بقلم د. مصطفى
يوسف اللداوي
ما من دولةٍ في
العالم إلا باتت تتخوف من فيروس كورونا وتحذر منه وتحتاط له، وتخشى من انتقاله إلى
شعبها وانتشاره في بلادها، فعمدت إلى إغلاق حدودها البرية والبحرية، وأوقفت
رحلاتها من وإلى الدول الموبوءة والمشتبه فيها، ومنعت مواطني بعض الدول من الدخول
إلى بلادها، وفرضت شروطَ الحجر المنزلي على مواطنيها العائدين إلى بيوتهم،
وأخضعتهم للمراقبة والمتابعة، واتخذت مجموعةً من الإجراءات الاحترازية الداخلية،
فأغلقت المدارس والجامعات، ومنعت التجمعات والتظاهرات، وأصدرت قراراتٍ صارمةٍ بمنع
المؤتمرات والأنشطة الثقافية الواسعة، والحفلات الفنية والموسيقية، والمباريات
الرياضية الحاشدة، وغيرها من الأنشطة التي تتطلب جمهوراً كبيراً، وتفترض احتكاكاً
مباشراً وجلوساً متقارباً، تختلط فيه الأنفاس وتتلامس معه الأجساد، وتزداد
احتمالية انتقال الفيروس من خلال الاحتكاك والهواء والرذاذ.
بات هذا المرض رعباً
يخيف البشرية ويرعب سكان الأرض كلها، بعد أن انتشر في أكثر من مائة دولة، وما زال
يتسع ويتمدد ويزداد وينتشر، وتتضاعفت أعداد ضحاياه إصابةً ووفاةً، فيما لا يبدو أن
السيطرة عليه قريبة أو سهلة، أو أنها ممكنة علمياً وستنجح، وإن كانت تبدو متأخرة
ومتعذرة، وتتطلب المزيد من الأبحاث والتجارب والدراسات، وحتى ذلك الحين فإن
البشرية كلها ستبقى خائفة وقلقة، وتضع يدها على قلبها خوفاً وفرقاً، فما هو آتٍ قد
يكون أكبر من الواقع الحالي اليوم، فالاحصائيات تشير إلى أن الخط البياني للإصابة
بالمرض في ازديادٍ مستمر، وأن معدلات الشفاء منه غير مؤكدة، وحالات الوفاة بسببه
مستمرة.
لكن كورونا لم تصب
الأجساد فقط، ولم توهن القوى وتضعفها، ولم تزهق حياة البعض وتنهيها، بل أصابت
العالم كله بمرض العزلة والانفصال، والإقصاء والإبعاد، والحجر والانطواء، ولم تعد
المجتمعات قادرة على التداخل والتفاعل، والاختلاط والتزاور، وبات الكل يحرص على
البقاء وحيداً، لا يخالط أحداً ولا يصافحه، ولا يزوره ولا يسلم عليه، ولا يرحب به
ضيفاً ولا يأنس به جاراً، ولا يشاركه رحلةً ولا يرافقه في سفرٍ، ولم يعد الناس
يتعاطفون مع المرضى ويواسونهم، أو يساعدونهم ويسرون عليهم، بل باتوا يطردونهم
ويبتعدون عنهم، ويقصونهم ولا يقتربون منهم، ويطلبون من الجهات الرسمية المختصة
التحفظ عليهم وعزلهم، إذ باتوا وباءً يرعبُ، ومرضاً يعدي، وموتاً يترقب ويتربص،
ولا يوجد في المجتمع من يضحي بنفسه أو يغامر بحياته، الأمر الذي من شأنه أن يفكك
المجتمعات، وأن ينهي على الروابط الأسرية والاجتماعية والوطنية.
