نجيب يعود لمنصبه
قبل تقديم استقالته
سامح جميل
عاد محمد نجيب لمنصبه كرئيس للدولة بعد أن خلعه جمال عبد الناصر. إلا أنه
لم يكن يتمتع بأي صلاحيات مما دفعه للاستقالة.
وتعتبر هذه الأحداث مقدمة للأزمة السياسية التي وقعت في الشهر التالي، بين
نجيب وناصر، ثم عاد نجيب مرة أخرى للحكم في 14 نوفمبر.
بدأت الأزمة يوم 23 فبراير ، بالرسالة التي بعثها اللواء محمد نجيب إلي
مجلس قيادة الثورة يوم الثلاثاء23 فبراير 1954وكانت تتضمن استقالته من جميع
المناصب التي يتولاها ، وقدم نجيب استقالته بعد أن أيقن ان استمراره رئيسا للجمهورية
ورئيسا لمجلس الثورة ورئيسا للوزراء أصبح أمرا مستحيلا بسبب التجاهل وعدم الاحترام
من مجلس قيادة الثورة، كما كان يعاني من هموم كثيرة كشف الستار عن بعضها في
الصفحتين187,186 من مذكراته( كلمتي للتاريخ) وكلها أسباب تتعلق باستغلال
النفوذ وسحب أموال الدولة وبعثرتها كمصاريف سرية وصرفها دون حساب وتوزيع بعضها علي
الأصدقاء والأنصار مما يفسد ذمم الضباط وضمائرهم
بعد أن عقد مجلس الثورة عدة جلسات اتخذ المجلس في الساعة الثانية من صباح
يوم الخميس25 فبراير قراره بقبول استقالة محمد نجيب وتعيين عبد الناصر رئيسا
لمجلس الوزراء ورئيسا لمجلس قيادة الثورة علي أن يبقي منصب رئيس الجمهورية شاغرا
لحين عودة الحياة النيابية للبلاد .
وفي اليوم التالي لإعلان تنحية محمد نجيب قام النقيبان أحمد المصري وفاروق
الأنصاري والملازم أول محمود حجازي من الضباط الأحرار بسلاح الفرسان بدعوة ضباط
الفرسان الي اجتماع عام يوم الجمعة26 فبراير, وفي الساعة السادسة مساء تجمع ما
يربو علي مائتي ضابط ولم يحضر الاجتماع خالد محيي الدين عضو مجلس الثورة لفشل
الضباط في الاتصال به كما غاب عن الاجتماع في بدايته حسين الشافعي مدير سلاح
الفرسان وعضو مجلس الثورة ولكنه حضر أثناء انعقاده ، وعندما وصلت أنباء اجتماع
ضباط الفرسان الي عبد الناصر أثناء وجوده في القيادة العامة بكوبري القبة التي
تواجه معسكر سلاح الفرسان مباشرة توجه في شجاعة وبدون تردد الي مقر الاجتماع.
وخلال اجتماع عبد الناصر بضباط الفرسان بعد ذهابه إليهم دار الحوار حول
موضوعين أساسيين كان أولهما هو التصرفات الشخصية المعيبة لبعض أعضاء مجلس الثورة
وكان ثانيهما هو قضية الديمقراطية والإصرار علي عودة محمد نجيب وذكر عبد الناصر
للضباط في نهاية الاجتماع انه سيتوجه الي القيادة العامة لعقد اجتماع مجلس الثورة
وعرض مطالب ضباط الفرسان عليه وعقد عبد الناصر بالفعل اجتماعا لمجلس الثورة حضره
جميع أعضائه بمن فيهم خالد محيي الدين وروي عبد الناصر للمجلس تفاصيل ما دار أثناء
اجتماعه بضباط الفرسان. وفي الساعة الثالثة من صباح يوم السبت27 فبراير1954
توجه عبد الناصر وبرفقته خالد محيي الدين الي سلاح الفرسان حيث أعلن علي الضباط
المجتمعين القرارات التي اتخذها مجلس الثورة وهي:
أولا ـ حل مجلس قيادة الثورة وعدم عودة أعضائه الي صفوف الجيش.
ثانيا ـ إعادة محمد نجيب رئيسا لجمهورية برلمانية.
ثالثا ـ تعيين خالد محيي الدين رئيسا لوزارة مدنية علي أن يعيد الحياة النيابية
في اقرب وقت ممكن.
رابعا. استقالة عبد الحكيم عامر القائد العام من منصبه وترك الحرية لخالد محيي
الدين لتعيين قائد عام بدلا منه....
