درس من قصة أصحاب
الكهف
الشيخ كامل الباهلي
قال تعالى ( وَ إِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَ ما يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ
فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَ يُهَيِّئْ
لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً)
إن قصص الأنبياء والأئمة ومواقفهم صلوات الله عليهم أجمعين لا يفهمها ( حق
فهمها ) إلا من سار على نهجهم في نصرة الحق ومواجهة الباطل ، وكانت حياته على طول
الخط بهذا الإتجاه ، وكانت مدرسته ومشروعه الذي يعتنقه يرتكز على نصرة الحق ونشره
ومواجهة الباطل والتضييق عليه ،
هذا الإنسان يستطيع أن يستوعب قصة موسى ع مع فرعون ، وإبراهيم ع مع النمرود
، والحسين ع مع يزيد .....
وقصة أهل الكهف هي واحدة من أشرس معارك ومواجهات الحق مع الباطل ،
ولذلك فإن فهمها واستيعابها واستخلاص الدروس منها موكول لمن يعيش نفس
المواجهة مع الباطل ،
لا من يتفرج على المواجهة - وإن كان يؤيدها -
فإن هذا لا يفهم من القصة إلا ظاهرها ولا يستفيد إلا قشرها ،
من هنا نقول أن قراءة هذه الحادثة يجب أن يكون من هذه الزاوية ، زاوية
مواجهة الحق مع الباطل
ولنبدأ أولا بتفسير أهم المصطلحات في هذه الآية ( الإعتزال ، الكهف ، أوى )
( الإعتزال) وهو هنا ليس بمعنى العزلة وعدم التدخل في المواجهة
بل بمعنى التنحي والابتعاد عن جانب الباطل إلى جانب الحق مئة في المئة ،
بحيث تصبح واضحا ومكشوفا غير مختلط بالباطل بأدنى درجة ،
وذلك بإعلان موقفك الواضح والصريح في نصرة الحق من جهة ، ورفض الباطل من
جهة أخرى ،
لأن هناك من ينصر الحق ولكنه لا يرفض الباطل ، وهناك من يرفض الباطل ولكنه
لا ينصر الحق - وما أكثر هؤلاء -
وأوضح مثال للاعتزال بهذا المعنى كلمة ( لا إله إلا الله ) فإنها تنفي وجود
أي إله من جهة وتقر بالهية الله تعالى من جهة أخرى ،
(الكهف) ، وهو هنا بمعنى الحصن الذي يتحصن به عن الخطر عند المواجهة لا عند
الهروب عندما لا يمتلك وسيلة أخرى لحماية نفسه ، فهو آخر وسائل المواجهة
لذلك نرى أن من يمتلك وسائل المواجهة لا يلجأ إلى الحصن ، وإنما يلجأ إليه
عند فقدان هذه الوسائل أو ضعفها عن مواجهة الخصم
فالكهف إذن حصن المواجه لا جحر الهارب
(أوى) ، بمعنى لجأ إلى ركن قوي آمن يمنع عنه الأعداء ويعصمه من الخطر
( قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ )
( قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لا عاصِمَ
الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ وَ حالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ
فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ )
واللطيف في الآية الأولى أن نبي الله لوطا عليه السلام قدم القوة على
اللجوء إلى الحصن بمعنى أني لو كان لي قوة لواجهتكم مباشرة أو لم تكن لي قوة ولكن
كان لي حصن لواجهتكم من خلاله
وبعدما عرفنا معاني هذه المصطلحات أصبح من السهل معرفة الدرس المستوحى من
هذه القصة وهو :
عندما تحصل مواجهة بين الحق والباطل سواء في دائرة ضيقة كفرد مع فرد آخر،
أو جماعة مع جماعة ، أو على مستوى مدينة أو أمة كاملة ،
فأول ما عليك فعله هو أن تعلن موقفك صريحا من دون شائبة ، وذلك بوقوفك مع
الحق من جهة ورفضك الباطل من جهة أخرى وهو معنى الاعتزال ،
فإن كثر أنصار الباطل من المصلحين والمنتفعين والجهلة والمتذبذبين
والواقفين على التل ، ولم تكن المواجهة المباشرة متكافئة، فعليك باللجوء إلى الله
تعالى والاعتماد عليه أو على من يخوله الله تعالى وهو يختار لك كهف المواجهة
ويتولى هو سبحانه نصرك وتأييدك.
فتارة يختار سبحانه الكهف المادي كما في قصة الكهف ويهلك الكافرين ويستبدل
غيرهم ،
وتارة يختار السفينة كما في قصة نوح ثم يغرق الظالمين ،
وتارة يختار الخروج من المدينة كما في قصة لوط ع ثم يقلب بهم الأرض،
وتارة يختار الله تعالى للإنسان كهف الدعاء فيتولى هو سبحانه التفريج عن
المكروبين والمهمومين والمحتاجين بدعائهم
وقد يختار الله تعالى كهف الشهادة والقتل في سبيل الله لنصرة الحق كما
اختارها للحسين عليه السلام في مواجهته للباطل
( خير لي مصرع أنا لاقيه )
( شاء الله أن يراني قتيلا وأن يراهن سبايا )
ومن هنا نقول :
عندما يكون الظالمون أقوياء مجرمون ولا يستطيع المؤمن مواجهتهم بشكل مباشر
فعليه أولا أن يعلن موقفه بنصرة الحق ورفض الباطل، ثم يلتجئ إلى كهف الله
تعالى وكهف أهل البيت عليهم السلام وكهف العلماء العاملين السائرين على منهج
الأنبياء والأئمة صلوات الله عليهم أجمعين
والله سبحانه وتعالى كفيل بهزيمة الباطل وإزهاقه
وَ إِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَ ما يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ فَأْوُوا
إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَ يُهَيِّئْ لَكُمْ
مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً
النجف الأشرف
الإثنين ٨ جمادى الآخرة ١٤٤١
0 تعليقات