لم تتوقف كورونا عند
الظواهر الاجتماعية التي خلقتها، والعادات السيئة التي فرضتها، بل تعدت ذلك إلى
الاقتصاد العالمي والتجارة البينية، وإلى سوق السلع والبضائع المنتجات، فتوقفت
الكثير من المبادلات التجارية، وتعطلت الصفقات وألغيت، وتجمدت المشاريع وتأجلت،
حتى تلك التي تتم عبر النت ومن خلال التواصل عن بعدٍ فقد طالها الأثر وشملها
الحظر، وبات من المتعذر الشراء من بلادٍ معينةٍ، أو السماح بمرور منتجاتها إلى
بلادٍ أخرى، ما أدى إلى تدهورٍ عامٍ في الاقتصادٍ، وركودٍ في التجارة، وانخفاضٍ في
أسعار النفطة ومشتقاته، التي لعب وقفُ الرحلات الجوية وجمودُ حركة الملاحة الجوية
في الاستغناء عنه والتوقف عن عقدِ صفقاتٍ جديدةٍ لشرائه، وهو ما قد يتسبب في خلق
حالة ركودٍ وكسادٍ عالميةٍ غير مسبوقةٍ.
أما الأطباء
والمسعفون وهيئات الدفاع المدني، والمولجون بقضايا الصحة العامة والرعاية
الاجتماعية، فقد باتوا يترددون في تقديم المساعدة، ومد يد العون والرعاية لمن
يحتاجها من المصابين أو المشتبه بهم، مخافة انتقال العدوى إليهم وإصابتهم وربما
التعجيل في موتهم، خاصةً بعد الإعلان عن وفاة الطبيب الصيني الذي اكتشف الفيروس
وحذر منه، وإصابة العشرات من الأطباء والممرضين وغيرهم من العاملين في المستشفيات
والمراكز الصحية، الذين أصبح لزاماً عليهم أم يحجروا أنفسهم وينعزلوا بدورهم عن
عامة الناس وأهليهم وأقربهم إليهم، وهو الأمر الذي من شأنه أن يجعل من مهمة التصدي
للمرض والتعامل معه مهمةً صعبةً، إذ أن سبل الحد من انتشاره غير سهلة، وطرق انتقال
عدواه كثيرة وعديدةٌ.
يبدو أن كورونا ستعيد
صياغة العلاقات الدولية، وستنظمها من جديدٍ وفق قواعد صحيةٍ وأخلاقيةٍ مغايرة لتلك
التي كانت قائمة على أساس المصالح والمنافع، ووفق العقائد والتحالفات والقواسم
المشتركة، وقد تتسبب في توتير العلاقات وقطعها، وفي خلق أزماتٍ دوليةٍ وتحدياتٍ إقليمية،
وذلك في ظل حرب الاتهامات المتبادلة، وسياسة تصنيف البلدان والشعوب، وإغلاق الحدود
والبوابات، وطرد الوافدين ومنع الزائرين، ووقف الرحلات الجوية والتجارة البينية،
وقد تقود إلى إعادة رسم الحدود وتبادل العلاقات الدبلوماسية، إذ لن تقبل بلادٌ على
تصنيفها، ولن ترض عن عزلها، ولن توافق على التعامل معها على أنها موبوءة، أو أنها
مصدر الوباء ومحل الخطر.
فهل تتعاون دول
العالم فيما بينها، ومعها منظمة الصحة العالمية، ومختلف مراكز البحوث والمختبرات
الطبية والصحية، لمواجهة هذا الخطر الداهم والتصدي له، ومحاولة إيجاد علاجٍ ناجعٍ
له، ودواء شافٍ منه، أم أن من خَلَّقَ الفيروس ونشره، وعرف مضاعفاته وأطلقه، يريد
أن يستمر في هذه اللعبة الخطرة، التي تستهدف الإنسان عامةً وتكاد تقضي على نسبةٍ
كبيرةٍ منه، وكأن الذين قالوا بالمليار الذهبي البشري يسعون لتحقيق هدفهم، ويصرون
على مواصلة مشروعهم، لخلق عالمٍ غنيٍ صحيٍ قويٍ ذكيٍ قليل العدد، بينما يفنى
الضعفاء والفقراء والمرضى ويذهبون، وينعم الباقون بخيرات الأرض ونِعَم السماء.
0 تعليقات