آخر الأخبار

التصوف الفاطمي في المغرب العربي تعايش وتسامح ورفض التعصب الوهابي (1)













بقلم / محمود جابر


أطلق المؤرخون المسلمون اسم المغرب على الأراضي الواقعة في شمال أفريقيا، وهي أراضٍ تمتد على طول سواحل البحر المتوسط بين طرابلس وشواطىء المحيط الأطلسي ، وحدود هذه المنطقة الشاسعة هي البحر الأبيض المتوسط شمالاً والمحيط الأطلسي غرباً والصحراء الكبرى جنوباً .



فالمغرب العربي بكامله يشكل وحدة جغرافية طبيعية على مدى أربعة آلاف كيلومتر ، تخترقها سلسلتان متوازيتان من الجبال . ففي الشمال، وعلى محاذاة البحر المتوسط تمتد الشمالية الغربية من الأطلس حتى وفي الجنوب تمتد جبال أطلس الصحارى من ليبيا حتى تونس رابطة البلدان الأفريقية الشمالية بعضها ببعض . وتتكون فى بعض منخفضات هذه الجبال سهول طويلة شديدة الخصوبة وفيرة المياه.


تبعت بلدان المغرب ، منذ سقوط الإمبراطورية الرومانية إلى أن غزاها البيزنطيون وأقاموا على الشواطىء الشمالية مرافىء حربية وقواعد عسكرية، وكان نفوذ البيزنطيين قوياً في السهول الساحلية بينما ضعف واختفى في الداخل وعلى الجبال وظل البربر بشكل عام يشكلون السواد الأعظم من سكان المغرب على طول امتداده .


والبربر، قوم من أصول سامية، وكانوا ينقسمون إلى مجموعتين رئيستين:
الأولى:البربر البرانسة الذين انتشروا على السواحل وفي المدن الكبرى واعتمدوا بصورة أساسية على الزراعة.


الثانية :البربر البتر وهم سكان المناطق الداخلية وكان يغلب عليهم الطابع البدوي.



كانت كل مجموعة تضم عدداً كبيراً من القبائل . وكانت قبيلة صنهاجة أهم وأكبر القبائل البرانسة، وبالمقابل كانت زنانة بفروعها العديدة أهم قبائل البتر، ورحل كثيرون من قبائل البتر مع وصول الإسلام إلى شبه الجزيرة الايبرية واندمجوا مع البيئة الأندلسية .


اندمج البربر مع العرب عند وصول هؤلاء إلى المغرب واعتنقت غالبيتهم الدين الإسلامي ، بينما ظلت المسيحية سائدة بين الجاليات البيزنطية في المدن الكبرى والسواحل الشمالية ، واعتنق بعض البربر من البرانسة هذه الديانة، ولكن الوجود المسيحي المنقسم على نفسه لم يتمكن من الصمود أمام المد الإسلامي الجديد . وفي الداخل المغربي ، فان الوثنية كانت هي السائدة بين عامة السكان ، وهي وثنية على كثير من البدائية ارتكزت على عبادة بعض الظواهر الطبيعية أو القوى الخارقة.



امتدت الدولة الإسلامية في عهد الخليفة عثمان بن عفان (23-35 هـ) إلى طرابلس غربا، وكانت الحملات الاستطلاعية الأولى التي قامت بها الجيوش الإسلامية باتجاه بلاد المغرب منذ سنة 27 هـ تهدف إلى اختبار الجيش البيزنطي الذي تراجع نحو المناطق الشمالية لإفريقية، غير أن فتح بلاد المغرب استغرق فترة زمنية طويلة نسبيا تعددت خلالها الحملات إلى حين وصولها إلى المغرب الأقصى والأندلس. ومهّد هذا الفتح إلى تلاقح الثقافتين الإسلامية والإفريقية مما أفرز تحولات حضارية جذرية شملت جميع المجالات الثقافية والعلمية والاجتماعية والعمرانية أدخلت بلاد المغرب كطرف فاعل في الحضارة الإنسانية.


وفي سنة 82 هـ دارت معركة بوسط إفريقية انتهت بانتصار المسلمين وفتح كامل بلاد المغرب من جديد وساهم هذا الانتصار في نشر الإسلام واللغة العربية في صفوف القبائل البربرية.


وبشكل عام فإن عملية فتح بلاد المغرب كانت صعبة وبطيئة استغرقت حوالي نصف قرن متأثرة بأزمات الخلافة الإسلامية بالمشرق وكذلك بمحاولات التصدي التي تزعمها بعض القادة من البربر ودعمها الروم البيزنطيون.



