عودة الروح
د. محمد إبراهيم بسيونى
عميد طب المنيا السابق
من رواية (عودة الروح) للأديب الكبير توفيق الحكيم، سنه ١٩٢٧ أقرءوا ما كتب
كثيراً لعلها تضيء شيئاً معتماً أو تحيي كبرياء قد تواري من فرط سموم الانسحاق "ان
هذا الشعب المصري الذي تحسبه جاهلاً ليعلم أشياء كثيرة لكنه يعلمها بقلبه لا بعقله.
ان الحكمة العليا في دمه ولا يعلم، والقوة في نفسه ولا يعلم. هذا الشعب قديم. جيء
بفلاح من هؤلاء واخرج قلبه تجد فيه رواسب عشرة ألاف سنة من تجارب ومعرفة بعضها فوق
بعض ولكنه لا يدري. نعم هو يجهل ذلك ولكن هناك لحظات حرجه تخرج فيها هذه المعرفة
وهذه التجارب فتسعفه وهو لا يعلم من أين جاءته!؟
هذا ما يفسر لنا نحن الأوروبيين تلك اللحظات من التاريخ التي نري فيها مصر
تطفر طفرة مدهشة في قليل من الوقت وتأتي بأعمال في طرفة عين. كيف تستطيع ذلك ان لم
تكن تجارب الماضي الراسية قد صارت في نفسها مصير الغريزة تدفعها الي الصواب
وتسعفها في الأوقات الحرجة وهي لا تدري.
لا تظن ان هذه الآلاف من السنين التي هي ماضي قد انطوت كالحلم ولم تترك أثرا
في هؤلاء الأحفاد.
أين إذن قانون الوراثة الذي يصدق
حتي علي الجماد؟
ولإن كانت الأرض والجبال إن هي الا وراثة طبقة عن طبقة، فلماذا تستكثروا
هذا علي الشعب القديم الذي لم يتحرك من أرضه منذ ألاف السنين ولم يتغير جوهره أو
طبيعته؟
نعم إن أوروبا سبقت مصر اليوم، ولكن بماذا؟ بذلك العلم المكتسب فقط
ان كل ما فعلناه نحن الأوربيين الحديثي النشأة ان سرقنا من تلك الشعوب
القديمة هذا الرمز السطحي دون الكنز الدفين. لذلك جيء بأوروبي وافتح قلبه تجده
خالياً خاويا. الأوروبي انما يعيش بما يلقن ويعلم في صغره وحياته لانه ليس له تراث
وماض يسعفه غير ان يعلم. احرم الأوروبي من المدرسة يصبح اجهل الجهلاء.
قوه أوروبا الوحيدة في العقل تلك، الإله المحدودة التي يجب ان نملأها نحن
بإرادتنا، أما قوة مصر ففي القلب الذي لا قاع له.
ان الفاسد في أخلاق مصر ليس من مصر بل أدخلته عليها الأمم الغازية كالبدو والأتراك
ومع ذلك فلا يؤثر في جوهرها العميق الراسخ الموجود دائما في أبناءها.
احترسوا يا أوربيين من هذا الشعب فهو يخفي قوة نفسيه هائلة يخفيها في
البئر العميق الذي خرجت منه قوته علي بناء هذه الأهرامات الثلاث والتي قال عنها
العالم الأثري الفرنسي موريه (انه حلم فوق مستوي البشر).
وهذا البئر العميق إنما هو القلب المصري.
بالفعل لنا العذر ان لا نفهم هذا. ان لغتنا نحن الأوروبيين لغة المحسوسات،
اننا لا نستطيع ان نتصور تلك العواطف التي كانت تجعل من هذا الشعب كله فردا واحدا
يستطيع حمل الأحجار الهائلة عشرين عاما وهو باسم الثغر مبتهج الفؤاد راض بالألم في
سبيل المعبود خوفو وهو رمز الغاية. هذه العاطفة عاطفة السرور بالألم الجماعي؛
عاطفة الصبر الجميل والاحتمال الباسم للأهوال من اجل سبب واحد مشترك؛ عاطفة الإيمان
بالمعبود والتضحية والاتحاد في الألم بغير شكوي ولا أنين.
هذه هي قوتهم. ان هذه العواطف التي شيدت الأهرامات، والا فكيف كنت تريد ان
يبني هذا الشعب بناء كهذا ان لم يكن هذا الشعب قد تحول الي كتلة آدمية واحدة
تستعذب الألم في سبيل خوفو ممثل المعبود رمز الغاية.
ان هذا الشعب المصري الحالي مازال محتفظاً بتلك الروح (روح المعبد). لا
تستهن بهذا الشعب المسكين اليوم ان القوه كامنة فيه ولا ينقصه الا شئ واحد:
(المعبود ممثل الغاية)
نعم ينقصه ذلك الرجل منه الذي تتمثل فيه كل عواطف الشعب وأمانيه ويكون هو
رمز الغاية. عند ذاك لا تعجب لهذا الشعب المتماسك المتجانس المستعذب والمستعد
للتضحية إذا أتي بمعجزة أخري غير الأهرامات.
0 تعليقات