وتوجه خالد محيي الدين وبرفقته ثلاثة من الضباط إلي دار محمد نجيب في
الزيتون حيث أيقظه من نومه وأبلغه بقرارات مجلس الثورة .
بعد فترة قصيرة، وعندما علم بعض ضباط الصف الثاني من الضباط الأحرار وبعض
الضباط الآخرين بقرارات المجلس حتي أعلنوا رفضهم الاستجابة لها ولمَّا أدركوا إصرار
أعضاء مجلس الثورة علي تنفيذها ثارت ثائرتهم وأعلنوا عزمهم علي تدمير سلاح الفرسان
واحتجزوا أعضاء مجلس الثورة في غرفة الاجتماعات واضعين حراسة منهم علي بابها
لمنعهم من الخروج.
وفي نفس الوقت وبطريقة عفوية تجمعت حشود هائلة من المواطنين وسط العاصمة
في مظاهرات صاخبة كان يقود معظمها عناصر من الإخوان المسلمين ـ برغم ان معظم
زعمائهم كانوا في السجون والمعتقلات بعد صدور القرار بحل جماعتهم في13 يناير54
ـ وكانت الجماهير تهتف( محمد نجيب أو الثورة).
وفي نفس الوقت عمت المظاهرات شوارع الخرطوم وبعض المدن السودانية وهي تهتف(
لا وحدة بلا نجيب) وفضلا عن هذه المظاهرات الشعبية العارمة تأزم الوضع في الجيش
مرة أخري اثر اعتقال ضباط من سلاح الفرسان بعد ان طلبوا حضور وفد منهم الي القيادة
العامة للتفاهم معهم فإذا بالأمر يصدر باعتقالهم وسرعان ما وجه لبعض ضباط سلاح
الفرسان إنذارا بأنه اذا لم يفرج عن زملائهم فإنهم سيقصفون بمدافع دباباتهم مبني
القيادة المواجه لثكنات الفرسان، ولم يجد صلاح سالم بدا من تبليغ الإذاعة ببيان
أذيع في الساعة السادسة مساء يوم27 فبراير54 كان نصه: حفاظا علي وحدة الأمة
يعلن مجلس قيادة الثورة عودة الرئيس اللواء أركان حرب محمد نجيب رئيسا للجمهورية
وقد وافق سيادته علي ذلك.
وعلي الرغم من البيانات والتصريحات التي كانت تملأ أعمدة الصحف بعد انتهاء أزمة
فبراير54 والصادرة من محمد نجيب وعبد الناصر وبعض أعضاء مجلس الثورة والتي كانت
تتحدث عن توحيد الكلمة ونسيان الماضي وكيف أصبح قادة الثورة قلبا واحدا ويدا واحدة
فإن واقع الحال كان يخالف ذلك تماما.
وعلى الرغم من ان عبد الناصر كان يمسك بين يديه بزمام السلطة الفعلية في
البلاد بعد ان أسند إليه مجلس الثورة اثر استقالة محمد نجيب رئاسة مجلس الثورة
ورئاسة الوزارة فأن هذه السلطة كانت مهددة بالانهيار. بعد أن أصبح محمد نجيب أعظم
قوة وأشد بأسا من ذي قبل ودانت له زعامة مصر بلا منازع، وأصبح يُستقبل في كل مكان
استقبال الأبطال .
وفي اجتماع مجلس الثورة يوم25 مارس54 برئاسة اللواء محمد نجيب تقدم عبد
الناصر والبغدادي باقتراحين كانا علي طرفي نقيض ؛ كان اقتراح عبد الناصر يتضمن حل
مجلس الثورة وعودة الأحزاب وتسليم البلاد لممثلي الأمة الشرعيين وكان واضحا ان
بنوده كانت تتضمن التطرف المتعمد والمغالاة المقصودة للإيحاء بأن الثورة سوف تنتهي
وان نظام الحكم السابق علي الثورة سيعود بكل مفاسده وشروره بينما كان اقتراح
البغدادي علي العكس اذ كان يعني الغاء قرارات5 مارس والنكوص عن طريق الديمقراطية
واستخدام الشدة والعنف ضد كل من تسول له نفسه الوقوف في طريق الثورة .