شهد المغرب الإسلامي نهضة علمية تبرز معالمها من خلال تعدد مراكز العلم كجامع عقبة بالقيروان وجامع الزيتونة بتونس وجامع القرويين بفاس وجامع قرطبة بالأندلس... وقد اشتهر الولاة والأمراء بحذقهم للعلوم واللغات والفنون والآداب مثل إبراهيم بن الأغلب الذي أجاد الشعر والبلاغة والمعز لدين الله الفاطمي الذي تكلم عدة لغات كالبربرية والرومية والسودانية والحاكم بأمر الله كمثال نموذجي للحاكم المثقف. وبرز في إفريقية العديد من العلماء المتخرجين من جامعة القيروان فاشتهر في اللغة والأدب ابن الطرماح وأحمد اللؤلؤي ومحمد بن جعفر القزاز، وفي الفلسفة أبو بكر القمودي وسعيد بن الحداد.



كما تأسست بالقيروان مدرسة للطب واشتهر فيها عدد من الأطباء مثل اسحاق بن عمران ومحمد بن الجزار وخاصة أحمد بن الجزار صاحب كتاب " زاد المسافر"، كما تطور علم الجغرافيا واستغل في أغراض تطبيقية كالتجارة، وعلم التاريخ والأنساب وقد اشتهر فيه ابن حيان وابن حزم القرطبي والقاضي النعمان.


وقد ساهم الغرب الإسلامي مساهمة فعالة في إثراء الحضارة الإسلامية خاصة في المجال الفكري فبرز العديد من المفكرين ومن أبرزهم ابن رشد الفقيه والقاضي والفيلسوف والطبيب الذي ولد سنة 530 هـ/1126 م بقرطبة وعاصر الفيلسوف ابن طفيل والطبيب ابن زهر، وعاش ابن رشد بين الأندلس والمغرب الأقصى وألف العديد من الكتب أهمها "تهافت التهافت" و"فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال" و"الكشف عن مناهج الأدلة في عقائد الملة" و"الكليات في الطب" وصنّف فيه ابن رشد الأدوية حسب فعالياتها وآثارها. كما شرح ابن رشد فلسفة أرسطو ونقلها إلى الغرب ولخص مؤلفات جالينوس في الطب وأقبل الغرب المسيحي على مؤلفاته باعتباره أبرز مفكري التيار العقلاني داخل الفكر العربي الإسلامي ومرجعا هاما في الفكر الأوروبي فشكل بذلك نقطة تواصل وتفاعل بين الثقافتين الإسلامية والمسيحية.


كما أفرزت الحضارة الإسلامية ببلاد المغرب عالما اشتهر بمؤلفاته الجغرافية رغم أنه كتب في علم النبات والأدوية وهو "الإدريسي" الذي ولد في مدينة "سبتة" بالمغرب الأقصى في أواخر القرن الخامس هجري وتنسب عائلته إلى (الأشراف الأدارسة العلويين) ودرس في قرطبة ثم تنقل في عدة بلدان وألّف عدة كتب من أهمها "نزهة المشتاق في اختراق الآفاق" و"الأدوية المفردة". وأسس الإدريسي جغرافيته على مفاهيم علمية صحيحة أهمها (كروية الأرض) ووجود (خط الاستواء) و(الأقاليم المناخية) وتأثير الجبال في تكييف المناخ وتوجيه الرياح ونزول الأمطار، كما أنجز الإدريسي (خريطة العالم) المعروف في ذلك الوقت على شكل كروي وذلك قبل أن يثبت العلم الحديث صحة هذا الشكل.


وتجاوز الإشعاع العلمي لبلاد المغرب حدود المنطقة الإفريقية حيث انتقل الإدريسي إلى جزيرة صقلية وعاش في قصر ملكها روجار الثاني الذي كلفه بتأليف كتاب شامل في وصف مملكته والبلدان المعروفة في ذلك العهد. وقد أشار ابن خلدون إلى تلك العلاقة حينما كتب "ونحاذي بذلك ما وقع في كتاب نزهة المشتاق الذي ألفه العلوي الإدريسي الحمودي لملك صقلية من الإفرنج وهو روجار بن روجار عندما كان نازلا عليه بصقلية... وكان تأليفه للكتاب في منتصف المائة السادسة وجمع له كتبا جمّة للمسعودي وابن خرداذبة والحوقلي وابن إسحاق المنجّم وبطليموس والعذري وغيرهم..." [1].



ولم يقتصر دور الحضارة العربية الإسلامية ببلاد المغرب على العلوم والثقافة بل تجاوز ذلك إلى الفنون والعمران بما جعله قادرا على الإسهام في تطوير التراث الإنساني وإثرائه بإضافات بناءة كانت منطلقا للنهضة الأوروبية الحديثة.



 ازدهار فن العمارة الإسلامية ببلاد المغرب شهد الغرب الإسلامي نهضة عمرانية لم يسبق لها مثيل تميزت بتعدد المدن إلى حد بروز شبكة حضرية متكونة من مدن كبرى ووسطي وصغرى، واشتهرت المدن الهامة بتنوع خصوصياتها المعمارية كالجوامع والقصور المتميزة بأشكالها الفنية المزخرفة.



[1] - ابن خلدون، المقدمة، ص 68

إرسال تعليق

0 تعليقات