، حيث تميل تكنولوجيا المعلومات الى نزع طابعه،
بقصرها للأحداث ضمن مستوى التعاصر أو التزامن، اي تمجيد الحاضر والاقامة فيه.
وينفي الذات، مادام التحديث الرأسمالي قد فتت الفرد بتقسيم العمل، وحلل الفردية
عندما شيا ويفرط وجودها، فإن اقرار ما بعد الحداثة بذلك لا يحمل جديدا، سوى جعل
أطروحة الذات مطلقة الى حد انكار الأسلوب الشخص في الفن واغلاق الباب بإحكام أمام
ذاتية جديدة.
وهكذا، فانطلاقا من اعتبار التاريخ مفتوحا على احتمالات متعددة يسعى ليوتار
الى تحطيم سلطة الانساق الفكرية الكبرى والماركسية تحديدا، والتي برغم قيامها على
نقد واقع وفكر وقيم الطبقة البورجوازية التي اقترن بها مشروع الحداثة تاريخيا،
فإنها لديه تتضمن نوعا من مركزية العلة وانغلاق النسق، حين تزعم قدرتها على
التفسير الكلي للتاريخ والمجتمع، فتعجز عن قراءته والتنبؤ بمصيره يقابل تنديده
بالماركسية،وعدم تبنيه تفسيرات ماركس منذ كان عضوا في جماعة «اشتراكية او بربرية »
Socialisme
ou Barbarie تجاهل واغفال مثالب الرأسمالية، الكامنة في احتكار حق العنف
وتمثيل الدولة من قبل الكيان السياسي، وتهاونها في حل مشاكل الفقر والبطالة
والبيئة، مما دعا استاذ الفلسفة البريطاني سادان ساروب M. Sarup التساؤل عن مراوحة ليوتار بين دفاعه عن
الحكايات الصغري التي تبرر تصوراتها وممارساتها من داخل منظوماتها الفكرية
والرمزية، وبين الحريات الفردية والجمعية التي تمثل قيما شاملة (41).
مساءلة :
ربما يبدو الأمر مهيأ الآن، بعد مقاربة ما يتعلق بخطاب ما بعد الحداثة، أن
نعرض للنقدات التي وجهت اليه، والتي بلغت حدا دعا أمبرتوايكو U. Eco. الى النظر
لما بعد الحداثه ككلمة ثول كل شيء، وكمفهوم ينطبق على أي شيء يريده من يستخدمه
(42)، وبتيري ايجلتون T. Eagleton الى اعتبارها «تفتيت غير سياسي للنفس » (43). وبجان بودريار J. Baudrillard الى وصفها
بأنها عملية تدمير للمعنى(44).
ولعل أهم من هاجم خطاب ما بعد الحداثة هم : جاك بوفر يس.J Bouveresse أستاذ
الفلسفة الحديثة بجامعة السوربون، ويورجين هابرماس آخر أجيال مدرسة فرانكفورت،
والناقد الأمريكي فراريك جيمسون. F. jameson يدافع بوفر يس عن الحداثة، التي راها تمثل عصرا تاريخيا قضى على
عصور الظلمة الغابرة، ويرى أنها عملت على تطوير امكانات العقل، وأفضت الى ثورة في
المعرفة والتطور العلمي والفني والسياسي والاقتصادي، واتهم فلاسفة ما بعد الحداثة
بتقويض العقل ومقومات الحضارة الغربية وهدم المنظومات الأيديولوجية واشاعة العدمية
والخواء واللامعني، في اعلانهم عن نهاية التاريخ وموت الثقافة ووفاة التقدم، وحمل
نيتشة مسؤولية هذا التيار اللاعقلاني الحاقد على الحداثة ومنجزاتها، وشن هجوما على
كل من فوكو وديريدا حول موضوع تمركز السلطة، ورأى أنها ليست بالضرورة مرادفة
للقمع(45).
أما هابرماس، فالحداثة لا ترتبط لديه بمرحلة تاريخية، كعصر النهضة أو
التنوير أو حتى الحاضر، وانما تبرز كلما تجددت العلاقة بالقديم،وتم الوعي بالمرحلة
الجديدة. من هنا فإن ما بعد الحداثة عنده ليست صفة لعصر جديد، حيث اذا كانت
الحداثة قد استمدت شرعيتها كعصر جديد للانسانية، من داخل مشروعها الخاص عن العقل
والحرية والفردية، فإن ما بعد الحداثة تعتبر نوعا من الاستئثار بالمنجزات المادية
والسياسية للحداثة، لكن مع مجافاة مبادئها حول العقل والتنوير. انها برأيه،
استمرار لتيار تحديث المجتمع، افتراضا من أن الحداثة والتنوير لا يحدهما أفق.
