آخر الأخبار

فقه أصول المنهج (2)









علي الأصولي



قال الماتن:


فإن قلت : أن لها أصناف: وهو الانقسام إلى المادة والهيئة، في كل من الأوامر والنواهي،

قلنا : لا جامع بين المادة والهيئة، لكي يصح التعبير عنه بالجمع، لأنهما من مقولتين مختلفتين، فالمادة من مقولة الكم، باعتبار تعدد الحروف والهيئة من مقولة الكيف، ولا جامع بين المقولات،


فإن قلت : نعم، ولكن الجمع على تقدير تكرار المفرد، فيمكن أن نقصد من كل منهما أحداهما، اعني المادة والهيئة، ولهذا ورد في عنوانهم مجموعا،


قلنا : كلا، فإن الجمع لا يكون عرفا إلا لمفردات متشابهة في المعنى لأن الجمع هيئة تكثيرية، لمفرد واحد هز مادته، فيكون المراد جمع مضمون تلك المادة، والمفروض أن تلك المادة لا تدل على الحصتين معا، لأنه لا جامع بينهما، كما لا تدل على مجموعها، وإلا لزم استعمال اللفظ في معنيين متباينين،

وعلى العموم ثبت في محله أن استعمال اللفظ في أكثر من معنى متعذر عرفا، مفردا كان اللفظ أو مثنى او مجموعا، فلا يفيد الجمع للدلالة عليها، كما لا يفيد المفرد أيضا، بل لا بد من عزل المادة عن الهيئة بعنوان مستقل، وإنما ذكرناه هنا كما ذكروه، من باب التشرف بالمتابعة،


أقول: ( حاول الماتن أن يوجه كلام من استعمل العنوان بصيغة الجمع كما عرفت سابقا، بدعوى يمكن تصور الأصناف بعد لحاظ انقسام المادة والهيئة، كما في حصة الأوامر وحصة النواهي، بصرف النظر عن ماهية المادة التي هي الحروف المؤلفة وماهية الهيئة التي هي صيغة الحروف المؤلفة، وبصرف النظر عن مادة الأمر التي هي - أ م ر - وهيئته التي هي - صيغته كافعل - وبصرف النظر عن مادة النهي التي هي كمادة الأمر - ن ه ي - وهيئته أو صيغته - وهي كل صيغة تدل على طلب الترك؛ فبصرف النظر عن كل ذلك للمدعي ان يقول بإمكانية الأصناف بلحاظ الانقسام،


وهذا الادعاء، المفترض: مخالف لكبرى عرفية أولا: وبالذات وهو تعذر استعمال اللفظ الواحد في أكثر من معنى، وثانيا: عدم وجود جامع مقولي بين المادة والهيئة، لأن مقولة المادة من مقولة الكم المنفصل وهو العدد، ومقولة الهيئة من مقولة الكيف، المختص بالشكل، وكلا المقولتين لا جامع مشترك بينهما، كما هو مقرر في محله عند أهل المعقول، ولذا عبروا عن المقولات العشرة أو الأجناس العالية بأبيات شعرية مشهورة بينهم :

زيد طويل ازرق بن مالك _ في داره بالأمس كان متكي

في يده سيف لواه فالتوا _ فهذه عشر مقولات سوى

فزيد إشارة إلى الجوهر وطويل إشارة إلى مقولة الكم وازرق إشارة لمقولة الكيف وابن مالك إشارة إلى مقولة الإضافة، وفي داره إشارة إلى مقولة الأين، وبالأمس إشارة إلى مقولة المتى، وكان متكي إشارة إلى مقولة الوضع، وفي يده سيف إشارة إلى مقولة الملك، ولواه إشارة إلى مقولة الفعل، والتوى إشارة إلى مقولة الانفعال، فتلك عشرة كاملة على ما أفادوا بالفلسفة والمنطق،

شاهد المقام: أن الملاحظ عدم وجود جامع بين مقولة المادة ومقولة الهيئة - أوامر كانت أو نواهي - وعليه لا يصح الاستدلال على وجود الأصناف بدعوى الانقسام كما عرفت، لعدم وجود جامع ذاتي ماهوي،

قال الماتن:

ثم إن الأصوليين ، بما فيهم صاحب الكفاية - قالوا هنا: إن الكلام يقع في جهات:

الجهة الأولى: في مادة الأمر،

وهي لفظ الأمر، ومن الواضح وجود الأثر الشرعي له، لأنه ورد في السنة بعدة ألسنة، نحو : إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا بلغ الصبيان سبعا فمروهم بالصلاة،

ثم أنهم - مقدمة للنتائج الآتية - صاروا بصدد تعيين معنى الأمر لغة واصطلاحا،

أما المعنى اللغوي: فيبدو أن بعض الأصوليين حاول استقصاء المعاني اللغوية، مما لا حاجة إلى سردها هنا، وهو فن قائم بذاته، إلا أنه لا أثر له فقهيا، مضافا إلى إمكان القول بأن هناك قرائن في كل استعمال على حده في الروايات،