وعند التصويت فاز اقتراح عبد الناصر بالأغلبية اذ حصل علي ثمانية أصوات ضد أربعة
أصوات وكان الهدف الحقيقي من إقرار اقتراح عبد الناصر هو تحريض الجيش وإثارته علي
اعتبار ان الهيئات والطوائف المدنية المعادية للثورة تريد تصفية الثورة وإعادة
الجيش الي ثكناته مما كان يعني حرمان العديد من الضباط من امتيازاتهم ، بالإضافة
الي ذلك تحريض الطبقات العاملة واستفزازها بالإيحاء لهم بأن تنفيذ قرارات25 مارس
يعني إلغاء الثورة وعودة نظام الحكم السابق مما يهدد هذه الطبقات بزوال قوانين
العمل والضمانات التي أوجدتها الثورة للحفاظ علي حقوق العمال.
وكانت القرارات التي اتخذت هي:
1- السماح بقيام أحزاب.
2- مجلس قيادة الثورة لا يؤلف حزباً.
3- لا حرمان من الحقوق السياسية حتي لا يكون هناك تأثير علي حرية
الانتخابات.
4- تنتخب الجمعية التأسيسية انتخابا حرا مباشرا، وتكون لها السيادة التامة
والسلطة الكاملة، وتكون لها سلطة البرلمان كاملة، وتكون الانتخابات حرة.
5- حل مجلس قيادة الثورة يوم 24 يوليو 1954 باعتبار الثورة قد انتهت، وتسلم
البلاد لممثلي الأمة.
6- تنتخب الجمعية التأسيسية رئيس الجمهورية بمجرد انعقادها .
وفي اليوم التالي وجهت القيادة العامة للقوات المسلحة أسلحة الجيش
وتشكيلاته لعقد اجتماعات عامة لضباطها وإصدار القرارات بتأييد بقاء مجلس الثورة
والمطالبة بإلغاء قرارات25 مارس فورا .
في يوم28 مارس شهدت مصر أضخم حركة اعتصام وإضراب منذ ثورة1919 وذلك
بتوجيه من هيئة التحرير، وأصيبت حركة المواصلات في القاهرة منذ الصباح بالشلل
التام نتيجة القرارات التي اتخذها اتحاد نقابات عمال النقل المشترك برياسة صاوي
احمد صاوي الذي شاركهم فيه عدد كبير من النقابات العمالية الاخري وعاشت القاهرة48
ساعة بدون مواصلات، (وقد اعترف عبد الناصر لخالد محيي الدين كما ورد في الصفحة350
من كتابه ( الآن أتكلم) عن مسئوليته في تدبير أحداث أزمة مارس كما يلي: وقال
عبد الناصر بصراحة انه رتب أحداث أزمة مارس وتحديدا إضراب عمال النقل وما لحق به
من إضرابات ومظاهرات عمالية ان ترتيب هذه الأحداث كلفه اربعة آلاف جنيه) .
وفي منتصف الساعة السابعة مساء الاثنين29 مارس عقد الرائد صلاح سالم وزير
الإرشاد القومي مؤتمرا صحفيا بمقر القيادة العامة للقوات المسلحة أعلن خلاله ان
مجلس الثورة قرر حمل المسئولية كاملة علي عاتقه واتخذ القرارات التالية:
أولا: ـ إرجاء تنفيذ القرارات التي صدرت يوم25 مارس حتي نهاية فترة الانتقال.
ثانيا: ـ يشكل فورا مجلس استشاري يراعي فيه تمثيل الطوائف والهيئات والمناطق
المختلفة ويحدد تكوينه واختصاصه بقانون.
وفي مساء يوم السبت17 أبريل عقد مجلس الثورة اجتماعا برياسة عبد الناصر
واتفق رأي المجلس خلال هذا الاجتماع علي ان يكتفي اللواء محمد نجيب برياسة
الجمهورية فقط وان يتولي عبد الناصر رياسة الوزارة بدلا منه. وكانت تنحية محمد
نجيب من رئاسة الوزارة بمثابة تنحيته عن السلطة تماما وانتهت في الواقع الرحلة
الأخيرة من مراحل الصراع علي السلطة بينه وبين عبد الناصر ،وظل محمد نجيب ساكنا في
مكتبه بقصر عابدين دون أية سلطة او نفوذ انتظارا لمصيره المحتوم.
وبالفعل في14 نوفمبر54 أصدر مجلس الثورة قرارا بإعفاء محمد نجيب من
منصب رئيس الجمهورية علي أن يتولي مجلس الوزراء سلطات رئيس الجمهورية كما صدر قرار
بتحديد إقامة محمد نجيب خارج القاهرة وحرمانه من حقوقه السياسية لمدة عشر سنوات
وظل محمد نجيب محدد الإقامة في استراحة السيدة زينب الوكيل بالمرج لمدة18 سنة..!!
0 تعليقات