ورغم أن هابر ماس لا يماري في أزمة الحداثة، ضمن السياق الملموس للتطور
الرأسمالي في الغرب، وفي العالم أجمع، إلا أنه يعمد الى اعادة تفسير فكرتها ونقدها
وتطويرها وتوسيعها، مركزا بشكل خاص على بعدها التحرري الشامل، وموضوعية القيم
الانسانية التي بشرت بها، بما يعني أن الحداثة التي يدافع عنها بمثابة مشروع لم
يكتمل بعد، تقع على قوى اليسار والديمقراطية مهمة استئنافه. لهذا السبب، بدت له
دعاوي وحجج ممثلي ما بعد الحداثة للتنصل من هذا المشروع، بمثابة عودة الى التقاليد
المعادية للتنوير، سواء كان مصدرها الغرب او بقية أجزاء العالم (46).
وفي نظره، فإنه بدل التخلي عن مشروع الحداثة يجب القيام بفحص نقدي له،
واظهار سلبياته وايجابياته، واستخلاص الدروس اللازمة لاستكماله. ولهذا هاجم ما بعد
الحداثة، ونعت اعلامها بالمحافظين الجدد، وطالب باعادة الثقة في مشروع الحداثة،
بالكشف عن منطق آخر في تطويره، عن طريق ابقاء الباب مفتوحا أمام ما أطلق عليه
زيادة الفعل التواصلي بين الأفراد والجماعات، كفاعلية تتجاوز العقلية المتمركزة
حول الذات، أو الشمولية المنغلقة التي تدعي أنها تتضمن كل شيء، أو الأداتية
الوضعية التي تفتت وتجزيء الواقع(47)، وان ارتأى ليوتار أن هذا الفعل قد يصعب
تحقيقه في ضوء التفتيت الحادث للكيان الاجتماعي الى شبكات مرنة، قوامها التمييز
المعاصر لمجالات الحياة والتلاعب اللغوي لا الفعل التواصلي، الذي يعتبره هابرماس
وسيله لتحقيق الانعتاق(48).
إن هابرماس يحاول انقاذ الجانب الايجابي للحداثة، حين يقدم قانونا تواصليا
جديدا لعقلانيتها، يقوم على أساس فردي وعقلاني وشفاف، ويسعى الى اجماع مع الأخر من
خلال حوار غير مشوه. لكن فعالية هذا القانون لا يمكن تحقيقها الا بتجاوز الحدود
البورجوازية للرأسمالية، وبخاصة في شرطها الراهن البادي في الليبرالية المعولمة.
وهذا الشرط الراهن يميل في اتجاه «كونية سيميائية " لمنظري ما بعد الحداثة،
بما يجيز التحقق من تقارب العولمة وما بعد الحداثة، انطلاقا من سعيهما المشترك في
تقليص العالم، بتفكيك الحكايات الكبرى والكيانات والهياكل الشمولية.