مضافا إلى أنه يحتمل في تلك المعاني وجود الحقيقة والمجاز، وكون الظهور سياقيا ولو بقرائن حالية أو مقالية، كما حصل في معنى - الغرض - كما في قولنا : جاء زيد لأمر كذا اي لغرض كذا، فإنه مضافا إلى أنه من نحت الأصوليين، ولم يثبت ورود مثل هذا الاستعمال من العرب،

إستشكل عليه الشيخ الآخوند: بإن الغرض مستفاد من - اللام - ويكون الأمر، وهو مدخوله مصداقا له، ثم آمر بالفهم، إشارة إلى كفاية ذلك في معنى الغرض لصحة وروده في هذا المعنى ولو في الجملة، يعني الأعم من المفهوم والمصداق،

أقول: ( إن الماتن سار في كتابه - منهج الأصول - على وفق العرض المنهجي الذي سار عليه الآخوند في - الكفاية - وقد ذكر هذا المعنى في بداية الكتاب من الجزء الأول، ولذا ذكر أن المتابعة - في نهاية عرض مسألة الإشكال الشكلي - وضرورة عزل المادة عن الهيئة - من باب التشرف –

بعبارة أخرى: بعد أن ناقش الماتن مسألة الإشكال الشكلي، سالف الذكر كان من المفترض عليه ووفقا للنتيجة التي توصل لها في بحثه ان يعزل المادة عن الهيئة، ولكنه ووفقا للتشرف بمتابعة الأصوليين ومنهم الآخوند الخرساني لم يعزلها بعنوان مستقل،

على أي حال: سارت البحوث الأصولية عرض جهات البحث وأولها، في مادة الأمر، التي هي من الأهمية بمكان بلحاظ ترتب الأثر الشرعي على هذه المادة، ووجودها في النص الروائي بعدة ألسنة، وقد ذكر مثالين على ذلك، إذ أن المثال الأول يستفاد منه الوجوب والثاني يستفاد منه الاستحباب والجامع هو مادة الأمر بين النصين،


ومن هنا تم البحث اللغوي والبحث الاصطلاحي، لتعيين وتشخيص معنى الأمر،

وعاتب بعض الأصوليين على محاولة استقصاء المعاني المرتبطة بالأمر لغويا، بدعوى عدم الثمرة الفقهية في البين، وأن قيل أن البحث ضرورة لتعيين النص الروائي الذي يرد فيه لفظ الأمر،

ذكر الماتن، عدم ضرورة ذلك بعد ملاحظة أن كل استعمال يفهم منه بالقرائن على مراده في نفس الروايات،


ويبدو لي أن انعدام الثمرة الفقهية لا يلزم منه انعدام الثمرة النظرية، فيمكن توسعت البحث النظري بدون النظر لنتائجه الفقهية، خاصة وأن الماتن من الدعاة إلى توسعت مباحث الأصول وتعميقها خلافا لما ذهب إليه جماعة من الأعلام وضرورة التهذيب،


وقد احتمل، في تلك المعاني وجود الحقيقة والمجاز

وكون الظهور السياقي ولو بمعية قرينة الحال وقرينة المقال الدالة عليه، كما في - الغرض - ومعناه وقولهم - جاء زيد لأمر كذا - أي لغرض كذا - فهو من نحت - أي اختراع الأصوليين - ولم يثبت هذا الاستعمال عند العرب،

وإستشكل عليه الشيخ الآخوند: بإن الغرض مستفاد من - اللام - ويكون الأمر، وهو مدخوله مصداقا له، ثم آمر بالفهم، إشارة إلى كفاية ذلك في معنى الغرض لصحة وروده في هذا المعنى، ولو في الجملة، يعني الاعم من المفهوم والمصداق،

إلا أنه لا يتم على كما هو المعلوم بلحاظ أن المدخول هو ذات الغرض والغرضية المستفادة من - اللام - صرفا،

ومثل له، كما لو قلنا جاء زيد للتصدق، على أن الاستعمال اعم من الحقيقة، وليس من اشتباه المفهوم بالمصداق، لأن ليس له مصداقا أصلا بدون - اللام –

بعبارة أخرى: ذكروا جملة من المعاني لكلمة أمر، ( كالشيء ) و الشأن ) و ( والغرض ) و ( الحادثة ) و ( الفعل ) و ( الطلب ) ولكن بعض المعاني المذكورة لمعنى الأمر، ذكروها من باب اشتباه المفهوم بالمصداق، ففي قولك - جئتك لأمر كذا - فإن الغرض يستفاد من - اللام - ولولا وجود - اللام - لما أمكن استفادة معنى - الأمر - يعني ان واقع الاستفادة ليس من الأمر بما هو أمر، بل إن لفظ الأمر هنا ليس مفهومه إلا الشيء، وهذا الشيء تمصدق في الغرض،