وحسب جان ماري دومينياك Domenach Jean - Marie ينتج منطق العولمة في
المجتمع ما بعد الصناعي ظواهر جلية، تطوح بالقيم والأساطير التي مثلت أساس
الحداثة، وتثير أزمة الهوية بوصفها ازمة المعنى شكلا ومضمونا، وتضع عقيدة الحداثة
في التقدم والليبرالية والشمولية الغربية موضع التساؤل(49). ذلك أن هذا المنطق
يحتاج، لكي يصبح أكثر اقتناعا، الى الافادة من بعض جوانب ما بعد الحداثة، التي
تطور نقدا جذريا لمفاهيم يوتوبيا وشمولية التقدم والعقل الكلي.، ويهاجم فراريك
جيسون ما بعد الحداثة، بمعاينة تجلياتها الثقافية، وبخاصة في فنون العمارة والرسم
والسينما والفيديو والأدب، برؤية سوسيولوجية، تتوخى مقاربة هذه التجليات ضمن
اطارها الاجتماعي. ولديه، فبرغم تابي النماذج الفكرية عادة على التأثر المباشر
بالتكوين الاقتصادي الاجتماعي، فإن نزعة التنوير ترتبط بمرحلة الرأسمالية
الميركنتالية، التي سادت أوروبا في القرن السابع عشر حتى الثلث الأخير من القرن
الذي يليه، وتتسق مع نشاط هذه المرحلة الزراعي والتجاري وترفدها تكنولوجيا البخار
والقاطرة والدولة القومية كوحدة أساسية آنذاك، أما نزعة الحداثة، فترتبط
بالرأسمالية الامبريالية التي تبدت منذ الثلث الأخير من القرن التاسع عشر، وتتسق
مع النشاط الصناعي، وتكنولوجيا الكهرباء والسيارة وغزو المستعمرات وتقسيمها
واحتكارها، على حين ترتبط نزعة ما بعد الحداثة بالطور الراهن الثالث للرأسمالية،أي
بالرأسمالية متعددة الجنسيات، وتكنولوجيا الاتصال والمعلومات والعالم كلا كفضاء
لها (50)
وينظر جيسون الى ما بعد الحداثة، كجزء من تغيرات واسعة ومتعددة الأوجه،
تمثلت عمليا في ثورة الالكترونيات ووسائل الاتصال، وفي الانتقال من النموذج
الفيزيائي الكتلي الى النموذج البيولوجي التفاعلي، وسياسيا في تنامي ظواهر
اجتماعية جديدة كحركات البيئة والنساء والهويات الثقافية، ونظريا في الانعطاف نحو
التفكير في المنظومة اللغوية من زاوية اللاتحديد واللامقايسة، ورفض المبدأ اللغوي
لدو صويسر F.
de, Saussure القائم على الفصل بين الدال والمدلول (51).
ومع موضعة ما بعد الحداثة في هذا الاطار، يخلص جيسون الى انها تعمل الاطار
المعرفي الكامن للعولمة، حين تنطلق من قبول جوهر الرأسمالية حيث لم تعد الرواسب ما
قبل الصناعية، من ريفية ورعوية وحرفية، تلعب أي دور في الاقتصاد السياسي للمجتمع،
وأن روح ما بعد الحداثه هي بمثابة روح رأسمالية عصر الشركات الكونية، حيث يقوم راس
المال بإلغاء كل الخصوصيات، كما يلغي الذات المتماسكة التي يتحد فيها التاريخي
والذاتي، وتحل القيمة التبادلية العامة محل القيمة الآلية للاشياء(52).
ونبادر هنا بتسجيل التنبه الباكر منذ نهاية السبعينات، لملامح منسوبة الى
اهتمامات ما بعد الحداثة من قبل بعض المثقفين العرب، حين بدت مسائل كالابداعية،
والآخرية otherthness والتناص،
والصورولوجية imageology والتأويل، ورؤية العالم، والجسدية، والتفكيكية، والاختلاف، تشق
طريقها لدينا في علم الاجتماع واللغة والانثروبولوجيا والأدب والفلسفة وهو ما ظهر
في أعمال الباحث التونسي عبد الكبير الخطيبي حول تفكيك الخطاب، ومؤخرا لدى الباحث
التونسي الطاهر لبيب حول الصورولوجية، والمصريين أحمد أبوزيد حول رؤية العالم
وجابر عصفور حول التناص، وصبري حافظ حول الحساسية الجديدة، ونصر أبوزيد حول
التأويل، والفلسطيني فيصل دراج حول الحداثة المبدعة.
ها نحن نزاول التحديق في خطاب ما بعد الحداثة، كحكاية جديدة قدمت أعمالا
غنية وجسورة في مختلف ميادين الفنون وحقول المعرفة وهزت ركائز كانت تبدو
راسخة،وحاولت الانصات للهوا جس المواربة والتعبير عن تجلياتها، حين استكنهت
المجاز، وحاورت الغياب، وحركت الثوابت والتمركز حول العقل، ودشنت الاختلاف، وأنتجت
ظروفا للخوض في مجالات غير مسبوقة، وطرحت فرضيات أدت طابع طليعي، وكثفت الصلة بين
مقولات كانت تبدو متباعدة، وهجرت المطلق والتوجه الى الأسئلة المعرفية الكلية،
وأضاءت قوى كامنة في صنوف الصيغ والأفكار والأساليب الابداعية، لكن فاعليها
المعرفيين، بدوا مثل أطفال منتصف الليل : استاءوا وخرجوا على النص، وفضلوا ذاكرة
الكلمات المتقاطعة، وموهوا، لأنهم امتثلوا لشروط مجتمع المشهد المتشظي بحاضنة
تاريخية مأزومة وطروحات شتيتة.
0 تعليقات