إذن الماتن: ذكر ان أن الاستعمال اعم من الحقيقة، وليس من باب اشتباه المفهوم بالمصداق، وقد ذكر أهل الفن ان منشأ القول بأن الغرض وكونه أحد حصص معاني الطلب، فبالتالي الطلب يدل على الغرض، وبهذا حصل الاشتباه المفهومي والمصداقي، وصوروه على أن مصداق الغرض يفهم منه الطلب، ولذا قالوا ان الغرض أحد معاني الأمر،

واعترض على هذا القول، بما حاصله: أن هذا محض اشتباه وخلط بين المفهوم والمصداق، حيث حسبوا ان المصداق الغرضي هو نفس المفهوم الغرضي، ولذا فهم على أن الأمر استعمل في مفهوم الغرض،
وكيف كان: أن هذا الاشتباه منشئه التردد بين المفهوم والمصداق، وأي منهما هو الأصل، فهل الأصل هو المفهوم أو أن الأصل فيها هو المصداق؟


فإن قلنا الأصل هو الأول أي المفهوم: فالمعترض، أبطل هذا الأصل بإبطال القاعدة - اشتباه المفهوم والمصداق –


وإمكانية الاستفادة من الغرض لمدخول الغرضية هو الاستفادة من - اللام - وبهذا نفى الماتن - اشتباه المفهوم والمصداق - من أساس، وبطلان دعوى الآخر، هو أن الاستعمال اعم من الحقيقة والمجاز )

قال الماتن:

إلا أن هذا لا ينتج استعراض المعاني اللغوية الأساسية، لا أثر له، وإن كان التوسع في ذلك لا أثر له، وإنما لا بد من البرهنة على ما هو أساسي لكي نفهمه، من مادة الأمر الواردة في الكتاب والسنة، وأول ما يبدو للنظر في مادة الأمر، ان لها جمعين: أمور وأوامر، ولا ثالث، وهذا يعطي بدويا نتيجتين:

النتيجة الأولى: إن الأمر موضوع بنحو الاشتراك اللفظي لمفرديهما، إذ لو كان اشتراكا معنويا لكفى جمع واحد، ولو كان موضوعا لأكثر من معنيين بالاشتراك اللفظي، لما كفى جمعان،

النتيجة الثانية: أنهم قالوا: أن معنى مفرد - أمور - هو الشيء ومعنى مفرد - أوامر - هو الطلب، فيكون مؤدى الجمع الطلبات، وهذا هو معنى الأمر الذي عنونوا به الباب،

ولذا ذهب صاحب - الكفاية - إلى أن الأمر موضوع حقيقة، في الطلب والشيء، في الجملة وهذا صحيح ما لم تقم القرائن على نفيه،

أقول ( لما عرفت ان معنى للفظ الأمر في اللغة له أكثر من معنى كالشأن والفعل والحادثة ونحو ذلك،

إلا أن مقتضى الأصل هو عدم التعدد، إلا فيما لا يمكن إرجاعه إلى جامع عرفي قريب، وفيما أمكن من ذلك يكون من المشترك المعنوي لا اللفظي، على راي بعض الأعلام وذهب آخرون إلى أن كل المعاني من المشترك المعنوي، لعدم تصور الجامع العرفي القريب، والاشتراك اللفظي بعيد جدا، ولذا تجد أن الماتن، ذكر بحسب النتيجة الأولى وهي ان الأمر موضوع بنحو الاشتراك اللفظي لمفرديهما، إذ لو كان اشتراكا معنويا لكفى، جمع واحد، ولو كان موضوعا لأكثر من معنيين بالاشتراك اللفظي، لما كفى جمعان،

بينما في النتيجة الثانية، ومختار المحقق الخراساني على أن الأمر موضوع حقيقة في الطلب والشيء في الجملة، بشرط عدم وجود قرائن نافية، ومن هنا تعرف لم قال في الجملة لا بالجملة،


تفصيل مهم: المحقق النائيني ذكر، ان الاشتراك اللفظي بعيد لا يمكن المصير إليه، ومن هنا لا بد من الالتزام بالاشتراك المعنوي، والعجز عن تعيين الجامع العرفي القريب الذي ينطبق على جميع هذه المعاني، لا يدل على عدم وجوده، بل من الممكن وجوده غايته لا ندري به، وانطباق لفظ الأمر لموضوع واحد وهو الواقعة التي لها أهمية في الجملة، وهذا المعنى قد ينطبق على الحادثة وقد ينطبق على الشأن وقد ينطبق على الغرض، و هكذا نعم: لابد وأن يكون المستعمل فيه من قبيل الأفعال والصفات، فلا يطلق على الجوامد، بل يمكن أن يقال أن الأمر بمعنى الطلب أيضا من مصاديق هذا المعنى الواحد، فانه أيضا من الأمور التي لها أهمية، فلا يكون للفظ الأمر إلا معنى واحد تندرج فيه كل المعاني المذكورة، وتصور الحل مع القريب وأن كان صعبا، إلا أننا نرى بالوجدان ان الاستعمال في جميع الموارد بمعنى واحد، ومعه ينتفي الاشتراك اللفظي.




إرسال تعليق

0 تعليقات